بازگشت

البلخي




أو ما سمعت بقصة البلخي مع موسي بن جعفر

ان كنت في شك الغواة بليلة و الصبح أسفر



أو كنت بعد بمرية أو كنت تضمر

شرا يوسوس فيه شيطان لك الشر





[ صفحه 164]





فاسمع تزيل غشاوة و انظر تفكر

ما بين ترب القادسية و اللظلي في الرمل يسعر



مدت به النفس الظنون و ما درت بالحق يظهر

آتاه صمتا لم تقل شفتاه في حرف و تجهر



حين انبري ناداه باسمه رادعا عما قد افتر

و الشك في قلب ابن آدم دائم بالحق يقهر



حين انجلي الوادي (بفضة) سارع البلخي ينظر

مستهدفا ذاك الذي قولا من الشفتين قد مر



ناداه ثانية بآيات الكتاب و ما تقدم أو تأخر

فاهتز في البلخي قلب كاد بالشفتين يشهر



في دوحة الأبواء و البئر استفاض بماء كوثر

من بعد أن رمق السماء مناجيا و الحرف يجهر



طافت بوجه المساء ركوته التي ما ان تحسر

جاءته ساعية لأجل وضوئه سعيا تفكر



يا أيها البلخي فاسعي نحو من بالحرف طهر

مد الخطي نحو الامام مسارعا يبغي يعفر



أو يستقي من ركوة رشفا يذيب الحر يقهر

فاذا به الرمل استحال سويقة ديفت بسكر



حين ارتشفت رحيقها ما عاد بي جوع يثرثر

سبحان من فتح السماء فأنزلت و الصخر فجر



سبحان ربي قالها البلخي من قلب به الايمان عمر

حين الجواب أي: بذا موسي بن جعفر



و في السنة التي قبض فيها الامام الصادق عليه السلام قال علي بن أبي حمزة دخلت علي أبي الحسن موسي عليه السلام فقلت له: كم أتي لك؟ قال: تسع عشرة سنة، قال: فقلت: ان أباك أسر الي سرا و حدثني بحديثه فأخبرني به فقال لي:



[ صفحه 165]



قال لك كذا و كذا حتي نسق لي جميع ما أخبرني به أبو عبدالله عليه السلام [1] .

و عن مولي لأبي عبدالله عليه السلام قال: كنا مع أبي الحسن عليه السلام حين قدم به البصرة فلما أن كان قرب المدائن ركبنا في أمواج كثيرة و خلفنا سفينة فيها امرأة تزف الي زوجها فكانت لهم جلبة فقال: ما هذه الجلبة؟ قلنا: عروس فما لبثنا أن سمعنا ضجة، فقال: ما هذا؟ فقالوا: ذهبت العروس لتغترف ماء فوقع منها سوار من ذهب فصاحت، فقال: احبسوا و قولوا لملاحهم يحبس، فحبسنا و حبس ملاحهم، فاتكأ علي السفينة و همس قليلا و قال: قولوا لملاحهم يتزر بفوطة و ينزل فيتناول السوار، فنظرنا فاذا السوار علي وجه الأرض و اذا ماء قليل، فنزل الملاح فأخذ السوار فقال: اعطها و قل لها: فلتحمد الله ربها ثم سرنا، فقال له أخوه اسحاق: جعلت فداك، الدعاء الذي دعوت به علمنيه، قال: نعم، و لا تعلمه من ليس له بأهل، و لا تكلمه الا من كان من شيعتنا ثم قال: اكتب، فأملي علي انشاء: (يا سابق كل فوت، يا سامعا لكل صوت قوي أو خفي، يا محيي النفوس بعد الموت، لا تغشاك الظلمات الحندسية و لا تشابه عليك اللغات المختلفة، و لا يشغلك شي ء عن شي ء يا من تشغله دعوة داع دعاه من الأرض عن دعوة داع دعاه من السماء، يا من له عند كل شي ء من خلقه سمع سامع و بصر نافذ، يا من لا تغلطه كثرة المسائل و لا يبرمه الحاح الملحين يا حي حين لا حي في ديمومة ملكه و بقائه، يا من سكن العلي و احتجب عن خلقه بنوره، يا من أشرقت لنوره و جاء الظلم أسألك باسمك الواحد الأحد، الفرد الصمد الذي هو من جميع أركانك كلها صل علي محمد و أهل بيته) ثم سل حاجتك.

و يحدث الوشاء فيقول: حدثني محمد بن يحيي عن وصي علي بن السري قال: قلت لأبي الحسن موسي بن جعفر عليه السلام ان علي بن السري



[ صفحه 166]



توفي و أوصي الي فقال: رحمه الله فقلت: و ان ابنه جعفرا وقع علي أم ولد له و أمرني أن أخرجه من الميراث، فقال لي: أخرجه و ان كان صادقا فسيصيبه خبل قال: فرجعت فقدمني الي أبي يوسف القاضي فقال له: أصلحك الله أنا جعفر بن علي السري و هذا وصي أبي، فمره أن يدفع الي ميراثي من أبي. فقال: ما تقول؟ قلت: نعم هذا جعفر و أنا وصي أبيه قال: فادفع اليه ماله، فقلت له: أريد أن أكلمك فقال: ادن فدنوت حيث لا يسمع أحد كلامي فقلت: هذا وقع علي أم ولد لأبيه فأمرني أبوه و أوصاني أن أخرجه من الميراث و لا أورثه شيئا فأتيت موسي بن جعفر عليه السلام بالمدينة فأخبرته و سألته فأمرني أن أخرجه من الميراث و لا أورثه شيئا. قال: فقال: الله ان أباالحسن أمرك بذلك؟ قلت: نعم، فاستحلفني ثلاثا و قال: أنفذ ما أمرك به، فالقول قوله: قال الوصي: و أصابه الخبل بعد ذلك، قال الحسن بن علي الوشا: رأيت علي ذلك تلك القصص و الأمثال يجري بها الناس تحمل بين أحرفها المعاني الجليلة و الدروس و الحكم و المواعظ، فمن شاء اتعظ و من شاء اتخذ لنفسه نهجا يسير به الي حيث يلاقي ربه الله بيدين طاهرتين أو دنستين (لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم) [2] ... (و تلك الأيام...). يقول عيسي المدائني خرجت سنة الي مكة فأقمت مجاورا ثم قلت أذهب الي المدينة فأقيم بها سنة مثل ما أقمت بمكة فهو أعظم لثوابي، فقدمت المدينة فنزلت طرف المصلي الي جنب دار أبي ذر (رض) و جعلت اختلف الي سيدي موسي الكاظم عليه السلام فبينما أنا عنده في ليلة مطيرة اذ قال: يا عيسي قم، فقد انهدم البيت علي متاعك فقمت فاذا بالبيت قد انهدم علي المتاع فاكتريت قوما كشفوا عن متاعي و استخرجته جميعه لم يذهب لي شي ء غير سطل للوضوء، فلما أتيته من الغد مسلما عليه قال: فقدت شيئا من متاعك فندعو الله لك بالخلف، فقلت: ما فقدت غير سطل كنت أتوضأ به، فأطرق



[ صفحه 167]



رأسه ثلاثا ثم رفعه فقال: قد ظننت أنك أنسيته قبل جارية رب الدار فاسألها عنه و قل لها: أنسيت السطل في بيت الخلاء فرديه و انها سترده عليك، قال: فسألتها عنه فردته [3] .

