بازگشت

واهب العفو و الحرية


«الذين ينفقون في السراء و الضراء و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس و الله يحب المحسنين».

(آل عمران / 134).

أئمة أهل البيت في كل سلوكهم و مواقفهم التي حدث التاريخ عنها كانوا يجسدون الاسلام حياة، و يحولون مبادئه سلوكا و عملا. و قد جاء الاسلام و استهدف أول ما استهدف تحرير الانسان و اطلاق حرية العبيد، و كرس لذلك المشروع الحضاري الكبير الكثير من المفاهيم و القيم، و رصد الأحكام و التشريعات. و قد ساهم أهل البيت مساهمة فعالة في تحرير العبيد. فالامام علي بن الحسين بن أبي طالب - زين العابدين - مثلا كان يسمي محرر العبيد لكثرة ما اشتري و أطلق من العبيد. و الزهراء فاطمة بنت رسول الله (ص) - ام الأئمة - تبيع عقدها لتشتري عبدا و تحرره. و الامام الكاظم يحرر أعدادا كثيرة من العبيد، و في موقف حدثنا التاريخ عنه، يجسد هذا الاتجاه الانساني النبيل في أخلاق أهل البيت و يوضح سمو أخلاقه، و عظيم وفائه، و فيض احسانه، و عشقه لحرية الانسان، اذ يأتي غلام زنجي مملوك، قد أرهقته العبودية، و قيدته سلاسل التبعية، قد اشتاقت نفسه الي عبق الحرية، و انطلاقة الأحرار، و لم يجد من يلجأ اليه ليهب له حريته و يعتق رقبته



[ صفحه 30]



من قيد العبودية غير سليل النبوة العالم الكاظم موسي بن جعفر يتجه اليه في طلبه، و يقصده في حاجته، و قد عقد الحياء لسانه، و ثقلت عليه الكلمة، فاكتفي بعرض حاله علي الامام، و اختار تقديم الهدية المتواضعة ليكافئه الامام بالحرية، و تجري هذه القصة الشيقة المليئة بالقيم و العبر، و المعبرة عن كرم الأخلاق، و عظم النفس عند أئمة أهل البيت (ع) كما رواها لنا التاريخ كالآتي:

(خرج الامام من يثرب مع حاشيته و بعض أولاده الي ضياعه الواقعة بساية [1] ، و قبل الانتهاء اليها استراحوا في بعض المناطق المجاورة لها، و كان الوقت آنذاك شديد البرد. فبينما هم جلوس اذ خرج اليهم عبد زنجي فصيح اللسان و هو يحمل علي رأسه قدرا يفور، فوقف أمام غلمان الامام و قال لهم:

- أين سيدكم؟.

- هو ذاك - و أشاروا الي أبي الحسن -.

- أبو من يكني؟.

- أبوالحسن.

فوقف بين يديه و هو يتضرع قائلا له:

- يا سيدي: هذه عصيدة أهديتها اليك.



[ صفحه 31]



فقبل الامام هديته و أمره بأن يضعها عند الغلمان، فوضعها عندهم ثم انصرف، فلم يلبث حتي أقبل و معه حزمة من الحطب فوقف قبال الامام و قال له:

- يا سيدي: هذا حطب أهديته اليك.

فقبل عليه السلام هديته و أمره أن يلتمس له قبسا من النار، فمضي قليلا ثم جاء بالنار، فأمر الامام بكتابة اسمه و اسم مولاه، و بعد تسجيله أمر بعض ولده بالاحتفاظ به عند الحاجة،ثم أنهم رحلوا الي ضياعهم فمكثوا فيها أياما، و بعدها اتجهوا الي بيت الله الحرام، فاعتمر (ع) فيه، و بعد فراغه أمر صاعدا أن يفتش عن مالك العبد و قال له:

- اذا علمت موضعه فاعلمني حتي أمشي اليه، فاني أكره أن أدعوه و الحاجة لي. فمضي ففتش عن الرجل حتي ظفر به، فعرفه و عرف أنه ممن يدين بالامامة، و بعد السلام عليه سأله الرجل عن قدوم الامام فأنكر عليه صاعد ذلك، ثم سأله عن سبب مجيئه، فأخبره بأن له حوائج دعته الي السفر، فلم يقتنع الرجل بذلك، و غلب علي ظنه تشريف الامام الي مكة، ثم ودعه صاعد و قفل راجعا الي الامام، فتبعه الرجل و سار علي أثره، فالتفت صاعد فرآه يسير خلفه، فكلما أراد التخلي عنه فلم يتمكن، فسارا معا حتي أقبلا الي الامام، فلما مثلا عنده أخذ (ع) يؤنب



[ صفحه 32]



صاعدا علي اخبار الرجل بقدومه، فاعتذر له بأنه لم يخبره و لكنه تبعه بغير اختيار منه، و بعد ما استقر الرجل التفت عليه السلام اليه قائلا:

- غلامك فلان تبيعه؟.

- جعلت فداك، الغلام لك و الضيعة و جميع ما أملك.

- أما الضيعة فلا احب أن أسلبكها.

و جعل الرجل يتضرع الي الامام و يتوسل اليه ليقبلهما منه، و الامام ممتنع من اجابته، و أخيرا اشتري (ع) الغلام مع الضيعة بألف دينار فأعتق الغلام، و وهب له الضيعة، كل ذلك ليجازي الاحسان بالاحسان، و يقابل المعروف بالمعروف، و قد وسع الله علي العبد ببركة الامام حتي أصبح أبناؤه من أثرياء مكة و صرافيها). [2] .

و مما حدث التاريخ عنه من تحرير الامام للعبيد، و اطلاق حريتهم، و فك قيودهم هو شراؤه لاسرة من العبيد تتكون من الام و الأب و الأبناء و عتق رقابهم و ايهابهم الحرية.

فقد ذكر العلامة المجلسي في كتابه الشهير (بحارالأنوار)، عن الكافي و هو ينقل رواية عن سلسلة من الرواة ما نصه:

(محمد بن يحيي، عن محمد بن أحمد، عن علي بن الريان، عن أحمد بن أبي خلف مولي أبي الحسن، و كان اشتراه و أباه و امه و أخاه



[ صفحه 33]



و أعتقهم و استكتب أحمد و جعله قهرمانه...). [3] .

فالقاري ء لهذه القصة و للقصة التي سبقتها و لأمثالها من القصص و الحوادث يعرف جيدا حب الامام للانسانية و عطفه علي المستضعفين و المستعبدين، و سعيه من أجل تحرير الانسان و منحه الحرية و كرامة الحياة، و ذلك هو دين أهل البيت و منهجهم في الحياة.


پاورقي

[1] ساية: واد من حدود الحجاز فيه مزارع.

[2] تاريخ بغداد: ج 13 / ص 30 - 29. البداية و النهاية: ج 10 / ص 183. نقلا عن باقر شريف القرشي.

[3] العلامة المجلسي: المصدر السابق / المجلد 11 / ص 111 / ج 48.