بازگشت

ذلك الطفل


يقال ان الانسان لا يخضع في سلوكه لتكوينه الداخلي فقط بل يتفاعل مع العوامل الخارجية التي تطبعه بآثارها في دخائل نفسه و أعماق ذاته حيث تغرس العادات و التقاليد و التصرفات فان حسنت حسن و ان ساءت ساء..

و ان لاستقرار المحيط البيئي أثره علي الفرد فالأسرة المتكاتفة المتعاون أعضاؤها، تضامنا و تحابا و الفة تنشي طفلا سويا تعاونيا.. فهو كالعجينة يكيفه والده أولا مجتمعه ثانيا و الامام موسي عليه السلام ابن الصادق ذلك النبراس العظيم و المعلم الكبير للانسانية فكيف تراه يكون ذلك الطفل الغرسة الطاهرة



[ صفحه 108]



التي تسقي من رحيق الرسالة و تترعرع في في ء الهدي لأم حميدة محمودة طاهرة عابدة ساجدة نقية مصانة مصونة و في بيت معهد يخرج الفضائل و الفضيلة و يدرس الايمان و التقوي... أربعة آلاف كل يقول حدثني الصادق عليه السلام و من أقطاب الدنيا يجي ء طالب العلم لينهل من الينبوع أكثر من قمة العطاء و التقي و الفضيلة فالأحري بذلك الطفل أن يتقمص شخصية ذلك الأب ان لم يزد علي ذلك بذكائه و نبوغه و رهافة حسه و امتثاله تعاليم الهدي...، موسي عليه السلام مولود الرسالة غمرته بالنور الذي تقلب في الأصلاب الطاهرة و سقته رحيقها رشفة من قطر السماء، الفة و مودة و رأفة لا هجر في كلام و لا تكلف في حياة و لا مراءاة... بيته ذلك الموقع الطاهر و تربته تلك التربة المطهرة حرفها القرآن و نسيمها العبادة و شمسها الصلاة و ضوؤها ذلك الشعاع السماوي المتلألي ء الدافق بحب الهي يصعب وصفه... يرقي الي اللاوصف... يقول الشهيد زيد بن علي عليه سلام الله: (في كل زمان رجل منا أهل البيت يحتج الله به علي خلقه، و حجة زماننا ابن أخي جعفر لا يضل من تبعه و لا يهتدي من خالفه)

[1] .

و قد سكب هذا الامام العظيم في نفس ولده موسي جميع مثله و نزعاته حتي صار بحكم نشأته و تربيته من أفذاذ الفكر الاسلامي و من أبرز أئمة المسلمين...

لقد كان الامام موسي عليه السلام وحيدا في خصائصه و مقوماته فأسرته معدن التقوي و خزنة الحكمة و العلم و مختلف الملائكة و مهبط الوحي و التنزيل و اليها تنتهي كل المكارم و الفضائل في الاسلام. و نطفته من صلب النبوة و الرسالة. أما الرحم التي حضنته فهي كالسبيكة المصفاة... ابنة ذلك البربري الطاهر المؤمن المحمودة الحميدة من خيرة النساء...



[ صفحه 109]



أما ما حوله فكان جو القرآن و الفضيلة ان قلده يقلد التقي و ان ظمي ء ينهل من النبع الطهور... ورث موسي عليه السلام من آبائه عليهم سلام الله كل الصفات الحميدة كرما و سخاء (صرر موسي) و حلما و رحمة و حبا للخير و برا بالناس و تفانيا لأجل الآخرين... مشكاة النور من النور يقول نوح عليه السلام: (رب لا نذر علي الأرض من الكافرين ديارا (26) انك ان تذرهم يضلوا عبادك و لا يلدوا الا فاجرا كفارا) [2] ، فالكافر يعطي الكفر المؤمن ينضح الايمان... و نور موسي من نور جعفر لنور أبيه محمد لنور أبيه علي لنور الحسين لنور أميرالمؤمنين عليهم أجمعين أفضل الصلاة و السلام... حضن طاهر تسلسله الأحضان الطاهرة و ايمان باهر تناقلته القلوب المؤمنة... لتصل الي صنو النبي صلي الله عليه و آله و سلم وليد الكعبة و السابق ايمانا و محطم الأصنام و من لو شاء نال نجوم السماء و هو علي كتف رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: (تخيروا لنطفكم فان العرق دساس) موسي بن جعفر عليهما سلام الله مولود الطهارة و الايمان و وعاء التقي و العبادة و الورع... العبد الصالح... كاظم الغيظ ذو الطاقة الهائلة من النور و العطاء و الاستيعاب و البذل. فان قلنا الذكاء الاجتماعي هو فهم الناس فهما صحيحا و السلوك معهم بحكمة و روية لكان عليه السلام القمة في الذكاء و ان قلنا قوامه المدركات الكلية و الرمزية تمييزا للأمور صحيحها و سقيمها و حقها و باطلها و جذرها و متجذرها مذهبا و تمذهبا لكان النبراس حكمة (قصة العمري) و روية و ادراكا لحقائق الأمور و معرفة لخفايا و كنه الأشياء التي لم يدركها فطاحل العلماء فهو عليه السلام و منذ قلامة أظفاره أحاط بكل العلوم و المعارف و الأصول...