و حدث علي بن أبي حمزة فقال كنت عند أبي الحسن عليه السلام جالسا اذ أتاه رجل من الري يقال له جندب، فسلم عليه ثم جلس، فسأل أباالحسن فأكثر السؤال ثم قال له عليه السلام: يا جندب ما فعل أخوك؟ فقال: الخير و هو يقرئك السلام، فقال له: أعظم الله أجرك في أخيك، فقال له: ورد الي كتابه من الكوفة لثلاثة عشر يوما بالسلامة، فقال له: يا جندب و الله مات بعد كتابه بيومين، و دفع الي امرأته مالا و قال لها ليكن هذا المال عندك فاذا قدم أخي فادفعيه اليه، و قد أودعته في الأرض في البيت الذي كان يسكنه فاذا أنت أتيتها فتلطف لها و أطمعها في نفسك فانها ستدفعه لك. قال علي: و كان جندب رجلا جميلا.

و يحدث علي فيقول: فلقيت جندبا بعدما فقد أبوالحسن عليه السلام فسألته عما كان قال أبوالحسن عليه السلام، فقال: يا علي صدق و الله سيدي ما زاد و لا نقص في الكتاب و لا في المال.

تلك المغيبات التي كان عليه السلام يعلمها ما هي الا العلم الذي أنزله الله عليه و اطمأن به صدره فدفعه أمانة من أجل حفظ دين الله و رسالة نبيه.

يقول هشام بن الحكم: أردت شراء جارية بمني و كتبت الي أبي الحسن أشاوره فلم يرد علي جوابا، فلما كان في الطواف مر بي يرمي الجمار علي حمار فنظر الي و الي الجارية من بين الجواري ثم أتاني كتابه: لا أري بشرائها بأسا ان لم يكن في عمرها قلة؟ قلت: لا و الله ما قال لي هذا الحرف الا و ها هنا شي ء، لا و الله لا أشتريها، قال: فما خرجت من مكة حتي دفنت.



[ صفحه 168]



و هذا خالد يقول: خرجت و أنا أريد أباالحسن عليه السلام فدخلت عليه و هو في عرصة داره جالس، فسلمت عليه و جلست و قد كنت أتيته لأسأله عن رجل من أصحابنا كنت سألته حاجة فلم يفعل فالتفت الي و قال: ينبغي لأحدكم اذا لبس الثوب الجديد أن يمر بيده عليه و يقول: الحمد لله الذي كساني ما أداري به عورتي و أتجمل به بين الناس، و اذا أعجبه شي ء فلا يكثر ذكره فان ذلك مما يهده و اذا كانت لأحدكم الي أخيه حاجة أو وسيلة لا يمكنه قضاؤها فلا يذكره الا بخير فان الله يوقع ذلك في صدره فيقضي حاجته، قال: فرفعت رأسي و أنا أقول: لا اله الا الله، فالتفت الي و قال: يا خالد اعمل ما أمرتك.

لقد حاز عليه السلام ارث النبوة و بوي ء محل الخلافة و خص بشرف الولاية يقول اسحاق بن عمار: سمعت العبد الصالح ينعي الي رجل نفسه فقلت في نفسي: و انه ليعلم متي يموت الرجل من شيعته؟ فالتفت الي شبه المغضب فقال: يا اسحاق قد كان رشيد الهجري و كان من المستضعفين يعلم علم المنايا و البلايا، فالامام أولي بذلك، يا اسحاق اصنع ما أنت صانع فعمرك قد فني، و أنت تموت الي سنين و أخوك و أهل بيتك لا يلبثون من بعد الا يسيرا حتي تفرق كلمتهم و يخون بعضهم بعضا و يصيرون لاخوانهم و من يعرفهم رحمة حتي يشمت بهم عدوهم. قال اسحاق: فاني أستغفر الله مما عرض في صدري، فلم يلبث اسحاق بعد هذا المجلس الا سنتين حتي مات، ثم ما ذهبت الأيام حتي قام بنو عمار بأموال الناس و أفلسوا أقبح افلاس رآه الناس فجاء ما قال أبوالحسن عليه السلام فيهم ما غادر قليلا و لا كثيرا.

و حدث الوشا قال: حدثني الحسن بن علي قال: حججت أنا و خالي اسماعيل بن الياس فكتبت الي أبي الحسن الأول عليه السلام و كتب خالي ان لي بنات و ليس لي ذكر و قد قتل رجالنا و قد خلفت امرأتي حاملا، فادع الله أن يجعله غلاما و سمه، فوقع في الكتاب: قد قضي الله حاجتك فسمه محمدا،



[ صفحه 169]



فقدمنا الكوفة و قد ولد له غلام قبل وصولنا الي الكوفة بستة أيام و دخلنا يوم سابعه فقال أبومحمد: هو و الله اليوم رجل و له أولاد [4] .

و من المغيبات التي أنعم الله بها علي الامام موسي بن جعفر عليه السلام ما حدث به اسماعيل بن موسي فقال: كنا مع أبي الحسن عليه السلام في عمرة فنزلنا بعض قصور الأمراء، و أمر بالرحيل، فشدت المحامل و ركب بعض الغلمان و كان أبوالحسن عليه السلام في بيت فخرج فقام علي بابه فقال: حطوا حطوا، قال اسماعيل، و هل تري شيئا؟ قال عليه السلام: انه سيأتيكم ريح سوداء مظلمة ترمح بعض الابل، فحطوا. و جاءت ريح سوداء. قال اسماعيل بن موسي: فأشهد لقد رأيت جملا كان لي عليه كنيسة كنت رأكب فيها أنا و أحمد أخي و لقد قام ثم سقط علي جنبه بالكنيسة.

و يحدث زكريا بن آدم فيقول: سمعت الرضا عليه السلام يقول: كان أبي ممن تكلم في المهد.

و يقول الأصبغ بن موسي: بعث معي رجل من أصحابنا الي أبي ابراهيم عليه السلام بمائة دينار و كانت معي بضاعة لنفسي و بضاعة له فلما دخلت المدينة صببت علي الماء و غسلت بضاعتي و بضاعة الرجل و ذررت عليها مسكا ثم اني عددت بضاعة الرجل فوجدتها تسعة و تسعين دينارا فأعدت عدها و هي كذلك فأخذت دينارا آخر لي فغسلته و ذررت عليه المسك و أعدتها في صرة كما كانت و دخلت عليه في الليل فقلت له جعلت فداك ان معي شيئا أتقرب به الي الله تعالي فقال: هات، فناولته دنانيري و قلت له: جعلت فداك ان فلانا مولاك بعث اليك معي بشي ء فقال: هات، فناولته الصرة. قال: صبها، فصببتها فنثرها بيده و أخرج ديناري، ثم قال: انما بعث الينا و زنا لا عدا.



