بازگشت

ملامح عهد الرشيد


سبقت الإشارة الي الظواهر الانحرافية التي اجتاحت البلاد الإسلامية والسياسة الظالمة ضد أهل البيت (عليهم السلام) التي جاء بها العباسيون في منهجهم الجاهلي.

ولا يسعنا أن نستعرض كل الاحداث والظروف التي أحاطت بالإمام (عليه السلام) في عصر حكومة الرشيد بل نحاول أن نقف علي أهم ما امتازت به المرحلة من ظواهر لعلها تكون كافية لاعطاء الصورة الواقعية وحجم المأساة التي يعانيها الإمام(عليه السلام).

اذا لاحظنا الأموال التي كانت تجبي له من أطراف البلاد لوجدناها تفوق ضخامتها ورقمها أموال كل من سبقه من الخلفاء وكانت تنفق علي غير مصالح المسلمين مثل التفنن في الملذّات حتي أسرف هارون في هباته للمغنّين وأغدق عليهم الأموال الطائلة فقد أنشده أبو العتاهية هذه الأبيات:



بأبي من كان في قلبي له

مرة حب قليل فسرق



يا بني العبّاس فيكم ملك

شعب الاحسان منه تفترق



إنّما هارون خير كله

مات كل الشر مذ يوم خلق





[ صفحه 123]



وغنّاه ابراهيم الموصلي بها فأعطي كل واحد منهما مائة ألف درهم ومائة ثوب [1] .

وكان هارون مولعاً بالجواري حريصاًعلي الاستمتاع والتلذّذ بهنّ حتي أفرط في ذلك وكان له قصة مع الجارية (غادر) جارية أخيه الهادي وكانت حسناء من أحسن الناس وجهاً وغناءاً وكان الهادي يحبها وشك ذات يوم بأن الرشيد سيتزوجها حال مماته فقال للرشيد أريد أن تحلف بأنك لا تتزوجها بعدي فحلف واستوفي عليه الايمان من الحج راجلا وطلاق الزوجات وعتق المماليك وتسبيل ما يملكه، ثم أحلفها بمثل ذلك فحلفت فلم يمض علي ذلك الاشهر فمات الهادي وبويع الرشيد فبعث الي (غادر) وخطبها [2] .

وكان الرشيد شديدالولع بالغناء فاشتمل قصره علي مختلف الآلات الموسيقية وقد أمر المغنّين أن يختاروا له مائة صوت فاختاروها ثم أمرهم باختيار عشرة فاختاروها، ثم أمرهم باختيار ثلاثة ففعلوا [3] وانقطع إبراهيم عن الغناء لأنه عاهد الهادي بعدم الغناء بعده، لكن الرشيد أمره أن يغنّي فامتنع فرماه في السجن ولم يطلق سراحه حتي غنّي في مجلسه [4] .

وكان هارون من المدمنين علي شرب الخمرة، وكان يدعو خواصّ جواريه إذا أراد الشراب [5] .

قال حماد بن اسحاق عن أبيه: أرسل إليّ الرشيد ذات ليلة فدخلت عليه



[ صفحه 124]



فإذا هو جالس وبين يديه جارية عليها قميص مورّد وسراويل مورّدة، فلما غنّت، فقال: لمن هذا اللحن؟ فقلت: لي يا أمير المؤمنين فقال: هات لحن ابن سريج فغنّيته إياه فطرب وشرب رطلا وسقي الجارية رطلا وسقاني رطلاً [6] .

وكان الرشيد شديد التعلق بلعب القمار (النرد) و (الشطرنج) [7] وبذل الأموال الطائلة من أجل هذه الألعاب.

أمّا موقفه من العلويين فكان الرشيد شديد العداء والحقد عليهم وقد أقسم حين تولّي الخلافة علي استئصالهم وقتلهم فقال: والله لاقتلنّهم ـ أي العلويين ـ ولأقتلنّ شيعتهم [8] وفعلا نفّذ قسمه بقتل طائفة كبيرة من أعلام العلويين هم خيرة المسلمين علماً وورعاً في الدين.

وعندما رأي جماهير غفيرة من الاُمة الإسلامية تتهافت علي زيارة مرقد الحسين(عليه السلام) قام بهدم الدورالمجاورة له، واقتلاع السدرة التي كانت الي جانب القبر الشريف [9] كما أمر بحرث أرض كربلاء ليمحو بذلك كلّ أثر للقبر المطهر، وقد انتقم الله منه فإنّه لم يدُر عليه الحول حتي هلك في خراسان [10] .

وامتدّ سلوك هذا الحاكم الفاسد الي الاُمة، حيث اُشيع في البلاد الإسلامية كل أنواع الفساد، وتحوّلت بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية في عصره الي مسرح للّهو، والرقص، وحانات الخمور ودور المجون، حتي أصبحت هذه



[ صفحه 125]



المظاهر سمة بارزة يتميّز بها ذلك العصر، وعكس لنا الشعراء انطباعاتهم وأحاسيسهم باللهو وحبّ الجواري والتلذّذ بالخمرة، وكرّس أبو نؤاس مجهوده الفكري فيوصف الأكواب والكؤوس والسقاة والخمّارين والندماء وافتتن الناس بخمرياته.

وامتاز عصر هارون بالفقر والبؤس، الذي عم الملايين فنجد جموع المسلمين تعري وتجوع، فيما زخرت بغداد بأموال المسلمين والتي تكرّست عند طبقة خاصة من الخلفاء وأبنائهم وعشيرتهم ووزرائهم والمغنين والجواري والخمّارين والوشاة والمنتفعين من مائدة الخلافة.

وحيث ظهر الفقر والبؤس في موطن كان منشئاً للكفر. فقد ظهرت في ذلك العصر حركات إلحادية نشطت بين البسطاء.

يقول (فلهوزن): إنّ هناك صلة وثيقة بين الدعوة العباسية والزنادقة، ويقول: إنّ العبّاسيين في ذلك الوقت جمعوا الزنادقة حولهم ولم ينبذوهم إلاّ فيما بعد [11] .

والغريب أنّ هذه الحركات الهدّامة التي انتشرت في البلاد الإسلامية مثل «المزدكيّة» وغيرها كانت تدعو للتحلّل من جميع القيم وهي نوع من أنواع الشيوعية، يقول الشهرستاني: إنّ مزدك أحلّ النساء وأباح الأموال وجعل الناس شركة كاشتراكهم في المال والنار والكلاء [12] .



[ صفحه 126]




پاورقي

[1] الاغاني: 4 / 74.

[2] نساء الخلفاء: 46.

[3] الاغاني: 1 / 7.

[4] الأغاني: 1 / 162.

[5] التاج: 37.

[6] الاغاني: 5 / 126 ـ 127.

[7] الأغاني: 9 / 126 ـ 127.

[8] الأغاني: 5 / 225.

[9] المناقب: 2 / 19، والامالي: 206.

[10] تأريخ كربلاء: 198.

[11] الدولة العربية: 489.

[12] الملل والنحل: 1 / 229.