بازگشت

عبادته وتقواه


نشأ الإمام موسي (عليه السلام) في بيت القداسة والتقوي، وترعرع في معهد العبادة والطاعة، بالاضافة الي أنه قد ورث من آبائه حب الله والايمان به والاخلاص له فقد قدموا نفوسهم قرابين في سبيله، وبذلوا جميع إمكانياتهم في نشر دينه والقضاء علي كلمة الشرك والضلال فأهل البيت أساس التقوي ومعدن الايمان والعقيدة، فلولاهم ماعبد الله عابد ولا وحّده موحّد. وما تحقّقت فريضة، ولا أقيمت سنة، ولا ساغت في الاسلام شريعة.

لقد رأي الإمام(عليه السلام) جميع صور التقوي ماثلة في بيته، فصارت من مقوّمات ذاته ومن عناصر شخصيته، وحدّث المؤرخون أنه كان أعبد أهل زمانه [1] حتي لقّب بالعبد الصالح، وبزين المجتهدين إذ لم تر عين انسان نظيراً له قط في الطاعة والعبادة. ونعرض انموذجاً من مظاهر طاعته وعبادته:

أ ـ صلاته: إنّ أجمل الساعات وأثمنها عند الإمام(عليه السلام) هي الساعات التي يخلو بها مع الله عزّ اسمه فكان يقبل عليه بجميع مشاعره وعواطفه وقد ورد: أنه إذا وقف بين يدي الله تعالي مصلّياً أو مناجياً أو داعياً ارسل ما في عينيه من دموع، وخفق قلبه، واضطرب موجدة وخوفاً منه، وقد شغل أغلب أوقاته في الصلاة «فكان يصلّي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح، ثم يعقب حتي تطلع الشمس، ويخرّ لله ساجداً فلا يرفع رأسه من الدعاء والتمجيد حتي يقرب زوال الشمس [2] ، من مظاهر طاعته أنه دخل مسجد النبي(صلي الله عليه وآله) في أول الليل فسجد سجدة واحدة وهو يقول بنبرات تقطر إخلاصاً وخوفا منه:



[ صفحه 29]



«عظم الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك» [3] .

ولمّا أودعه طاغية زمانه الملك هارون الرشيد في ظلمات السجون تفرغ للطاعة والعبادة حتي بهر بذلك العقول وحير الالباب، فقد شكر الله علي تفرغه لطاعته قائلا:

«اللّهم انّني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهمّ وقد فعلت فلك الحمد» [4] .

لقد ضرب الإمام المثل الأعلي للعبادة فلم يضارعه أحد في طاعته واقباله علي الله، فقد هامت نفسه بحبه تعالي، وانطبع في قلبه الايمان العميق.

وحدّث الشيباني [5] عن مدي عبادته، فقال: كانت لأبي الحسن موسي (عليه السلام) في بضع عشر سنة سجدة في كل يوم بعد ابيضاض الشمس الي وقت الزوال [6] ، وقد اعترف عدوه هارون الرشيد بأنه المثل الأعلي للانابة والايمان، وذلك حينما أودعه في سجن الربيع [7] فكان يطل من أعلي القصر فيري ثوباً مطروحاً في مكان خاص من البيت لم يتغير عن موضعه فيتعجب



[ صفحه 30]



من ذلك ويقول للربيع:

«ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع»؟!

ـ يا أمير المؤمنين: ما ذاك بثوب، وإنما هو موسي بن جعفر، له في كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس الي وقت الزوال.

فبهر هارون وانطلق يبدي إعجابه.

ـ أما إنّ هذا من رهبان بني هاشم!!

والتفت إليه الربيع بعد ما سمع منه اعترافه بزهدالإمام وعزوفه عن الدنيا طالباً أن يطلق سراحه ولا يضيّق عليه قائلاً:

يا أمير المؤمنين: ما لك قد ضيّقت عليه في الحبس!!؟

فأجابه هارون بما انطوت عليه نفسه من عدم الرحمة والرأفة قائلاً:

«هيهات: لابد من ذلك!» [8] .

ب ـ صومه: كان الإمام(عليه السلام) يصوم في النهار ويقوم مصلّياً في الليل، خصوصاً لمّا سجنه هارون فإنه لم يبارح العبادة الاستحبابية بجميع أنواعها من صوم وغيره، وهو يشكر الله ويحمده علي هذا الفراغ الذي قضاه في عبادته.