[ صفحه 170]



و عن عثمان بن عيسي قال: قال أبوالحسن عليه السلام لابراهيم بن عبدالحميد: - و قد لقيه سحرا و ابراهيم ذاهب الي قبا و موسي عليه السلام داخل المدينة - يا ابراهيم الي أين؟ قال: الي قبا، قال: في أي شي ء؟ فقال: انا في كل سنة نشتري من هذا التمر فأردت أن آتي في هذه السنة الي رجل من الأنصار فأشتري منه نخلا، فقال له موسي عليه السلام: و قد أمنتم الجراد ثم فارقه، فوقع علامة في صدره فلم يشتر شيئا، فما مرت خامسة حتي بعث الله جرادا أكل عامة النخل [5] .

و روي هشام بن أحمر أنه ورد تاجر من المغرب و معه جوار فعرضهن علي أبي الحسن عليه السلام، فلم يختر منهن و قال: أرنا، فقال: عندي أخري و هي مريضة، فقال: ما عليك أن تعرضها، فأبي، فانصرف ثم انه أرسلني من الغد اليه و قال: قل له: كم غايتك فيها؟ قال: ما أنقصها عن كذا و كذا. فقلت: قد أخذتها و هو لك فقال: و هي لك، و لكن من الرجل؟ فقلت: رجل من بني هاشم. فقال من أي بني هاشم؟ فقلت: ما عندي أكثر من هذا. فقال: أخبرك عن هذه الوصيفة: اني اشتريتها من أقصي المغرب، فلقيتني امرأة من أهل الكتاب فقالت: ما هذه الوصيفة معك؟ فقلت اشتريتها لنفسي، فقالت: ما ينبغي أن تكون هذه عند مثلك ان هذه الجارية ينبغي أن تكون عند خير أهل الأرض و لا تلبث عنده الا قليلا حتي تلد له غلاما ما يولد بشرق الأرض و لا غربها مثله، يدين له شرق الأرض و غربها، قال: فأتيته بها فلم تلبث الا قليلا حتي ولدت عليا الرضا عليه السلام [6] .

و يروي المجلسي من كتاب قضاء حقوق المؤمنين لأبي علي بن طاهر الصوري باسناده عن رجل من أهل الري قال: ولي علينا بعض كتاب



[ صفحه 171]



يحيي بن خالد و كان علي بقايا يطالبني بها و خفت من الزامي اياها خروجا عن نعمتي و قيل لي: انه ينتحل هذا المذهب، فخفت أن أمضي اليه فلا يكون كذلك فأقع فيما لا أحب فاجتمع رأيي علي أني هربت الي الله و حججت و لقيت مولاي الصابر يعني موسي بن جعفر عليه السلام فشكوت حالي اليه فأصبحني مكتوبا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، اعلم أن الله تحت عرشه ظلا لا يسكنه الا من أسدي الي أخيه معروفا أو نفس عنه كربة، أو أدخل علي قلبه سرورا و هذا أخوك و السلام. قال: فعدت من الحج الي بلدي و مضيت الي الرجل ليلا و استأذنت عليه و قلت: رسول الصابر عليه السلام. فخرج الي حافيا ماشيا ففتح لي بابه و قبلني و ضمني اليه و جعل يقبل بين عيني و يكرر ذلك كلما سألني عن رؤيته عليه السلام و كلما أخبرته بسلامته و صلاح أحواله استبشر و شكر الله ثم أدخلني داره و صدرني في مجلسه و جلس بين يدي فأخرجت اليه كتابه عليه السلام فقبله قائما و قرأه ثم استدعي بماله و ثيابه فقاسمني دينارا دينارا و درهما درهما و ثوبا ثوبا و أعطاني قيمة مالم يمكن قسمته و في كل شي ء من ذلك يقول: يا أخي هل سررتك؛ فأقول: اي و الله و زدت علي السرور ثم استدعي العمل فأسقط ما كان باسمي و أعطاني براءة مما يتوجه علي منه و ودعته و انصرفت عنه. فقلت: لا أقدر علي مكافأة هذا الرجل الا بأن أحج في قابل و أدعو له و ألقي الصابر عليه السلام و أعرفه فعله، ففعلت و لقيت مولاي الصابر عليه السلام و جعلت أحدثه و وجهه يتهلل فرحا فقلت: يا مولاي هل سرك ذلك فقال: اي و الله لقد سرني و سر أميرالمؤمنين، و الله لقد سر جدي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و لقد سر الله تعالي [7] .

و من الأمور الغيبية ما رواه أبوحمزة فقال: سمعت أباالحسن عليه السلام يقول: لا و الله لا يري أبوجعفر بيت الله أبدا، فقدمت الكوفة فأخبرت



[ صفحه 172]



أصحابنا بذلك. فلم يلبث أن خرج، فلما بلغ الكوفة قال لي أصحابنا في ذلك فقلت: لا و الله لا يري بيت الله أبدا، فلما صار في البستان اجتمعوا الي أيضا و قالوا: بقي بعد هذا شي ء؟ فقلت: لا و الله لا يري بيت الله أبدا فلما نزل بئر ميمون أتيت أباالحسن عليه السلام فوجدته قد سجد و أطال السجود ثم رفع رأسه الي فقال: اخرج فانظر ما يقول الناس، فخرجت فسمعت الداعية علي أبي جعفر فرجعت فأخبرته، فقال: الله أكبر ما كان ليري بيت الله أبدا. [8] .

و من حكمته عليه السلام ما كان يلجأ اليه ليدرأ السوأة التي يقترفها الآخرون و من ذلك ما حدث به ابراهيم بن مفضل بن قيس قال: سمعت أباالحسن الأول عليه السلام و هو يحلف أنه لا يكلم محمد بن عبدالله الأرقط أبدا فقلت في نفسي: هذا يأمر بالبر و الصلة و يحلف أن لا يكلم ابن عمه قال: فقال: هذا من بري به، و هو لا يصبر أن يذكرني و يعيبني، فاذا علم الناس أني لا أكلمه لا يقبلون منه: أمسك عن ذكري و كان خيرا له.

و قال الراوندي في الباب الثامن من معجزات موسي بن جعفر عليه السلام عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: قال أبي موسي بن جعفر عليه السلام لعلي بن حمزة مبتدئا من غير أن أسأله عن شي ء: انك لتلقي رجلا من أهل المغرب يسألك عني.

و جاء في رجال الكشي ص 276 أنه وجدت بخط جبرائيل بن أحمد، حدثني محمد بن عبدالله بن مهران عن محمد بن علي عن ابن البطائني عن أبيه عن شعيب العقرقوفي قال: قال لي أبوالحسن عليه السلام مبتدئا من غير أن أسأله عن شي ء: يا شعيب غدا يلقاك رجل من أهل المغرب يسألك عني فقل: هو و الله الامام الذي قال لنا أبو عبدالله الصادق عليه السلام، فاذا سألك عن الحلال و الحرام فأجبه مني، فقلت: جعلت فداك فما علامته؟ قال عليه السلام:



[ صفحه 173]



