بازگشت

كيف كان الامام يقضي أيام سجنه


خلقت الأرض كلها في نظر الامام لتكون معبدا و مسجدا - كما جاء في حديث رسول الله (ص) - و وجدت الدنيا لتكون محرابا للعبادة



[ صفحه 109]



و مجالا للتسبيح و التقديس، و رحلة للتقرب الي الله سبحانه و الوصول الي معرفته، فلا تتغير عليه الأحوال، و لا تختلف لديه الأماكن، بل كلما ضاقت عليه حلقات المضيق، و عظمت الشدائد، و تراكمت المحن ازداد قربا من الله، و استعانة بالصبر و الصلاة، فلقد اتخذ الامام من السجن مسجدا، و من وحشة الحبس و وحدته معتكفا و مأنسا بذكر الله و قربه سبحانه، فنهاره صيام و ليله مناجاة و قيام.

فقد روي أحد الذين كلفوا بمراقبة الامام في سجن عيسي بن جعفر أنه سمع الامام يقول:

(اللهم انك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، و قد فعلت ذلك فلك الحمد). [1] .

و لما كان ذلك دأب الامام و ديدنه، فقد كتب عيسي بن جعفر الي الرشيد قائلا، بعد أن قضي عنده في السجن سنة:

(خذه مني، و سلمه الي من شئت، و الا خليت سبيله، فقد اجتهدت أن آخذ عليه حجة فما... علي ذلك، حتي اني لأتسمع عليه اذا دعا لعله يدعو علي أو عليك، فما أسمعه يدعو الا لنفسه، يسأل الله الرحمة و المغفرة). [2] .



[ صفحه 110]



و عن أحمد بن عبدالله عن أبيه قال:

(دخلت علي الفضل بن الربيع و هو جالس علي سطح، فقال لي: أشرف علي هذا البيت، و انظر ماذا تري؟ فقلت: ثوبا مطروحا. فقال: انظر حسنا، فتأملت، فقلت: رجل ساجد. فقال لي: أتعرفه؟ هو موسي بن جعفر، أتفقده الليل و النهار، فلم أجده في وقت من الأوقات الا علي هذه الحالة، انه يصلي الفجر فيعقب الي أن تطلع الشمس، ثم يسجد سجدة، فلا يزال ساجدا حتي تزول الشمس، و قد و كل من يترصد أوقات الصلاة، فاذا أخبره و ثب يصلي من غير تجديد وضوء، و هو دأبه، فاذا صلي العتمة أفطر، ثم يجدد الوضوء، ثم يسجد فلا يزال يصلي في جوف الليل حتي يطلع الفجر). [3] .

و اضيف في رواية اخري:

(فهذا دأبه منذ حول الي). [4] .

و جاء في «بحارالأنوار»:

(... فأمر بتسليم موسي الي الفضل بن يحيي، فجعله في بعض دوره، و وضع عليه الرصد، فكان مشغولا بالعبادة، يحيي الليل كله: صلاة، و قراءة للقرآن، و يصوم النهار، في أكثر الأيام، و لا يصرف وجهه



[ صفحه 111]



عن المحراب، فوسع عليه الفضل بن يحيي و أكرمه). [5] .

و هكذا كان الامام يؤثر في سجانيه و جلاديه، فقد كان يقضي أوقاته في السجن دعاء و مناجاة و استغفارا، و ركوعا و سجودا و تفرغا للذكر و العبادة، و هو يعتبر ذلك منة من الله و رحمة، اذ فرغه لعبادته، و استخلصه لنفسه.

أي رجل هذا، و أية قوة يمكنها أن تقهره. لقد كان نور قلبه يزيح ظلمات السجون، و صلابة صبره تحطم قيود السجان و ارادة الطاغية، و لذيذ مناجاته يملأ آفاق الوحدة و الوحشة انسا و سرورا، فما عسي الجلاد أن يصنع، و ماذا بوسع الطاغية أن يفعل؟ فالامام يؤثر فيمن حوله و يشع بسلوكه و خلقه و روحه علي من يجاورونه.

