بازگشت

جامعة الامام الصادق


لقد نمي الامام الصادق عليه السلام جامعة أهل البيت و مدها بعناصر الحياة و البقاء تلك الجامعة التي كان المؤسس الأول لها الامام أميرالمؤمنين عليه السلام الرائد الأول للعلم و التطور في الاسلام فقد جهد علي نشر العلوم و تثقيف المسلمين حيث اتخذ جامع الكوفة مدرسة له يلقي من علي منبره خطبه الحافلة بعلم الاقتصاد و السياسة و الادارة و الفلسفة و الحكمة، و أصول التربية الهادفة الي اقامة حسن السلوك و الأخلاق... فخص أصحابه بعلومه النيرة المستمدة من علوم النبي العظيم صلي الله عليه و آله و سلم فأخذوا منه علم الكلام و التوحيد و الفقه و التفسير و الشريعة و البلاغة فأمدوا العالم الاسلامي بتراثهم و مؤلفاتهم فكان منهم (حبر الأمة و مرجعها عبدالله بن عباس و منهم الأستاذ الأول لعلم النحو أبوالأسود الدؤلي، و منهم أول من صنف علم المغازي و السير أبورافع صاحب كتاب السنن و الأحكام و القضاء) و بعده قام الحسن المجتبي ريحانة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و سبطه الأول عليه السلام بتنمية تلك المؤسسة التي انتقلت من الكوفة الي يثرب بعد غدر أهل العراق به فاتخذ عليه السلام الجامع النبوي معهدا له يلقي به محاضراته العلمية و من تلامذته (الحسن المثني، و المسيب بن نجبة، و سويد بن غفلة، و العلاء بن عبدالرحمان، و الشعبي، و هبيرة بن بركم، و الأصبغ بن نباتة، و جابر بن خلد، و أبوالجواز، و عيسي بن مأمون بن



[ صفحه 118]



زرارة، و نفالة بن المأموم و عمير بن سعيد النخعي، و أبومريم بن قيس الثقفي، و طحرب العجلي، و اسحاق بن يسار والد محمد بن اسحاق و عبدالرحمان بن عوف، و سفين بن الليل، و عمر بن قيس الكوفيون) [1] .

و ازدهرت يثرب في عصره و أصبحت أخصب بلاد الاسلام علما و أدبا و ثقافة و بعد وفاة الحسن عليه السلام انبري أخوه الامام الحسين عليه السلام الي رعاية ذلك المعهد و تغذية طلابه بأنواع العلوم لكن ابتلاءه بطاغية زمانه (يزيد بن معاوية) الذي أعلن الكفر و الالحاد و الفسوق و المجون و الذي امتحن به الامام عليه السلام امتحانا عسيرا رأي أن الواجب الديني يحتم عليه أن يفدي دين جده بدمه الغالي و أن يقدم الكواكب من أبنائه و أهل بيته ضحايا في سبيل كلمة التوحيد و انقاذ المسلمين من جور الأمويين و بطشهم فسجل بذلك أروع تضحية في سبيل الحق و المبدأ لم يشاهد التاريخ الانساني أسمي منه و لذا قيل (الاسلام بدؤه محمدي و بقاؤه حسيني)، و بعد استشهاده عليه السلام انصرف الامام و ولده علي بن الحسين الذي قال فيه الزهري: (ما رأيت قرشيا أفضل من علي بن الحسين عليه السلام) انصرف الي العبادة فكان يصوم نهاره و ينفق ليله متعبدا حتي صار كالشن البالي من كثر عبادته اضافة الي الأحزان علي ما حل بأبيه و أهل بيته فكربلاء أمامه بكل آلامها و كان خامس البكائين...

و بالرغم من كل ما ألم به فقد قام عليه السلام بدور هام في تزويد العلماء و الرواة بأحاديثه في مختلف العلوم و قد روي عنه أولاده محمد الباقر عليه السلام و زيد الشهيد و عبدالله و أبوسلمة بن عبدالرحمن و طاوس بن كيسان، و أبو الزناد و عاصم بن عمر بن قتادة، و عاصم بن عبيدالله، و القعقاع بن حكيم، و زيد بن أسلم و الحكم بن عتيبة، و حبيب بن أبي ثابت، و أبوالأسود محمد بن عبدالرحمن بن نوفل، و مسلم البطين و يحيي بن سعيد الأنصاري



[ صفحه 119]



و هشام بن عروة و علي بن زيد بن جدعان و آخرون [2] ، و ترك عليه السلام الصحيفة السجادية (زبور آل محمد) و يقال (انجيل آل محمد) عليه السلام، و ذلك لما حوته من الثروات الفكرية المتميزة بوضع قواعد الأخلاق و أصول الفضائل و علوم التوحيد و غيرها... كذلك (رسالة الحقوق) و هي أروع رسالة ألفت في الاسلام حيث وضعت الأسس لحقوق الدولة علي الشعب و حقوق الشعب علي الدولة و حقوق المسلمين بعضهم علي بعض، و صاغت البرامج العامة لأصول التربية و أنواع السلوك و آداب التعليم و حقوق المعلم علي المتعلمين و غير ذلك.