رجل طويل جسيم يقال له يعقوب بن يزيد و هو رائد قومه، فان أراد أن تدخله الي فأدخله، قال: فوالله اني لفي الطواف اذ أقبل الي رجل جسيم طويل فقال لي: اني أريد أن أسألك عن صاحبك فقلت: عن أي صاحب قال: عن موسي بن جعفر عليه السلام قلت: فما اسمك؟ قال يعقوب قلت: من أين أتيت؟ قال: من المغرب. قلت: من أين عرفتني؟ قال: أتاني آت في منامي فقال لي: ألق علي بن أبي حمزة فسله عن جميع ما تحتا اليه، فسألت عنك فدللت عليك فقلت: اقعدني هذا الموضع حتي أفرغ من طوافي و أعود اليك فطفت ثم أتيته فكلمته فرأيته رجلا عاقلا فطنا، فالتمس مني الوصول الي موسي بن جعفر عليه السلام فأوصلته فلما رآه قال: يا يعقوب بن يزيد قدمت أمس و وقع بينك و بين أخيك خصومة في موضع كذا حتي تشاتمتما و ليس هذا من ديني و لا من دين آبائي، فلا نأمر بهذا أحدا من الناس فاتق الله فانكما ستفترقان عن قريب بموت، فأما أخوك فيموت في سفرته هذه قبل أن يصل الي أهله و تندم أنت علي ما كان منك اليه و ذلك أنكما تقاطعتما و تدابرتما فقطع الله عليكما أعماركما، فقال الرجل: يا ابن رسول الله فأنا متي يكون أجلي؟ قال: كان قد حضر أجلك فوصلت عمتك بما وصلتها في منزل كذا و كذا فنسأ الله في أجلك عشرين حجة. قال علي بن أبي حمزة فلقيت الرجل من قابل بمكة فأخبرني أن أخاه توفي و دفنه في الطريق قبل أن يصل الي أهله.

و حدث بدر مولي الرضا عليه السلام فقال: ان اسحاق بن عمار دخل علي موسي بن جعفر عليه السلام فجلس عنده اذ استأذن عليه رجل خراساني فكلمه بكلام لم يسمع مثله كأنه كلام الطير، قال اسحاق: فأجاب موسي بمثله و بلغته الي أن قضي و طره من مساءلته و خرج من عنده فقلت: ما سمعت بمثل هذا الكلام، قال هذا كلام قوم من أهل الصين و ليس كل كلام أهل الصين مثله. ثم قال: أتعجب من كلامي؟ قلت: هو موضع العجب قال: أخبرك بما



[ صفحه 174]



هو أعجب، ان الامام يعلم منطق الطير و نطق كل ذي روح خلقه الله و ما يخفي علي الامام شي ء.

و يقول علي بن أبي حمزة: أخذ بيدي موسي بن جعفر عليه السلام يوما فخرجنا من المدينة الي الصحراء فاذا نحن برجل مغربي علي الطريق يبكي و بين يديه حمار ميت و رحله مطروح فقال له موسي عليه السلام: ما شأنك؟ قال: كنت مع رفاقي نريد الحج فمات حماري هاهنا، و بقيت، و مضي أصحابي. و قد بقيت متحيرا، ليس لي شي ء أحمل عليه. فقال له موسي عليه السلام: لعله لم يمت؟ قال: أما ترحمني حتي تلهو بي قال: ان عندي رقية جيدة. قال الرجل: ما يكفيني ما أنا فيه حتي تستهزي ء بي، فدنا موسي من الحمار و دعا بشي ء لم أسمعه و أخذ قضيبا كان مطروحا فنخسه به وصاح عليه، فوثب قائما صحيحا سليما، فقال: يا مغربي تري هاهنا شيئا من الاستهزاء؟ الحق بأصحابك. و مضينا و تركناه، قال علي بن أبي حمزة: فكنت واقفا يوما علي زمزم و اذا المغربي هناك، فلما رآني عدا الي و قبلني فرحا مسرورا، فقلت: ما حال حمارك؟ فقال: هو و الله صحيح سليم و لا أدري من أين من الله علي فأحيا لي حماري بعد موته فقلت له: قد بلغت حاجتك فلا تسأل عما لا تبلغ معرفته.

و روي أن هارون الرشيد بعث يوما الي موسي عليه السلام علي يدي ثقة له طبقا من السرقين الذي هو علي هيئة التين و أراد استخفافه فلما رفع الازار عنه فاذا هو أحلي من التين و أطيبه، فأكل عليه السلام و أطعم الحامل منه ورد بعضه الي هارون الرشيد فلما تناوله صار سرقينا في فيه و كان في يده تينا جنيا.

و قال اسحاق بن عمار: أقبل أبوبصير مع أبي الحسن موسي عليه السلام من المدينة يريد العراق فنزل زبالة فدعا بعلي بن أبي حمزة البطائني و كان تلميذا لأبي بصير فجعل يوصيه بحضرة أبي بصير و يقول يا علي اذا صرنا الي الكوفة، تقدم في كذا، فغضب أبوبصير و خرج من عنده فقال لا و الله ما أري



[ صفحه 175]



هذا الرجل أنا أصحبه منذ حين ثم يتخطاني بحوائجه الي بعض غلماني، فلما كان من الغد حم أبوبصير بزبالة فدعا بعلي بن أبي حمزة فقال: أستغفر الله مما حل في صدري من مولاي و من سوء ظني به، كان قد علم أني ميت و أني لا ألحق بالكوفة فاذا أنا مت فافعل بي كذا و تقدم في كذا فمات أبوبصير بزبالة.

و قال اسماعيل بن سالم: بعث الي علي بن يقطين و اسماعيل بن أحمد فقالا لي: خذ هذه الدنانير فائت الكوفة فالق فلانا فاستصحبه و اشتريا راحلتين و امضيا بالكتب و ما معكما من مال فادفعاه الي موسي بن جعفر عليه السلام، فسرنا حتي اذا كنا ببطن الرملة و قد اشترينا علفا و وضعناه بين الراحلتين و جلسنا نأكل، فبينما نحن كذلك اذ طلع علينا موسي بن جعفر عليه السلام علي بغلة له أو بغل و خلفه شاكري فلما رأيناه و ثبنا له و سلمنا عليه فقال: هاتا ما معكما فأخرجناه و دفعناه اليه و أخرجنا الكتب و دفعناها اليه فأخرج كتبا من كمه: فقال هذه جوابات كتبكم فانصرفوا في حفظ الله تعالي فقلنا: قد فني زادنا و قد قربنا من المدينة فلو أذنت لنا فزرنا رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و تزودنا زادا. فقال: أبقي معكما من زادكما شي ء؟ فقلنا نعم. قال: ائتموني به، فأخرجناه اليه فقبضه بيده و قال: هذه بلغتكم الي الكوفة، امضيا في حفظ الله، فرجعنا و كفانا الزاد الي الكوفة.

قال ابن حمدون في تذكرته: قال موسي بن جعفر عليه السلام: وجدت علم الناس في أربع أولها أن تعرف ربك و الثانية أن تعرف ما صنع بك و الثالثة أن تعرف ما أراد منك و الرابعة أن تعرف ما يخرجك من دينك.

و معني هذه الأربع: الأول: وجوب معرفة الله تعالي و التي هي اللطف.

الثانية: معرفة ما صنع بك من النعم التي يتعين عليك لأجلها الشكر و العبادة.



[ صفحه 176]



الثالثة: أن تعرف ما أراد منك فيما أوجبه عليك و ندبك الي فعله لتفعله علي الحد الذي أراده منك فتستحق بذلك الثواب.

و الرابع: أن تعرف الشي ء الذي يخرجك عن طاعة الله فتجتنبه.