فمن روائع تأثيره و هديه، و اشعاع سلوكه و اخلاصه، ما رواه العامري في كتاب «الأنوار» قال:

(ان هارون الرشيد أنفذ الي موسي بن جعفر جارية خصيفة، لها جمال و وضاءة لتخدمه في السجن قال: قل له: «بل أنتم بهديتكم تفرحون». لا حاجة لي في هذه و لا في امثالها، قال: فاستطار هارون غضبا، و قال: ارجع اليه و قل له: ليس برضاك حبسناك، و لا برضاك أخذناك، و اترك الجارية عنده و انصرف. قال: فمضي و رجع، ثم قام



[ صفحه 112]



هارون عن مجلسه و أنفذ الخادم اليه ليستفحص عن حالها فرآها ساجدة لربها لا ترفع رأسها، تقول: قدوس، سبحانك، سبحانك، فقال هارون: سحرها و الله موسي بن جعفر بسحره...). [6] [7] .

فلعل هارون أراد أن يغري الامام و يشغله عن أهدافه بجمال الحسان، و متع الحياة، منطلقا من فهمه و تقييمه هو لنفسه، و ما دري أن الامام مستغرق في جمال الحق و فان بحب الله، قد أعرض عن الدنيا و زينتها، فلا الجواري يشغلن باله، و لا متع الحياة تستهوي نفسه، بل هو داعية حق، و صاحب رسالة، قد نذر نفسه لمبادئه، و أوقف ذاته علي ذات الله سبحانه، فغدا منارا يهدي بقوله و عمله، و داعية يرشد بصمته و نطقه، فصمته نطق بلسان العمل، و نطقه هدي بكلمة الحق، لذا استهوي هديه قلب الجارية، و استولي سلطان روحه علي روحها و عقلها حتي غدت تنادي «سبوح، قدوس» مشدوهة ساجدة، بعد أن كانت ترتع في مسارح اللهو، و تكرع في كؤوس الهوي و الغرام، و تقضي وقتها و هي تداعب أوتار الطرب و أنغام الشعر، و تستمتع بحلل الديباج و عقود اللؤلؤ، فصار ديدنها الصلاة و التسبيح و التقديس حتي ماتت، و قيل أن موتها كان قبل شهادة الامام موسي بن جعفر بأيام.



[ صفحه 113]



و هكذا اختط الامام لأجيال المسلمين السيرة الفذة، و السير في طريق ذات الشوكة، رغم الصعاب و المحن، فعلم السائرين في هذا الطريق الصبر علي مرارة السجون و الثبات علي الحق، و الاستهانة بأساليب الجلادين، و وسائل القهر و الارهاب. فقد كان الرشيد ينقل الامام من سجن الي سجن، فمن عيسي بن جعفر، الي الفضل بن الربيع، الي الفضل بن يحيي، الي السندي بن شاهك لعله يخفي شخص الامام، و يقتل روح المقاومة و يغيبه عن الأذهان. الا أن وجود الامام موسي بن جعفر في السجن كان له مغزي سياسي، و قيمة جهادية كبري، و خصوصا لتنقله بين السجون و متابعة أنباء الامة لاخباره، و عجز السلطة عن حسم الموقف معه. فقد كان وجوده يغذي روح الثورة و الرفض و المقاومة، و يضفي عليها صفة الشرعية. لذلك فقد رفض الامام التوسط لدي الحكام لاخراجه من السجن، أو اللجوء الي أي موقف من شأنه أن يضعف في الامة هذه الروح. فقد رفض و قال لبعض من طلب منه أن يرسل بعض الشخصيات الي هارون الرشيد للوساطة و اطلاق حريته:

(حدثني أبي عن آبائه، أن الله عزوجل أوصي الي داود: يا داود أنه ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني، و عرفت ذلك منه الا قطعت عنه أسباب السماء و أسخت الأرض من تحته). [8] .



[ صفحه 114]



بهذا الرد الحاسم الصادق عزز موقفه و اباءه و ثقته بالله سبحانه.