انه الامام أعلم أهل عصره و أكثرهم دراية و احاطة بكل ما تحتاج اليه الأمة في كافة أمور حياتها فعلمه الهامي لا سبي كالأنبياء و موسي عليه السلام كسائر الأئمة عليهم السلام خصهم الله سبحانه بذلك فلقد كان الجواد عليه السلام حفيده



[ صفحه 110]



أصغر الأئمة سنا، رجع اليه العلماء الكبار و الشيعة بعد وفاة أبيه الرضا عليه السلام و كان عمره الشريف لا يتجاوز السبع سنين حين عقد له المأمون مؤتمرا علميا و عهد لكبار العلماء و الفقهاء بامتحانه بأكثر المسائل غموضا و تعقيدا فكان لديه الجواب الشافي الكافي.

و خاضوا معه مختلف العلوم فأعطاهم كلمة الحق ظافرا منتصرا ملك قلوبهم اعجابا جعلهم يدينون بامامته و هو الطفل الصغير و هم الكبار سنا المتمرسون حياة... و المتقلبون تفكيرا... قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم (حسين مني و أنا من حسين).

جاء أن أباحنيفة المتذهب بالجبرية الداعي اليها سافر الي يثرب محاججا الامام الصادق عليه السلام و الذي كان من خصوم هذه الفكرة (التي تقول بأن الفعل الصادر من الانسان ليس مخلوقا له و ليس صادرا منه باختياره و انما هو مخلوق لله و صادر عن ارادة الله و ان ارادة الانسان و قدرته لا دخل لها في ايجاد أي فعل سواء أكان صادرا منه باختياره أم مكرها عليه) و قد أجمعت الشيعة علي بطلان ذلك و بعده عن الصواب، حيث أثبت علماء الأصول زيفه مقررين أن أي فعل يسبق بمقدمات ارادية هي: تصور الشي ء ذهنيا ثم ميل النفس اليه فالجزم بفائدته لتتعلق الارادة به و يسعي الانسان لايجاده و الأمر به مهما كان و ليس هناك أي قسر أو اجبار للانسان علي فعله.

و عندما وصل يثرب قصد دار الامام عليه السلام و جلس في دهليز الدار منتظرا الاذن و بينما هو جالس خرج صبي يدرج فبادره أبوحنيفة قائلا: أين يضع الغريب؟ فالتفت اليه الصبي و قال له: علي رسلك، ثم جلس متأدبا، و استند الي الحائط و انبري اليه يجيبه علي سؤاله قائلا: (توق شطوط الأنهار، و مساقط الثمار، و أفنية المساجد و قارعة الطريق، و توار خلف الجدار، و لا تستقبل القبلة، و لا تستدبرها، وضع أين شئت)؟؟



[ صفحه 111]



لم يجبه عليه السلام فورا و لا و هو واقف بل جلس متأدبا ثم بين له المواقع لقد بهر أبوحنيفة (و هو الذي أحضره المنصور بمسائله العويصة كي يحرج الامام الصادق عليه السلام... و ها هو ذا طفل يقف مجيبا اياه) و بدا الذهول في وجهه فاندفع يسأل الصبي...: ما اسمك؟!

يقول عليه السلام: موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب... و لما عرف أبوحنيفة أن الصبي فرع من دوحة النبوة و الامامة اطمأنت نفسه و تقدم اليه بالسؤال الذي أعده للامام الصادق عليه السلام قائلا: «يا غلام ممن المعصية؟ هل هي من الله أم من العبد؟»

و انطلق عليه السلام فأجابه: (لا تخلو أما أن تكون من الله و ليس من العبد شي ء فليس لله أن يأخذ العبد بما لم يفعل و أما أن تكون من العبد و من الله و الله أقوي الشريكين، فليس للشريك القوي أن يأخذ الضعيف بذنب هما فيه سواء، و أما أن تكون من العبد و ليست من الله فان شاء عفا و ان شاء عاقب و هو المستعين).