و لقد روي اسحاق بن عمارة فقال: لما حبس هارون أباالحسن عليه السلام دخل عليه أبويوسف و محمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة. فقال أحدهما للآخر: نحن علي أحد أمرين، اما أن نساريه و اما أن نشككه. فجلسا بين يديه، فجاء رجل كان موكلا به من قبل السندي فقال: ان نوبتي قد انقضت و أنا علي الانصراف، فان كانت لك حاجة فامرني حتي آتيك بها في الوقت التي تلحقني النوبة، فقال: ما لي حاجة، فلما خرج قال لأبي يوسف و محمد بن الحسن: ما أعجب هذا، يسألني أن أكلفه حاجة ليرجع و هو ميت في هذه الليلة، قال: فغمز أبويوسف محمد بن الحسن فقاما: فقال أحدهما للآخر: انا جئنا لنسأله عن الفرض و السنة و هو الآن جاء بشي ء آخر كأنه من علم الغيب، ثم بعثا برجل مع الرجل فقالا: اذهب حتي تلازمه و تنظر ما يكون من أمره في هذه الليلة و تأتينا بخبره من الغد، فمضي الرجل فنام في مسجد عند باب داره، فلما أصبح سمع الداعية، و رأي الناس يدخلون داره، فقال: ما هذا؟ قالوا: مات فلان في هذه الليلة فجأة من غير علة، فانصرف اليهما فأخبرهما، فأتيا أباالحسن عليه السلام فقالا: قد علمنا أنك أدركت العلم في الحلال و الحرام فمن أين أدركت أمر هذا الرجل الموكل أنه يموت في هذه الليلة قال: من الباب الذي كان أخبر بعلمه رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم علي بن أبي طالب عليه السلام فلما رد عليهما هذا بقيا لا يحيران جوابا [9] .

و سأله الرشيد قائلا: لم زعمتم أنكم أقرب الي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم منا؟ فقال عليه السلام: يا أميرالمؤمنين لو أن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم نشر فخطب اليك



[ صفحه 177]



كريمتك هل كنت تجيبه؟ فقال: سبحان الله، فكنت أفتخر بذلك علي العرب و العجم فقال عليه السلام: لكنه لا يخطب الي و لا أزوجه لأنه ولدنا و لم يلدكم.

و روي أنه عليه السلام قال: هل كان يجوز له أن يدخل علي حرمك و هن متكشفات، فقال: لا. فقال عليه السلام: و لكنه كان يدخل علي حرمي كذلك و كان يجوز له. و قيل انه سأله: لم قلتم أنا ذرية رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و جوزتم أن ينسبوكم اليه فيقولوا: يا بني رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و أنتم بنو علي، و انما ينتسب الرجل الي أبيه دون جده؟ فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم (من ذريته داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسي و هارون و كذلك نجزي المحسنين (84) و زكريا و يحيي و عيسي و الياس) [10] و ليس لعيسي أب و انما ألحق بذرية الأنبياء من قبل أمه. و كذلك ألحقنا بذرية النبي صلي الله عليه و آله و سلم من قبل أمنا فاطمة عليهم السلام و أزيدك يا أميرالمؤمنين قال الله تعالي: (فمن حآجك فيه من بعد ما جآءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنآءنا و أبنآءكم و نسآءنا و نسآءكم و أنفسنا و أنفسكم) [11] و لم يدع عند مباهلة النصاري غير علي و فاطمة و الحسن و الحسين و هما الأبناء.

يقول رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: «أنا مدينة العلم و علي بابها»..

و يقول الصادق عليه السلام: (ان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أفضيت اليه صحف ابراهيم و موسي عليه السلام فائتمن عليها رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم عليا عليه السلام و ائتمن عليها علي عليه السلام الحسن عليه السلام و ائتمن عليها الحسن عليه السلام الحسين عليه السلام و ائتمن عليها الحسين عليه السلام علي بن الحسين عليه السلام و ائتمن عليها علي بن الحسين عليه السلام محمد بن علي عليه السلام و ائتمنني عليها أبي فكانت عندي، و لقد



[ صفحه 178]



ائتمنت عليها ابني هذا علي حداثته و هي عنده).

يقول عليه السلام: ان ابني هذا لو سئل عما بين دفتي المصحف لأجاب بعلم..

و لقد كان الامام موسي الكاظم عليه السلام سيد ولد أبي عبدالله عليه السلام و فيه علم الحكم و الفهم و السخاء و المعرفة بما يحتاج الناس اليه من أمور دينهم و فيه حسن الخلق و حسن الجوار و هو باب من أبواب الله عزوجل و فيه (كما يقول والده الصادق عليه السلام) أخري هي خير من هذا كله... (يخرج الله تعالي منه غوث هذه الأمة و غياثها و علمها و نورها و حكمها خير مولود و خير ناشي ء: يحقن الله به الدماء و يصلح به ذات البين و يلم به الشعث و يشعب الصدع و يكسو العاري و يشبع الجائع و يؤمن الخائف و ينزل به القطر..

ذكر المؤرخون أن رجلا من أحفاد الخليفة الثاني في المدينة كان كلما رأي الامام موسي عليه السلام يشتم الامام علي بن أبي طالب عليه السلام ليؤذي الامام و يسيي اليه حتي غضب أصحاب الامام و ساءهم ذلك فهموا بالانتقام من ذلك الشاتم و قتله فنهاهم الامام عليه السلام أشد النهي و زجرهم أشد الزجر ثم سأل عن مكان هذا الرجل فقيل ان له مزرعة خارج المدينة يتعهدها و يتولي زراعتها، فقصده الامام عليه السلام راكبا حمارا، فلما دخل المزرعة صاح به العمري، لا تطأ زرعنا، فلم يلتفت الامام عليه السلام حتي وصل اليه و نزل عنده يلاطفه ثم قال: كم غرمت في زرعك هذا؟ قال: مائة دينار قال: فكم ترجو أن تصيب منه؟ قال: أنا لا أعلم الغيب، فقال الامام: انما قلت كم ترجو؟ قال: أرجو أن يجيئيني منه مائتا دينار، فأعطاه الامام عليه السلام ثلاثمائة دينار. قال: هذه لك وزرعك علي حاله، فقام العمري و قبل رأس الامام و سأله أن يصفح عنه، ثم تركه الامام عليه السلام و انصرف، فكان اذا دخل المسجد بعد ذلك وثب اليه العمري فسلم عليه و قال: «الله أعلم حيث يجعل رسالته» فسأله أصحابه ما قصتك لقد كنت تقول خلاف هذا، فخاصمهم و شاتمهم و جعل يدعو للامام كلما دخل



[ صفحه 179]



و خرج، فقال الامام عليه السلام للذين كانوا أرادوا قتله من أصحابه، أيما كان خيرا ما أردتم أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار اليسير.

و لمواقفه المشابهة الكثيرة أثرها البالغ في رسالة الاسلام فلقد كان عليه السلام يجازي المسي ء بالاحسان اليه، و الجاني بالعفو عنه و كان اذا بلغه عن أحد أنه يؤذيه أرسل اليه الذهب. [12] .