و لما أحس الرشيد أن روح المقاومة الصامتة التي أبداها الامام في السجن قد بدأت تأخذ طريقها الي النفوس، و أن مواقفه بدأت تتفاعل مع وعي الجمهور و احساس الامة، خاف أن يتكثف هذا الوعي، و ينمو ذلك الاحساس فيتحول الي ثورة، فاستشار وزيره يحيي بن خالد، فأشار عليه باطلاق سراح الامام.

و قد نقل العلامة المجلسي صاحب «بحارالأنوار» هذا الموقف من السلطة العباسية كالآتي:

(لما حبس هارون الرشيد أباابراهيم موسي، و أظهر الدلائل و المعجزات و هو في الحبس، تحير الرشيد، فدعا يحيي بن خالد البرمكي، فقال له: يا أباعلي أما تري ما نحن فيه من هذه العجائب؟ ألا تدبر أمر هذا الرجل تدبيرا تريحنا من غمه؟ فقال يحيي بن خالد: الذي أراه لك يا أميرالمؤمنين أن تمتن عليه، و تصل رحمه، فقد والله أفسد علينا قلوب شيعتنا. و كان يحيي يتولاه [9] ، و هارون لا يعلم ذلك، فقال هارون: انطلق اليه، و اطلق عنه الحديد، و ابلغه عني السلام و قل له: يقول لك ابن عمك أنه قد سبق مني فيك يحيي أني لا اخليك حتي تقر لي بالاساءة، و تسألني العفو عما سلف منك، و ليس عليك في



[ صفحه 115]



اقرارك عار، و لا في مسألتك اياي منقصة...). [10] .

و لما وصل يحيي الي الامام موسي بن جعفر و أخبره برسالة الرشيد، رفض الامام أن يلبي طلب الرشيد الذي أراد أن يوقف الامام موقف المخاطب المعتذر، و أجابه:

(... وستعلم غدا اذا جاثيتك بين يدي الله من الظالم و المعتدي علي صاحبه و السلام). [11] .

و هكذا حطم الامام موسي بصبره و ثقته بالله سبحانه كل و سائل الجور و الارهاب من السجن و الضغط و القيود و التزييف و تضليل الرأي العام، فلم يكن أمام الرشيد الا الحل الأخير و هو اغتيال الامام، و انهاء حياته الشريفة، و قد تخيل أنه سيسدل الستار بذلك علي أروع فصل من فصول الجهاد و الثورة ضد الطغيان، و سيطفي ء نور الامامة في أهل هذا البيت، و يتخلص من أعظم شخصية علمية و قيادية في عصره، لذلك أقدم علي الجريمة الكبري، و قرر اغتيال الامام.



[ صفحه 116]




پاورقي

[1] العلامة المجلسي: المصدر السابق / المجلد 11 / ص 107 / ج 48.

[2] أبوالفرج الأصفهاني: المصدر السابق / ص 502.

[3] العلامة المجلسي: المصدر السابق / المجلد 11 / ص 607 / ج 48.

[4] العلامة المجلسي: المصدر السابق / ص 211.

[5] الطبرسي: المصدر السابق / ص 311 / ط 3.

[6] العلامة المجلسي: المصدر السابق / ص 239.

[7] وقعت هذه الحادثة في سجن السندي بن شاهك المعروف. (دارالمسيب) ببغداد.

[8] باقر شريف القرشي: المصدر السابق / ص 499 / ج 2.

[9] العلامة المجلسي: المصدر السابق / المجلد 11 / ص 230 / ج 48.

[10] المعروف تاريخيا أن يحيي هو الذي و شي بالامام موسي بن جعفر، و هو الذي قام بدس السم اليه عن طريق الايعاز الي السندي، و أن الامام الرضا ابن الامام موسي بن جعفر (ع) كان يحمل البرامكة دم أبيه، و كان يدعو عليهم، فلا وجه للقول أن يحيي كان يتولي الامام سرا.

[11] العلامة المجلسي: المصدر السابق / ص 231.