ج ـ حجّه: وما من شيء يحبه الله وندب إليه إلاّ فعله الإمام عن رغبة واخلاص، فمن ذلك أنه حج بيت الله ماشياً علي قدميه، والنجائب تقاد بين يديه، وقد حج معه أخوه علي بن جعفر وجميع عياله أربع مرات، وحدّث علي بن جعفر عن الوقت الذي قطعوا به طريقهم فقال: كانت السفرة الاُولي ستاً وعشرين يوماً، والثانية كانت خمساً وعشرين يوماً، والثالثة كانت أربعاً وعشرين يوماً، والرابعة كانت إحدي وعشرين يوماً [9] .



[ صفحه 31]



د ـ تلاوته للقرآن: كان الذكر الحكيم رفيق الإمام في خلواته، وصاحبه في وحشته وكان يتلوه بامعان وتدبر، وكان من أحسن الناس صوتا به، فاذا قرأ يحزن، ويبكي السامعون لتلاوته [10] .

وحدّث حفص عن كيفية تلاوته للقرآن فقال: وكان قراءته حزناً فاذا قرأ فكأنه يخاطب إنساناً [11] بهذه الكيفية كان يتلو آيات الذكر الحكيم فكان يمعن في تعاليمه ويمعن في آدابه، ويتبصر في أوامره ونواهيه وأحكامه.

هـ ـ عتقه للعبيد: ومن مظاهر طاعة الإمام(عليه السلام) عطفه واحسانه علي الرقيق فقد أعتق الف مملوك [12] كل ذلك لوجه الله، وابتغاء مرضاته، والتقرب إليه.


پاورقي

[1] جوهرة الكلام: 139.

[2] الارشاد: 2 / 231 وعنه في كشف الغمة: 3 / 18.

[3] وفيات الأعيان: 4 / 293، وكنز اللغة: 766، وتاريخ بغداد: 13 / 27 وعنه في الأنوار البهية: 190.

[4] مناقب آل أبي طالب: 4 / 343، ووفيات الأعيان: 4 / 293.

[5] الشيباني: هو أبو عبدالله محمد بن الحسن مولي لبني شيبان حضر مجلس أبي حنيفة سنين، وتفقه علي أبي يوسف، وصنف الكتب الكثيرة ونشر علم أبي حنيفة وقال الشافعي: حملت من علم محمد بن حسن وقر بعير وقال أيضاً: ما رأيت أحداً يسأل عن مسألة فيها نظر الا تبينت فيوجهه الكراهة الا محمد بن الحسن. توفي بالري سنة (187 هـ) وهو ابن ثمان وخمسين سنة كما جاء في طبقات الفقهاء: ص 114.

[6] حياة الإمام موسي بن جعفر (عليه السلام): 1 / 140 عن بحار الأنوار.

[7] الربيع بن يونس كان حاجباً للمنصور ثم صار وزيراً له بعد أبي أيوب، وكان المنصور كثير الميل إليه حسن الاعتماد عليه قال له يوماً: ويحك ياربيع ما أطيب الدنيا لولا الموت، فقال له الربيع: ما طابت الدنيا إلاّ بالموت، قال له: وكيف ذلك؟ فأجابه لولا الموت لم تقعد هذا المقعد، فقاله له: صدقت، وقال له المنصور لمّا حضرته الوفاة: بعنا الآخرة بنومة، ويقال إن الربيع لم يكن له أب يعرف، وان بعض الهاشميين وفد علي المنصور فجعل يحدثه ويقول له: كان أبي رحمه الله، وكان، وكان،وأكثر من الترحم عليه، فقال له الربيع:كم تترحم علي أبيك بحضرة أمير المؤمنين؟ فقال له الهاشمي: أنت معذور لانك لاتعرف مقدار الآباء فخجل أشدّ الخجل. توفي الربيع سنة (170 هـ) جاء ذلك في وفيات الأعيان: (ج1 / ص231 ـ 233) ط. بولاق.

[8] عيون أخبار الرضا: 1 / 95 ح 14 وعنه في الأنوار البهية: 189.

[9] بحار الأنوار: 48 / 100 ح 2 عن قرب الاسناد.

[10] المناقب: 4 / 348.

[11] اُصول الكافي: 2 / 606 وعنه في بحار الأنوار: 48 / 111.

[12] عن الدر النظيم، في مناقب الأئمة اللهاميم ليوسف بن حاتم الشامي، مخطوط في مكتبة الإمام الحكيم العامة (النجف الاشرف).