و هذه الصفة الكريمة من الحلم و تجرع الغيظ لا تتصف بها الا النفوس الكبيرة و الشخصيات الفذة الحالمة الصافحة التي تعفو و ترتفع عن الحقد و تسمو عن الصغائر (بالرغم من قدرتها علي الانتقام و مقابلة المثل) [13] لكنها تأبي الا الصفح و المغفرة و مقابلة الاساءة بالاحسان. و هكذا هم أهل ابيت عليهم السلام، وجودهم رحمة و هداية و انقاذ للناس من الضلال و انتشالهم من الجهل دون النظر الي اساءاتهم، و هكذا كان الامام موسي عليه السلام حليما كاظما للغيظ لقد لقب بالعبد الصالح، و من الطبيعي أن يكون عليه السلام عبدا صالحا فهو ليس فقط سليل نبي الرحمة بل تربي أيضا في معاهد الطهر و العبادة و التقوي فهو ابن الصادق عليه السلام الذي قال فيه أحد تلامذته (مالك بن أنس امام المذهب المالكي): اختلفت الي جعفر بن محمد زمانا فما كنت أراه الا علي احدي ثلاث خصال اما مصليا و اما صائما و اما يقرأ القرآن و ما رأيته قط يحدث عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم الا عن طهارة و لا يتكلم بما لا يعنيه و كان من العلماء العباد و الزهاد الذين يخشون الله [14] ، فليس بالغريب علي الامام موسي بن جعفر عليهم السلام أن ينشأ و هو في قمة العبادة و الخشوع و الانابة.

و لقد جاء في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: روي أصحابنا أن الامام موسي بن جعفر عليه السلام دخل مسجد النبي صلي الله عليه و آله و سلم فسجد سجدة في أول الليل



[ صفحه 180]



و سمع و هو يقول في سجوده: عظم الذنب عندي فليحسن العفو عندك يا أهل التقوي و يا أهل المغفرة، فجعل يرددها حتي أصبح.

و كان عليه السلام يصلي نوافل الليل اذا دخل ثلثه الأخير و يستمر في الصلاة الي طلوع الفجر، فاذا جاء وقت الصبح صلاها ثم يشرع في الدعاء و البكاء من خشية الله حتي تخضل لحيته بالدموع و يغشي عليه من خشية الله، و حتي أنه اعتبر تلك الأيام المظلمة في سجون بني العباس نعمة من الله كي يتفرغ للعبادة، فكان يقول في دعائه: (اللهم اني طالما كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك اللهم و قد فعلت، فلك الحمد) و ها هو أشد الناس عداوة له (هارون الرشيد) يقول عنه لشدة عبادته بأنه من رهبان بني هاشم و ذلك عندما أودع الامام عليه السلام في السجن عند الربيع و أطل ذات يوم من أعلي القصر فرأي ثوبا مطروحا فسأل الربيع: ما ذلك الثوب المطروح الذي أراه كل يوم في هذا الموضع و لم يتغير عن مكانه؟ فقال له: ما هذا بالثوب و انما هو موسي بن جعفر، و له كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس الي وقت الزوال، فاهتز هارون و قال: انه من رهبان بني هاشم و في ذلك يقول أحمد بن عبدالله عن أبيه: دخلت علي الفضل بن الربيع و هو جالس علي سطح له فقال لي أشرف علي هذا البيت و انظر ما تري؟ فقلت: ثوبا مطروحا، فقال: انظر حسنا، فتأملت فقلت: رجل ساجدا!! فقال لي: تعرفه؟ هو موسي بن جعفر، أتفقده الليل و النهار فلم أجده في وقت من الأوقات الا علي هذه الحالة، انه يصلي الفجر فيعقب الي أن تطلع الشمس ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجدا حتي تزول الشمس و قد و كل من يترصد له أوقات الصلاة، فاذا أخبره وثب يصلي من غير تجديد وضوء و هو دأبه، فاذا صلي العتمة أفطر ثم يجدد الوضوء ثم يسجد فلا يزال يصلي في جوف الليل حتي يطلع الفجر [15] .

و كان عليه السلام اذا قرأ القرآن يجتمع عليه الناس لحسن صوته و كانت قراءته



[ صفحه 181]



مؤثرة في نفوس سامعيه فيتفاعلون معه في الخشوع و البكاء عند تلاوته للقرآن الكريم.

فمنذ قلامة أظفاره كان يتمتع عليه السلام بحدة الذكاء و شدة الفطنة و حضور البديهة و قوة الملكة العلمية في الفقه الاسلامي بالاضافة الي ما خلف لنا من تراث ضخم و توجيهات قيمة وردت عبر وصاياه و محاوراته و أحاديثه و حكيماته، فلقد كان عليه السلام القمة العلمية في عصره بلا منازع علي الاطلاق، فقد تولي عمادة جامعة أبيه العلمية و تخرج علي يديه كبار الفقهاء، و أساطين العلماء، و اشتملت محاضراته الثقافية و أبحاثه العلمية في جميع أبعاد المعرفة علي تراث خالد يتناقله العلماء جيلا بعد جيل.

و نعود لمعاصريه فلقد عاصر عليه السلام خمسة من خلفاء بني العباس فهو ولد في عهد آخر الخلفاء الأمويين (مروان بن محمد) الحمار و قبيل تشكيل الدولة العباسية حتي تولي السفاح زمام الحكم و تفرغ لاستئصال شأفة الأمويين و مطاردة جيوب مقاومتهم، فسفك أنهارا من الدماء حتي لقب بالسفاح.

في هذا العهد كان الامام موسي بن جعفر عليه السلام في طفولته المبكرة فبين تأسيس الدولة العباسية سنة اثنان و ثلاثين و مائة و بين ولادته الكريمة سنة ثمان و عشرين و مائة أربع سنوات، و في كنف أبيه الصادق عليه السلام و رعايته نشأ و ترعرع و لم يتعرض السفاح لأهل البيت بسوء لانهماكه بارساء قواعد الدولة الجديدة و مطاردة فلول الأمويين حيث استمر في الحكم أكثر من أربع سنين حتي هلك فتولي بعده المنصور الذي هو المؤسس الحقيقي لدولة بني العباس حيث حكم اثنين و عشرين عاما من الظلم و البطش و الجور، صب فيها نقمته علي أبناء علي و فاطمة من الذين أصابهم الحيف من سرقة ثورتهم و خيبة آمالهم و احباط تضحياتهم، فالثورة قامت علي أكتافهم و بجهودهم و شعاراتهم و أسمائهم و دعوتهم للرضا من آل محمد. و لقد كان العلويون و العباسيون رفاق سلاح ضد الحكم فكان للعلويين الرصيد الجماهيري الكبير و القاعدة



[ صفحه 182]



الشعبية العريضة المويدة لهم في حين كان بنوالعباس مغمورين لا يحلمون بالحكم الا أنهم غدروا بالعلويين و سرقوا ثورتهم و تقمصوها ظلما و عدوانا و ركبوا تيار النقمة التي زرعها الحسين عليه السلام في النفوس ضد الأمويين فقد كانت الدماء التي قدمها الحسين عليه السلام يوم الطف قذيفة نسفت العرش الأموي من أساساته فكان المنتظر و المتوقع أن العلويين هم الذين يتسلمون القيادة. فاذ بهم يفاجأون بالعباسيين يبرزون علي مسرح الحكم فكانوا أسوأ من الأمويين في تعاملهم مع العلويين و في ذلك يقول الشاعر:



