بازگشت

العابد المتهجد


ان قلة المعرفة بالله و غموض الرؤية الربانية عند الانسان المسلم تنتج بالضرورة انقسام الاتجاه، و تنازع النفس، و ارتباك وجهة المسير و الارتباط بالله. و ان من أبرز مظاهر هذه الوضعية النفسية و الفكرية هو الكسل عن العبادة، و التواني في أداء الفرائض، و تعثر العلاقة بين الانسان و بارئه، و صنع شخصية قلقة مزدوجة، تتنازعها



[ صفحه 23]



الأهواء، و يقعد بها الصراع الداخلي عن التحمل، ينتابها التأرجح بين هوي النفس و أهداف القيم و المبادي ء التي يرسمها لها الاسلام. بعكس الانسان الذي يتمتع بدرجة عالية أو كاملة من المعرفة بالله سبحانه فان شوقه الي الله مصدر الخير و الكمال في هذا الوجود يكون أبديا لا ينقطع، و تعلقه به أحدي لا يشوبه دخيل، لذا نجد وحدة الاتجاه، و تمكن عقيدة التوحيد، و الاخلاص في العبودية لله وحده، و هيمنة التوجه الرباني المتعالي علي عالم الدنيا و المتعلق بالكمال المطلق هو من أبرز صفات العارف الموحد.

و السر الكامن وراء عظمة أهل البيت، و كمال ذواتهم الانسانية، و تميزهم عن سائر الناس هو هذه المعرفة الربانية، و التوجه الخالص الي الله الأحد المتصف بالخير و الكمال الالهي المطلق، و تمكن هذا الاتجاه من نفوسهم، و استيعاب تلك المفاهيم التوحيدية، و انعكاس هذه الرؤية الربانية سلوكا و مواقف و عملا انسانيا في حياتهم المثالية الخالدة. فلا عجب اذن اذا رأينا الزهد و التعالي علي متع الدنيا و الاستهانة بها عند تعارضها مع مبادي ء الحق، و مسيرة الكمال في حياة الامام. و لا عجب اذا رأينا الاخلاص لله، و العبودية الصادقة تستولي علي قلب الامام، و تملك عليه عواطفه و أشواقه و توجهاته و مسيره في الحياة. و لا عجب اذا كان الامام موسي بن جعفر يلقب؛ (زين المجتهدين) و (العبد الصالح)، و يوصل ليله بنهاره في العبادة، يخوض



[ صفحه 24]



غياهب السجون، و يضحي بلذائذ الحياة، و يبذل ماله و حياته في سبيل الوصول الي الله و نيل رضوانه، و العمل علي انقاذ الانسانية و وضعها علي طريق الهدي، و مسيرة الايمان الخيرة.

و قد حدثنا التاريخ عن علاقة الامام بالله، و عن عبادته و زهده و تميز شخصيته في المعرفة الربانية، و التوجه الرباني، و أكد أنه كان (ع) كما كان آباؤه خلقه القرآن، فهو كتاب الله، و وعاء الوحي و الرسالة، و مصدر الاشعاع و النور و الهداية.

و قد كان الامام موسي بن جعفر دؤوبا علي قراءة القرآن، حريصا علي حفظه ترتيله، و العمل بمبادئه و قيمه و التمسك بمنهجه و رسالته.

كان اذا قرأ القرآن تفاعل مع آياته، و انفعل بمحتواه و دعوته. فقد ورد في وصف علاقته بكتاب الله تعالي:

(و كان (ع) أحفظ الناس بكتاب الله تعالي و أحسنهم صوتا به، و كان اذا قرأ يحزن و يبكي السامعون لتلاوته، و كان الناس بالمدينة يسمونه زين المجتهدين). [1] .

و كان لشدة علاقته بالله، و شوقه اليه، و سعيه الي رضاه، يسعي



[ صفحه 25]



حاجا الي بيت الله الحرام مشيا علي قدميه. فقد روي أنه حج أربع مرات ماشيا علي قدميه هو و أخوه علي بن جعفر، و كان حجه قد استغرق في العام الأول 26 يوما، و في العام الثاني 25 يوما، و في العام الثالث 24 يوما، و في العام الرابع 21 يوما.

أما صلاته و انقطاعه الي بارئه، و وقوفه بين يدي الله، و تضرعه اليه فلا يضارعه في ذلك الا الهداة، فقد وصف بأنه: (اذا وقف بين يدي الله يصلي أرسل ما بعينيه من دموع).

و كان (ع) كثير الاستغفار و الشكر، فقد قال ابراهيم بن البلاد:

(قال لي أبوالحسن: اني استغفرالله كل يوم خمسة آلاف مرة).

و قال هشام بن أحمر:

(كنت أسير مع أبي الحسن (موسي بن جعفر) في بعض طرق المدينة اذ ثني رجله عن دابته فخر ساجدا، فأطال و أطال، ثم رفع رأسه، و ركب دابته. فقلت: جعلت فداك قد أطلت السجود؟ - فقال: اني ذكرت نعمة أنعم الله بها علي، فأحببت أن أشكر ربي). [2] .