و بعده عليه السلام قام الامام محمد الباقر عليه السلام الذي ورث عن أبيه رسالته و رعاية مؤسسته الدينية لتزويد علمائها و طلابها بعلوم الاسلام و آدابه، و لقد ازدهرت في عصره معاهد العلم و التف حوله العلماء، ينتهلون النبع الثر من علومه المباركة، و لقد كان المرجع الوحيد للعالم الاسلامي في عصره لعلوم الشريعة حيث تصاغر أمامه كل علماء عصره اعترافا منهم بسمو منزلته العلمية التي لا يدانيها أحد [3] ، و لقد روي عنه زرارة بن أعين (يقول الصادق عليه السلام: لولا زرارة لظننت أن أحاديث أبي ستذهب) [4] ، و محمد بن مسلم الذي سمع منه ثلاثين ألف حديث [5] .

و أبوبصير (قال الصادق عليه السلام فيه و في اخوانه: «لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة و اندرست) [6] ، و عبدالملك بن أعين (دعا له الامام الصادق عليه السلام فقال: اللهم ان أبا الضريس كنا عنده خيرتك من لخقك، فصيره في ثقل



[ صفحه 120]



محمد صلواتك عليه يوم القيامة) [7] . و روي عنه أيضا عمر بن دينار و هو من رجال الصحاح السنة، و كذلك الأعرج و الزهري و أبوجهضم موسي بن سالم و القاسم بن الفضل و الأوزاعي و ابن جريج و الأعمش و شيبة بن نصاح و عبدالله بن أبي بكر و عمر بن حزم و عبدالله بن عطاء و بسام الصيرفي و حرب بن سريج و حجاج بن أرطأة و محمد بن سوقة و مكحول بن راشد و معمر بن بسام و غيرهم [8] .

و نمت و ازدهرت في دوره جامعة أهل البيت عليهم السلام و أمدت العالم بجميع مقومات النهضة الفكرية التي حمل مشعلها الصادق عليه السلام بعد أبيه الباقر عليه السلام لقد عملت جامعة الامام الصادق عليه السلام علي ايقاظ الفكر البشري و بلورة العقلية الاسلامية، و تطوير المجتمع الانساني، فأنتجت صفوة العلماء و قادة المفكرين و الملهمين الذين جهدوا علي نشر العلم بجميع أنواعه و ببركة جهودهم نضجت الحياة الفكرية في ذلك العصر. حتي سمي بحق العصر الذهبي للاسلام. قال أحدهم: (الحقيقة أن مدرسة الاسلام جعفر الصادق الفكرية قد أنجبت خيرة المفكرين و صفوة الفلاسفة و جهابذة العلماء و اذا كان هناك حقيقة يجب أن تقال فهي: أن الحضارة الاسلامية و الفكر العربي مدينان لهذه المدرسة الفكرية بالتطور و الرقي و الخلود، و لعميدها الصادق بالمجد العلمي و التراث الثمين).

لقد انطلقت تلك الجامعة العظيمة في عهد الامام الصادق عليه السلام و الذي زامن انتهاء دولة و ابتداء دولة، فتن كقطع الليل مع أهواء فاسدة و مجتمع متفكك أحرقته نيران الحروب المشتعلة في الأمصار كافة فلم يعد الناس



[ صفحه 121]