تالله ما فعلت علوج أمية

معشار ما فعلت بنوالعباس



فلقد تجسدت بالدوانيقي الصلافة و القحة و هو النكرة المغمور و ان حظي ببعض الاحترام فلانتسابه للبيت الهاشمي العريق فقد كان يعتز و يفخر بقربه من علي عليه السلام و آل علي و كان مداحا و ذاكرا لفضائل علي بن أبي طالب عليه السلام تتصدق عليه العامة من أجل ذلك و لكم أخذ بركاب محمد بن عبدالله بن الحسن اذا ركب وك م سوي له ثيابه علي السرج، و كان من مقدمة المبايعين لمحمد مع أخويه ابراهيم و السفاح، و كان أشدهم حماسا لتلك البيعة و تشهد بذلك الأبواء حيث اجتمع بنوالحسن و بنوالعباس و عقدوا مؤتمرا للتداول في النظام الجديد بعد اضطراب أمور بني أمية و ها هو الصادق عليه السلام يأتيهم بناء علي طلبهم فرغبوا اليه مبايعة محمد فقال عليه السلام: ان هذا الأمر لن يتم الا لهذا و ضرب علي ظهر السفاح ثم لهذا و أشار الي المنصور و قال لعبدالله بن الحسن ان ولديك ابراهيم و محمد سيقتلهما المنصور ثم نهض و خرج.

و تدور الدوائر علي بني أمية و يستلم دست الحكم أبوالدوانيق و يتخفي محمد بن عبدالله بن الحسن خوفا علي نفسه فيطلبه المنصور من أبيه محاولا قتله بكل وسيلة للتخلص مما في عنقه من بيعة له فهو الشخص المنافس المشرح للخلافة بعد سقوط دولة بني أمية حيث كان المفروض أن يتسلم مهام المسؤولية بعد الأمويين و حيث بايعه عامة الهاشميين بالخلافة كما



[ صفحه 183]



بايعه السفاح و اخوته، و لذا لم يعترف بالحكم العباسي و لم يبايع السفاح و لا المنصور و مع تمادي الطغيان العباسي و تصاعد سياسة الارهاب و العنف ضد العلويين أعلن ثورته و سيطر علي المدينة، فأرسل المنصور جيشا لمحاصرة المدينة و قمع الثورة و القضاء علي قادتها و قد تم له ذلك و قتل محمد ذي النفس الذكية في أحجار الزيت و كذلك قتل أخوه ابراهيم في باخمرا و قد كان يخطب علي المنبر في البصرة حين جاءه خبر مصرع أخيه فقال:



سأبكيك بالبيض الرقاق و بالقنا

فان بها ما يدرك الطالب الوترا



و لست كمن يبكي أخاه بعبرة

يعصرها من ماء مقلته عصرا



و انا لقوم لا تفيض دموعنا

علي هالك منا و ان قصم الظهرا



و قد بايعه في البصرة جمع غفير من أهلها بعد اعلان ثورته بها. و يزحف بجيشه الي الكوفة ليلتقي مع جيش المنصور في باخمرا علي شاطي ء الفرات حيث يقتل رحمه الله و هذا ما قاله رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و ما قاله الأئمة من بعده، و تبدأ مطاردة العلويين بوحشية لم يشهدها التاريخ و ضراوة لم تألفها الذئاب فها هو المنصور يجمع أبناء الحسن من المدينة الي الربذة الي المطبق بالأغلال و السلاسل، و القيود في أعناقهم و أرجلهم يحملون علي محامل مكشوفة بغير وطاء كما فعل قبل ذلك يزيد بعيال الحسين عليه السلام و كما فعل قبله معاوية أيام عثمان بأبي ذر الغفاري (طهر الله ثراه) و ها هو أبوالدوانيق يودعهم السجون تحت الأرض لا يعرفون الليل من النهار حتي أشكلت عليهم أوقات الصلاة فجزأوا القرآن خمسة أجزاء فكانوا يصلون علي فراغ كل واحد من جزئه و نستذكر الديباج محمد بن ابراهيم بن الحسن الميت في اسطوانة و هو حي و سيذكر التاريخ مخلفات المنصور تلك الرؤوس المقفل عليها بخزانة مفتاحها أمنه لدي (ريطة) زوجة المهدي و التي حملت وصيته بعدم فتحها و عدم تسليم مفتاحها للمهدي الا بعد وفاته... و ما ان هلك حتي أسرعت ريطة و زوجها المهدي مؤملة بالغنائم و الجواهر و الحلي و اذا بها



[ صفحه 184]



أشلاء و جثث و رؤوس مقطعة في آذانها رقاع بأس، و أنساب... منهم الأطفال منهم الشيوخ و الشباب فهل خوف المهدي و ارتياعه لما رأي الرؤوس فأمر بدفنها منعه من سلوك طريق أبيه و التاريخ يرفع اصبعه مشيرا الي الآلاف من أبناء علي عليه السلام المقتولين مع الأعداء التي لا تعد و لا تحصي من شيعتهم أم أن تفنن أبيه بالظلم و اختراع أنواع القتل و التنكيل سواء بالسياط التي تنزل علي الأعين فتفقأها لتسيل عليها أو بالأنين المتصاعد من تحت البيوت المهدومة علي أهلها و هم أحياء أم برصفهم مع الحجارة في الجدران و الي تسميمهم بالفضلات و القذارات جعله مستمرا باللعبة فوق السيرك، و من بين شقوق جدران التاريخ السوداء تلمح صورة لأبي أيوب (سليمان بن أبي مجاهد) و الذي كان صديق المنصور و من ذوي الفضل عليه قبل تسنمه الخلافة..

يقول خالد بن يزيد الأرقط: بينما أبوأيوب في أمره و نهيه اذ طلبه المنصور فاصفر و ارتعد فلما خرج من عنده تراجع لونه و كان ذلك دأبه كلما طلبه فقيل له انا نراك مع كثرة دخولك الي أميرالمؤمنين و أنسه بك تتغير اذا دخلت عليه، فضرب لذلك مثلا فقال: زعموا أن بازيا و ديكا تناظرا فقال البازي للديك ما أعرف أقل وفاء منك فقال: و كيف؟ قال: لأنك تؤخذ بيضة فيحضنك أهلك و تخرج علي أيديهم فيطعمونك بأكفهم حتي اذا كبرت صرت لا يدنو منك أحد الا طرت هنا و هناك و صت و ان علوت حائط دار كنت فيها سنين طرت و تركتها و صرت الي غيرها و أنا أؤخذ من الجبال و قد كبرت سني فأطعم الشي ء القليل و أونس يوما أو يومين ثم أطلق علي الصيد فأطير وحدي فآخذه و أجي ء به الي صاحبي. فقال له الديك: ذهبت عنك الحجة ما لو رأيت بازيين في سفود ما عدت اليهم أبدا و أنا كل يوم و وقت أري السفافيد مملوءة ديوكا و أقيم معهم فأنا أوفي منك لو كنت مثلك و أنتم لو عرفتم من المنصور ما أعرف لكنتم أسوأ حالا مني عند طلبه اياكم [16] .



