بازگشت

الامام الشهيد


لقد جهد الرشيد نفسه في أن يتخلص من الامام موسي بن جعفر بشتي الوسائل و الأساليب. فشخصية الامام و علو مقامه في النفوس، و سمو مكانته يؤرق منام الرشيد، و يكدر عليه عيشه، فقلوب الناس متعلقة بأهل هذا البيت، و حبهم مستول علي النفوس، فليس في المسلمين من لا يعرفهم، أو يجهل قدرهم، فالكل يكن لهم الاحترام، أو يخشي الرأي العام بالتجاوز علي مقامهم المرموق، و مكانتهم من رسول الله، الا اولئك الذين ران علي قلوبهم حب الدنيا، و داسوا كل القيم و المثل تحت أقدامهم. لذلك كان من الصعب المجاهرة بعدائهم، أو المصارحة دون تضليل بمحاربتهم، لذلك رفض عيسي بن جعفر والي البصرة قتل الامام و استعفي الرشيد من ذلك، و طلب نقله من سجنه، فنقله الرشيد الي سجن الفضل بن الربيع، فأثرت شخصيته في نفس الفضل بن الربيع، كما أثر في نفس عيسي بن موسي من قبل، فرفض الفضل قتل الامام و تحمل أوزار الجريمة التي أراد منه الرشيد أن يرتكبها، فلم يجد الرشيد بدا من نقله الي الفضل بن يحيي، فاستلمه الفضل بن يحيي، و وسع عليه، و خفف عنه أعباء السجن، و طلب منه الرشيد أن ينفذ في الامام جريمة القتل فرفض، و حينما علم الرشيد



[ صفحه 117]



بالمعاملة الحسنة التي يبديها الفضل بن يحيي للامام، شق عليه هذا الميل، و عظم عليه هذا الموقف، فأمر بمعاقبة الفضل، فجرد من ثيابه، و ضرب مائة سوط في مجلس العباس بن محمد.

و هكذا فلم يجد الرشيد في أنصاره و حاشيته أفضل من مدير شرطته في بغداد: السندي بن شاهك، و كان فظا غليظا قاسيا - شأن كل الجلادين و القتلة -.

و كما رأينا من سير البحث فان السندي بن شاهك قد تسلم الامام من الفضل بن يحيي، و وضعه في سجنه، فأرهقه بالسلاسل و القيود، و ضيق عليه و عامله معاملة خشنة قاسية. و حينما بلغ يحيي بن خالد خبر ابنه الفضل شق عليه موقف الرشيد من الفضل و ضربه و اهانته، فأراد أن يسترضي الرشيد، و يستميله و يرد اعتبار الاسرة عند الحاكم العباسي. فلم يرثمنا لشراء هذا الرضي الرخيص الادم الامام الطاهر، و قطع هذا الغصن من شجرة النبوة و اغضاب رسول الله و فري كبده.

و هكذا تفعل النفوس الخسيسة التي يسيطر عليها اللؤم و الملق و التزلف. تتقرب من الحكام و الجلادين بسفك الدماء و اضطهاد دعاة الهدي، و الجور علي المظلومين مقابل جاه زائف، أو متع فانية منطلقة من ضعة نفسية، و احساس بالنقص و الحقارة و حاجة الي رضي الآخرين و قبولهم.



[ صفحه 118]



فانطلق يحيي بن خالد الي بغداد بعد أن تشاور مع الرشيد، و أكد له أن الفضل شاب غير مجرب، و لا بارع في تنفيذ مخططات الجور و الارهاب، فعرض عليه استعداده للتوجه الي بغداد [1] ، فسر الرشيد بهذا المنفذ المطيع، و أذن له بارتكاب الجريمة النكراء. فتوجه يحيي بن خالد الي بغداد يتأبط الشر، و يخطط لارتكاب الجريمة، و ما أن وصل بغداد حتي اجتمع بالسندي بن شاهك مدير شرطة الرشيد، و قدم له صورة المخطط، و كيفية التنفيذ، فأجاب متقبلا طائعا، فدس السم في رطب قدم للامام، و قيل جعل السم بطعام آخر، فتناول الامام طعام الغدر و الفاجعة فأحس بالسم يسري في جسده الطاهر، وراح يقاوم آثار السم ثلاثة أيام، فلم يستطع مغالبة المنية، فلفظ أنفاسه الأخيرة، و فاضت روحه الطاهرة في اليوم الثالث في سجن السندي بن شاهك، و قيل في مسجد هارون المسمي بمسجد المسيب، ففاز بالشهادة في اليوم الخامس و العشرين من شهر رجب سنة ثلاث و ثمانين و مائة للهجرة. [2] .