يهتمون الا بالمناجزة السياسية فلا علم و لا دين في قلوبهم ولا عقيدة تمخر لبابهم.. الهرج و المرج و الدماء... في ذلك الليل الحالك أمسك النور بكلتا يديه عليه السلام ليري الناس طريقهم بعد ضلال... و اذا بهم يقبسون الطريق بعد التيه فانطلقت ركابهم الي ظلال الاسلام الذي جعل طلب العلم فريضة و وجدوا في حفيد الرسول صلي الله عليه و آله و سلم القائد الموجه لهم الي شاطي ء السلام في رحاب مدرسته التي تفرغ لها كلية فقد كان بمعزل عن التدخل بأي شأن من شؤون الدول أموية كانت أم عباسية لذا طلب الحكام رضاءه و السلطات ابتعدت عن مراقبته و التضييق عليه أو منعه نشر علومه فلذا وجد أمامه المجال المتسع لفتح أبواب مدرسته و تغذيه طلابه بالعلوم و المعارف فسارع اليه كبار العلماء و الرواة و المحدثين للانضواء تحت رايته فوجد عليه السلام لهم خير عون لأداء رسالته الاصلاحية التي بلورت عقلية المجتمع الاسلامي و أنقذته من رواسب الجهل و الجمود و كان لادارته المباشرة و اشرافه المتواصل الأثر الكبير في النجاح الذي تحقق فلقد أجمع المسلمون بكل طوائفهم و علي مختلف نزعاتهم أنه من ألمع أئمة المسلمين علما وفقها و موهبة مما أدي لنجاح تلك الجامعة العظيمة. و قد كانت يثرب مدينة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم و مهبط الوحي دار جامعته العظمي فأصبح موئل العلماء و ملاذ الفقهاء في أطهر بقعة اختارها رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و هو مسجده الطاهر (الجامع النبوي)... مكانا لجامعته.

و ها هي الكوفة و البصرة و واسط و الحجاز ترسل أبناءها الي جعفر بن محمد عليه السلام من كل قبيلة من قبائل العرب: غفار و غطفان و الأزد و خزاعة و خثعم و مخزوم و بني ضبة و سليم و مخارق و طي و أسد و قريش سيما بني الحارث بن عبدالمطلب و بني الحسن بن علي و من شتي الأقطار الاسلامية للانتهال من علوم الامام و تهذيب نفوسهم بأحكام الدين من حفيد النبي العظيم صلي الله عليه و آله و سلم و بذلك حقق المجتمع الاسلامي نصرا رائعا في تأييد الحركة العلمية و بناء كيانها فلقد صنف الحافظ أبوالعباس الهمداني الكوفي كتابا في



[ صفحه 122]



أسماء الرجال الذين رووا الحديث عن الامام الصادق عليه السلام فذكر ترجمة أربعة آلاف راو منهم [9] .

و هذا العدد الضخم الذي لم يعهد له مثيل في أي معهد علمي و الذي كان من كبار العلماء و المحدثين الذين أصبح بعضهم أئمة و رؤساء لبعض المذاهب الاسلامية نقلوا عن الامام عليه السلام من العلوم و المعارف ما سارت به الركبان و انتشر ذكره في كل البلدان فقد كان بيت جعفر الصادق عليه السلام كالجامعة يزدان علي الدوام بالعلماء الكبار في الحديث و التفسير و الحكمة و الكلام. و لقد ألف تلاميذه مجموعة من الكتب عدت دائرة علمية للمذهب الجعفري أو الشيعي... و من تخرج من تلك الجامعة عاد الي موطنه حاملا معه ارثا علميا هيأه لتأسيس معاهد علمية و أندية دينية عملت علي تهذيب النفوس و تشذيب الأخلاق و كان من أعظمهم المعهد الديني الكبير الذي أقيم في جامع الكوفة حيث بلغ من التحق به من المتخرجين من مدرسة الامام تسعمائة عالم و كما حدث بذلك الحسن بن علي الوشاء قال: أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ كل يقول حدثني جعفر بن محمد [10] .

و قد انتهل من نمير علومه كثير من الأسر العلمية في الكوفة و عرفت بعد ذلك بالفقه و الحديث مثال بيت آل حيان تغلبي و آل أعين و بني عطية و دراج و غيرهم [11] ، و لقد احتفت به هذه الأسر أثناء اقامته بالكوفة أيام السفاح حيث دام بقاؤه عامين.

كان منزله في بني عبدالقيس حيث ازدحمت عليه الشيعة تستفتيه و تسأله عن أحكام دينها.



[ صفحه 123]




پاورقي

[1] حياة الامام الحسن عليه السلام نقلا عن تاريخ ابن عساكر.

[2] تهذيب التهذيب، 7 / 305.

[3] مرآة الجنان، 1 / 248.

[4] رجال الكشي، ص 88.

[5] رجال الكشي، ص 112.

[6] رجال الكشي، ص 113.

[7] رجال الكشي، ص 117.

[8] تهذيب التهذيب، 9 / 350.

[9] تاريخ الكوفة، ص 40.

[10] المجالس السنية، ج 5، ص 28.

[11] تاريخ الكوفة، ص 408.