لقد ملأت الدهشة أعطاف أبي حنيفة الذي وقف مبهورا رافعا عقيرته قائلا: لقد استغنيت بما سمعت...

و شاعت هذه المساءلة ورد الامام عليه السلام الذي دل علي ما وصل اليه عليه السلام من العلوم و المعارف رغم سنه المبكر فلقد أدرك ما لا يدركه العلماء الكبار بأفكارهم و تجاربهم...

هذا ما كان شأن أبي حنيفة و أما بشأن أبي الخطاب ذلك الملحد الذي زعم أن جعفر بن محمد اله - تعالي الله عن قوله - و استحل المحارم فكان أصحابه كلما ثقل عليهم أداء فريضة أتوه و قالوا يا أباالخطاب خفف علينا، فيأمرهم بتركها حتي تركوا جميع الفرائض و استحلوا جميع المحارم و ارتكبوا المحظورات حتي شهادة الزور. و عندما ظهرت مبادئه الهدامة في الكوفة في



[ صفحه 112]



وقت خرج من زوال بني أمية و ظهور بني العباس حيث ساعدته الظروف في جمع نفر من أهل الكوفة يلقنهم تعاليمه و يرسهم لهم خطط الدعوة و الظهور و وصلت بدعه الي الامام الصادق عليه السلام فتبرأ منه و لعنه علي رؤوس الأشهاد فهو سابقا كان من أصحابه و أتباعه ثم ارتد بعدئذ...

و قد هرع عيسي الشلقاني الي الامام الصادق عليه السلام يسأله رأيه في هذا الملحد الخطير فقال عليه السلام: يا عيسي، ما منعك أن تلقي ابني (يعني الامام موسي) فتسأله عن جميع ما تريد؟.

فانعطف عيسي نحو الامام و كان آنذاك صبيا في المكتب فلما رآه عليه السلام انبري اليه مجيبا قبل أن يسأله قائلا له: (يا عيسي ان الله تبارك و تعالي أخذ ميثاق النبيين علي النبوة فلم يتحولوا عنها أبدا و أخذ ميثاق الوصيين علي الوصية، فلم يتحولوا عنها أبدا و أعار قوما الايمان زمانا ثم سلبهم اياه، و ان أباالخطاب ممن أعير الايمان ثم سلبه اياه...).

و أكبر عيسي جواب الامام فقام اليه و ضمه و قبل ما بين عينيه و انطلق يقول: «بأبي أنت و أمي، ذرية بعضها من بعض و الله سميع عليم» ثم قفل راجعا الي الامام أبي عبدالله: يا عيسي ان ابني هذا لو سألته عما بين دفتي المصحف لأجابك فيه بعلم».

ثم انه أمر باخراج ولده من المكتب (و في ذلك الوقت أيقن عيسي بامامة موسي عليه السلام و أنه ولي عهد أبيه) فأجلسه الي حجره و كان معه لوح فقال له يا بني اكتب:



تنح عن القبيح و لا ترده...



فلما رسم ذلك قال له يا بني أجزه فاندفع فورا يقول:



و من أوليته حسنا فزده





[ صفحه 113]



ثم ألقي له الامام شطرا آخر يطلب منه اجازته و هو:



ستلقي من عدوك كل كيد



فأجازه:



اذا كان العدو فلا تكده



و فرح الامام عليه السلام بمواهب ولده و عبقريته فضمه اليه قائلا: (ذرية بعضها من بعض) [3] .

و كان من آيات نبوغه في طفولته ما حدث به صفوان الجمال، قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن صاحب هذا الأمر فقال لي: (صاحب هذا الأمر لا يلهو و لا يلعب)، و يقول صفوان: بينما يحدثني عن ذلك اذ أقبل أبوالحسن موسي عليه السلام و هو صبي و معه بهمة عناق يخاطبها قائلا: اسجدي لربك فأخذه أبو عبدالله عليه السلام و ضمه اليه و هو يقول له: (بأبي أنت و أمي من لا يلهو و لا يلعب) [4] .


پاورقي

[1] المناقب، 2 / 147.

[2] سورة نوح، الآيتان: 27، 26.

[3] المناقب، 2 / 380.

[4] البحار، 11 / 236.