[ صفحه 119]



و هكذا أفل نجم الامام، و تواري نوره من سماء بغداد الفجيعة، فأرخي ليل الحزن عليها سدوله، و تلبدت سماؤها الكئيبة بغيوم اللوعة و الأسي، و غرقت عيناها الذا هلتان بدموع الثكل و الفراق، فألقت مدينة المنصور و شاح السلام المزيف الذي شاء بانيها أن يخلعه عليها، خلعته لترتدي ثياب الحزن و الاحتجاج. ألقته لتصرخ بوجوه القتلة: لم أعد مدينة للسلام، و لا مقاما للهداة الأحرار. وقف الجلاد واجما، و تجسدت أمامه أشباح الجريمة، و ارتسمت في نفسه فصولها المروعة: بشعة محزنة، و أحس هذا الارهابي، السندي بن شاهك، بعظم الكارثة، فرأي بغداد تموج و تضطرب من حوله. رأي القتلة ذلك، فخيل... أن صوت الحق ينطق علي كان لسان، و يتعالي في كل افق من بغداد الحزينة: ان الامام قضي مظلوما، ثوي في سجون الظالمين شهيدا.

رحل الامام من سجنه مجدأ شامخا، و توحل الرشيد و السندي في عار الجريمة. يا لثارات الشهداء يا ليوم المظلوم علي الظالم. أحس السندي بالخطر، و شعر المتآمرون أن حبل الجريمة يلتف علي أعناقهم، فارتبك البلاط، و اضطرب المتآمرون، و فتشوا عن عذر يلوذون به، فتشوا عن قميص يوسف، عن الذئب المفترس ليكون



[ صفحه 120]



الضحية، فلم يجدوا غير القول: انه مات حتف أنفه. انه عاش في السجن مرفها مكرما. لقد أدركته المنية. لسنا نحن الذين قتلناه. و راحوا يهرعون الفقهاء، و يهرعون الوجهاء من آل أبي طالب و وجوه بغداد، و يكشفون عن وجه الامام ليتفرس فيه الشهود، و يدونوا المحاضر و الافادات، و يثبتوا الأدلة و الشهادات: ان الامام مات حتف أنفه، و لم يقتله أحد.

و مع ذلك فان الحقد و روح الانتقام لم تغادر هذه النفوس، فترك الامام ثلاثة أيام مسجي في سجنه، ثم وضع علي جسر الكرخ ببغداد ينادي علي جنازته: هذا موسي بن جعفر قد مات فانظروا اليه. [3] .

بقيت جنازة الامام موسي بن جعفر (ع) علي جسر بغداد، و شرطة السندي بن شاهك ينادون عليه بالأقاويل و التهم، و الناس تغدو و تروح، و هي في صخب و ضجيج. فبلغت الضوضاء سليمان بن أبي جعفر المنصور - عم الرشيد، و هو في الجانب الآخر من دجلة -



[ صفحه 121]



فاستفسر من غلمانه عن الخبر، فقيل له: انها جنازة موسي بن جعفر ينادي عليها شرطة السندي بن شاهك (مدير شرطة الرشيد)، فساءه الذي سمع و أحرج موقفه و موقف بني العباس في نفسه فأمر غلمانه أن يستنقذوا جنازة الامام من أيدي شرطة السندي بن شاهك اذا هم عبروا بها الي الجانب الشرقي من بغداد، فانتظرهم الغلمان حتي عبروا بجنازة الامام الي الجانب الثاني من بغداد فهجموا عليهم و استنقذوا جثمان الامام الطاهر و أتوا به الي سليمان بن أبي جعفر المنصور، فغسل و حنط و كفن و صلي عليه و شيع الي مرقده الشريف.

و قد سارت جماهير بغداد و وجوهها و أشرافها يتقدمهم سليمان بن أبي جعفر المنصور في موكب جنائزي حزين، يحيطه الاجلال و العظمة فلم تشهد بغداد يوما كذلك اليوم، و لا فاجعة كتلك الفجيعة. و سار الموكب حتي انتهي الي مقابر قريش حيث ارقد الامام، و وري جثمانه الطاهر في تربته المقدسة.

فسلام عليه يوم ولد، و يوم قضي شهيدا في ظلمات السجون، و يوم يبعث شاهدا.

[ صفحه 122]




پاورقي

[1] كان الرشيد وقتها في الرقة متوجها الي الشام.

[2] اختلف المؤرخون في المدة التي قضاها الامام في السجن، الا أن هناك رواية تقول: ان الرشيد حج عام 179 ه، فقبض علي الامام و نقله الي بغداد، فسجنه و بقي في السجن حتي يوم شهادته في 25 رجب 183 ه. فعلي هذه الرواية تكون مدة سجن الامام حوالي أربع سنوات. و رواية اخري تقول أن الرشيد سجن الامام بعد مضي ست أو سبع سنوات من تسلمه زمام السلطة، فتكون المدة التي قضاها الامام في السجن هي ست أو سبع سنوات تقريبا.

[3] فلما مات ادخل عليه - أدخلهم السندي بن شاهك - الفقاء و وجوه أهل بغداد، و فيهم الهيثم بن عدي و غيره، فنظروا اليه لا أثر فيه، و شهدوا علي ذلك، و اخرج فوضع علي جسر بغداد، و نودي: هذا موسي بن جعفر قد مات، فانظروا اليه، فجعل الناس يتفرسون في وجهه، و هو - عليه السلام - ميت. (المجلسي: بحارالأنوار / المجلد 11 / ص 234 / ج 48.