بازگشت

الامام يثبت المصادر الأساسية للفكر و التشريع


و كما قرأنا بعضا من معارفه و توجيهاته في علم التوحيد و العقيدة و تفسير السلوك الانساني، نقرأ في موضع آخر من افق معارفه أفكارا و مفاهيم و قواعد أساسية لضبط موازين الفقه و الاستنباط و الفكر، أوضحها و ثبتها الامام في رسالة كتبها بناء علي طلب الخليفة العباسي هارون الرشيد، اذ قال له: بحق آبائك لما اختصرت كلمات جامعة لما تجاريناه. [1] فقال (ع): نعم. و اوتي بدواة و قرطاس فكتب:

(بسم الله الرحمن الرحيم، جميع امور الأديان أربعة، لا اختلاف فيه، و هو اجماع الامة علي الضرورة التي يضطرون اليها، الأخبار المجمع عليها، و هي الغاية المعروض عليها كل شبهة، و المستنبط منها كل حادثة، و هو اجماع الامة. و أمر يحتمل الشك و الانكار، فسبيله استيضاح أهليه لمنتحليه بحجة من كتاب الله مجمع علي تأويلها، و سنة مجمع عليها لا اختلاف فيها، أو قياس تعرف العقول عدله و لا يسع خاصة الامة و عامتها الشك فيه و الانكار له، و هذا الأمران من أمر التوحيد فما دونه و ارش الخدش [2] فما فوقه. فهذا المعروض الذي يعرض عليه أمر الدين، فما ثبت



[ صفحه 50]



لك برهانه اصطفيته، و ما غمض عليك صوابه نفيته. فمن أورد واحدة من هذه الثلاث فهي الحجة البالغة التي بينها الله في قوله لنبيه: «قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين». يبلغ الحجة البالغة الجاهل فيعلمها بجهله، كما يعلمه العالم بعلمه، لأن الله عدل لا يجور، يحتج علي خلقه بما يعلمون، و يدعوهم الي ما يعرفون لا الي ما يجهلون و ينكرون). [3] .

و هكذا يثبت الامام مصادر العقيدة و التشريع ليحفظ العقل و التفكير و السلوك من خطر الانحراف و الانزلاق، فيحددها في القرآن الكريم و السنة الصحيحة الثابتة، ثم يأتي دور القياس المستند الي الكتاب و السنة، أي القياس الذي يمارس فيه الفقيه و الباحث دور تطبيق الكليات التشريعية الثابتة في الكتاب و السنة علي جزئياتها أو يرد الفروع الي اصولها. و الامام كان يحدد نوع القياس صيانة للتفكير و الاستنباط الفقهي و العقائدي من خطر الخطأ المنهجي، و عدم الاستفادة من الكتاب و السنة استفادة علمية مستقيمة مع ما يحتج به هذان المصدران، لذلك نراه يدعو الي توحيد الفهم و التفكير و منهج التحصيل و الاستنباط ليحفظ نقاء الشريعة و أصالتها من جهة، و اثراء الفكر و التشريع من جهة اخري، فيقرر ضرورة جعل المفاهيم القرآنية المحددة التأويل و السنة الصحيحة الثابتة أساسا و منطقا لاستنباط



[ صفحه 51]



الأفكار و المفاهيم و الأحكام، كما جعل القياس الذي تدرك العقول العلمية الناضجة استقامته أداة و طريقة لاستنباط الأفكار و المفاهيم و الأحكام من هذين المصدرين. فلا التأويلات القرآنية المتعددة عند المفسرين، و لا الروايات و الأخبار الواردة من كل راوية، و لا القياس الشكلي الظاهري الذي يوهم المستنبط بصحة استنباطه تصلح أن تكون أساسا للفهم العقائدي، أو الاستنباط التشريعي. [4] .

و الامام بتحديده لمنابع الفكر و التشريع جعل القرآن الكريم و السنة الصحيحة الثابتة هما المعين و المنبع و الرافد للفكر العقائدي و المدد التشريعي اللذين يستنبط منهما، أي يقاس عليهما القياس الذي يعني التفريع عليهما.

و كما مر علينا فقد رأينا كيف أن الامام ربي جيلا من الفقهاء و العلماء و الرواة.. و أفاض علي أصحابه و تلامذته و معاصريه الفتاوي و الأحكام و الدروس و المحاورات.. الخ.

و قد سجل لنا التاريخ مناظرات علمية دارت بينه و بين رجال الفكر و الفقه في عصره أمثال أبوحنيفة، و أبويوسف قاضي قضاة الرشيد و غيرهم، و خضوعهم لأحكامه و فتاواه و تسليمهم له.

كما روي عنه الامام الحنابلة أحمد بن حنبل بثقة و اجلال، و قد



[ صفحه 52]



أكد ذلك جمع من الرواة و المؤلفين و المعنيين بشؤون الأحاديث فقد روي عن الامام أحمد بن حنبل أنه (قال: حدثني موسي بن جعفر، قال: حدثني أبوجعفر بن محمد، و هكذا الي النبي. ثم قال أحمد: و هذا اسناد لو قري ء علي المجنون لأفاق). [5] .


پاورقي

[1] لما تجاريناه: لما تحاورنا به و ناقشناه، اذ جاء الطلب بعد حوار و نقاش.

[2] الارش: التعويض المالي. الخدش: الجرح الطفيف الذي لا عمق له في الجسم.

[3] الحراني: المصدر السابق / ص 300 / ط 5.

[4] الاستنباط: مصطلح فقهي يعني استخراج الأحكام الفقهية الفرعية و القوانين الخاصة بتنظيم الحياة الانسانية من أدلتها التفصيلية.

[5] العلامة المجلسي: المصدر السابق / المجلد 11 / ص 106.