لقد كان الامام عابدا قديسا موحدا، قد ملأ الشوق الي الله قلبه، و استولي حب الله علي نفسه، فكان أحب ما في الحياة اليه هو الذكر و العبادة. و كان (ع) يتمني أن يفرغه الله لعبادته. فقد ذكر أن شخصا من



[ صفحه 26]



بعض العيون التي كانت عليه في السجن قد رفع الي الوالي عيسي بن جعفر أنه سمعه يقول في دعائه:

(اللهم انك تعلم اني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، و قد فعلت فلك الحمد). [3] .

فلم يكن الامام ليعبأ بالسجن و ليضجر منه، أو يخشي تسلط الطغاة، فهو عالم فريد متعال علي عالم الدنيا، لا يرهبه السجن و لا يثنيه الارهاب، فكل هدفه هو التوجه الي الله و مقاومة الطغاة، و الدفاع عن الحق، فهو قد قطع علاقته بلذائذ الحياة، و فرغ نفسه لعبادة الله، و رصد حياته لخدمة عقيدته و الدفاع عنها، و هكذا يكون القائد و الامام، قدوة في طريق الهدي، و رائدا في طريق الجهاد، و مثلا أعلا في التمسك بمنهج الحق و مبادي ء الخير، و كيف يعبأ بظلم الطغاة، و ارهاب الظلمة و سجون الجبابرة من يعتبر السجن نعمة؟ و الزنزانة المظلمة مسجدا و محرابا للتقرب و الاخلاص؟ و كيف يعبأ بالسجن من تكون له في ساحة السجن سجدة تمتد من بعد طلوع الشمس الي الزوال؟

فقد ذكر: (أن الرشيد كان يشرف علي الحبس الذي هو فيه، فيراه ساجدا، فيقول للربيع: ما ذلك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟ فيخبره: انه ليس بثوب، و انما هو موسي بن جعفر له كل يوم



[ صفحه 27]



سجدة بعد طلوع الشمس الي الزوال). [4] .

و كان الناس يعرفون عبادة الامام و انقطاعه و تبتله. فقد تحدث المؤرخون، و أصحاب السير عن عبادة الامام و تهجده فنقلوا:

(قد اشتهر في الناس أن أباالحسن موسي كان أجل ولد الصادق (ع) شأنا و أعلاهم في الدين مكانا، و أفصحهم لسانا، و كان أعبد أهل زمانه، و أعلمهم و أفقههم، و روي أنه كان يصلي نوافل الليل و يصلها بصلاة الصبح ثم يعقب حتي تطلع الشمس، ثم يخر ساجدا فلا يرفع رأسه من الدعاء و التحميد حتي يقرب زوال الشمس، و كان يقول في سجوده: قبح الذنب من عبدك، فليحسن العفو و التجاوز من عندك). [5] .

و أضاف صاحب (بحارالأنوار) نقلا عن كتاب (الارشاد) للشيخ المفيد:

(و كان يبكي من خشية الله حتي تخضل لحيته بالدموع، و كان أوصل الناس لأهله و رحمه، و كان يتفقد فقراء المدينة في الليل فيحمل اليهم الزبيل فيه العين و الورق و الأدقة و التمور، فيوصل اليهم ذلك و لا يعلمون من أي جهة هو). [6] .

و شهد خصمه و سجانه بورعه و عبادته، فقد ذكر الفضل بن



[ صفحه 28]



الربيع أن هارون الرشيد قد شهر بذلك و قال: (أما ان هذا من رهبان بني هاشم. قلت: فما لك ضيقت عليه في الحبس؟ قال: هيهات لابد من ذلك). [7] .

و عن حفض عن سلسلة من الرواة قال:

(ما رأيت أشد خوفا علي نفسه من موسي بن جعفر - يعني خوفا من الله - و لا أرجي للناس منه، و كانت قراءته - قراءته للقرآن - حزنا، فاذا قرأ فكأنه يخاطب انسانا). [8] .

تلك صور و شواهد حية و شهادات تحكي لنا عبادة العبد الصالح، الامام موسي بن جعفر، و اخلاصه لله، و خوفه منه، و ترسم لنا صورة القدوة و المثل الأعلي في الاخلاص و العبودية لله و الحضور بين يديه، فتكشف لنا سر العظمة في شخصية هذا الانسان، و سبب الامامة و هو الربانية الصادقة، و تساقط الحجب بينه و بين الله سبحانه، و التجرد الكامل لله وحده و التعلق المطلق به.



[ صفحه 29]




پاورقي

[1] الطبرسي (من أعلام القرن السادس الهجري): اعلام الوري باعلام الهدي / ص 309 / ط 3.

[2] العلامة المجلسي: المصدر السابق / ص 116 / المجلد 11 / ج 48.

[3] العلامة المجلسي: المصدر السابق / ص 107 / ج 48.

[4] العلامة المجلسي: المصدر السابق / المجلد 11 / ج 48.

[5] الطبرسي: المصدر السابق / ص 305 / ط 3.

[6] العلامة المجلسي: المصدر السابق / ص 101.

[7] العلامة المجلسي: المصدر السابق / المجلد 11 / ص 220 / ج 48 /ط 2.

[8] العلامة المجلسي: المصدر السابق / ص 111.