[ صفحه 185]



لقد كان يري بأم عينه المجازر المرعبة داخل القصر كلما دخل علي المنصور متوقعا الموت و كان عيناه تنظران الوسائل الجهنمية التي يستعملها العباسيون مع خصومهم بوحشيتها و قسوتها تقطيعا لأجساد و شواء في تنانير ملتهبة يفوح منها الشواء و كما جري لعبدالله بن المقفع بأمر المنصور و هو يتلذذ بمرآه.. ذلك المنصور خليفة الله علي الأرض و الذي كان يؤمن بالله و يصلي له... و هؤلاء الذين ينفث بهم حقده قرابة رحمه... لقد أدي المنصور رسالته كحاقد علي الفضيلة و أهلها و يعلق الشيخ مغنية في كتابه الشيعة و الحاكمون فيقول: ان استقرائي لسيرة الخلفاء المسلمين قد بعث في شعورا بأن الاسلام لولا المنصور و أمثاله من الحاكمين لعم الناس أجمعين و اعتنقوه تلقائيا بدون دعوة أو دعاية و لما وجد علي هذه الكرة انسان غير مسلم.

لقد كان المنصور أشرس طاغية و لوع بسفك الدماء خاصة دماء العلويين، لذلك كان الامام موسي بن جعفر عليه السلام بعد وفاة أبيه الصادق عليه السلام يحسب لنقمة المنصور حسابها و يتعامل معها بكل حيطة و حذر.. و لا يخفي أن التصرف الحكيم للامام الصادق عليه السلام قبل وفاته هو الذي دفع القتل عن ولده موسي بوصيته التي أشركه فيها دافعا بذلك شره عن ولده و الا فالوصي الحقيقي هو الامام فقط.

و لقد كتب المنصور الي عامله علي المدينة أن ينظر الي من يجتمع عليه الناس بعد جعفر بن محمد عليه السلام فيحتال في قتله و التخلص منه، و لما تحقق الوالي أن الأوصياء أربعة و بضمنهم المنصور و هو كتب اليه يخبره بذلك، و طبعا لا سبيل لقتل هؤلاء جميعا فأعرض المنصور عن قتل الامام موسي عليه السلام و لقد وقع الكثير من الاضطرابات و الخلاف بين صفوف الشيعة حول الشخصية المؤهلة للقيام بمسؤولية الامامة فمنهم من قال بامامة محمد بن اسماعيل ابن الامام الصادق عليه السلام و كانوا قلة لم يطلعوا علي النصوص التي نصبت الامام موسي بن جعفر عليه السلام بعد أبيه غير أنهم لما



[ صفحه 186]



أطلعوا عليها لا حقا رجعوا الي القول بامامته و منهم من قال بامامة عبدالله الأفطح الذي ادعي الامامة كما قال الصادق عليه السلام لكنه فشل في الامتحان و الأسئلة العلمية التي وجهت اليه و لم يجدوا فيه مؤهلات الامامة فرجع الذين اتبعوه أولا عن امامته الي امامة موسي بن جعفر الكاظم عليه السلام.

و قد سبق أن أوردنا بعض النصوص الدالة علي امامته عليه السلام حيث جاءت الروايات بالنص عليه من الله تعالي بالامامة كخبر اللوح و أن الامام لا يكون الا الأفضل في العلم و الزهد و العلم و أنه معصوم كعصمة الأنبياء عليهم السلام و لقد رأي الناس من آيات الله عزوجل الظاهرة علي يده عليه السلام ما يدل علي امامته و بطلان مقال من ادعي الامامة لغيره و روي النصوص عن امامته عن أبيه أبي عبدالله الصادق عليه السلام شيوخ أصحاب أبي عبدالله و خاصته و بطانته و ثقاته الفقهاء الصالحون (رض)، كذلك أخويه اسحاق و علي و لقد سبق أن أوردنا قول الامام الرضا في الامامة حين يقول: هي منزلة الأنبياء و وراثة الأوصياء و هي خلافة الله و خلافة الرسول و هي زمام الدين و نظام المسلمين و صلاح الدنيا و عز المؤمنين و من هذا المنطلق حمل الامام موسي عليه السلام تلك الأمانة مرشدا واعظا حافظا لدين الله و شريعته و الماوردي يقول: الامامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين و سياسة الدنيا.

يقول منصور بن حازم: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: بأبي أنت و أمي، ان الأنفس يغدي عليها و يراح فاذا كان ذلك فمن؟ فقال أبو عبدالله عليه السلام اذا كان ذلك فهو صاحبكم و ضرب علي منكب أبي الحسن الأيمن و هو فيما أعلم خماسي عبدالله بن جعفر جالس معنا.

و جاء في الارشاد [17] عن الفيض بن المختار قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: خذ بيدي من النار من لنا بعدك؟ قال: فدخل أبوابراهيم و هو



[ صفحه 187]



يومئذ غلام فقال: هذا صاحبكم فتمسك به.

و روي عبدالرحمن بن الحجاج فقال: دخلت علي جعفر بن محمد عليه السلام في منزله فاذا هو في بيت كذا من داره في مسجد له و هو يدعو و علي يمينه موسي عليه السلام يؤمن دعاه فقلت له: جعلني الله فداك قد عرفت انقطاعي اليك و خدمتي لك فمن ولي الأمر بعدك قال: يا عبدالرحمن ان موسي قد لبس الدرع و استوت عليه فقلت له: لا أحتاج بعد هذا الي شي ء و قد سبق ذكر ذلك.

كما روي المفضل بن عمر الجعفي فقال: كنت عند أبي عبدالله عليه السلام فدخل أبوابراهيم موسي عليه السلام و هو غلام فقال لي أبو عبدالله عليه السلام: استوص به وضع أمره عند من تثق من أصحابك كما و قال معاذ بن كثير لأبي عبدالله عليه السلام: أسأل الله الذي رزق أباك منك هذه المنزلة أن يرزق من عقبك قبل الممات مثلها، فقال: قد فعل الله ذلك، قلت من هو؟ جعلت فداك... فأشار الي العبد الصالح و هو راقد، فقال: هذا الراقد و هو يومئذ غلام. [18] .

لقد قام الامام موسي عليه السلام بمسؤولية الامامة في ذلك العصر المضطرب بالفتن كقطع الليل الملي ء بالخلافات في الآراء و العقائد المختلفة و الذي نبغ فيه أناس حادوا عن طريق الاسلام فجاءوا بآراء الحادية و نشروا أقوالا تثير التشكيك فكانت مدرسته التي تزعمها بعد أبيه تواصل نشاطها في قمع تلك الحركات و صد تلك الهجمات عن الدين الاسلامي.

و لقد خرج دعاة الامام موسي عليه السلام الي الأقطار الاسلامية لنشر الدعوة و التصدي لتلك الأقوال و ردها و تفنيد تلك الآراء و ابطالها بعد أن ساعد علي انتشارها و نشرها في المجتمع الاسلامي ما يعانيه ذلك المجتمع و ما قام به الولاة و بذا عمل عليه السلام علي الحفاظ علي شريعة الاسلام.



[ صفحه 188]



لقد حرص عليه السلام غاية الحرص في ارسالياته و توجيهاته و احتاط غاية الاحتياط و الحذر من بطش المنصور و كيده و عدائه حتي حلت نهايته و انطوت صفحته بهلاكه و انتهي دور الطاغية المنصور ليأتي دور آخر هو المهدي الذي جعل سياسته منفتحة ليمتص النقمة الجماهيرية التي أحدثها أبوه أبوالدوانيق و أول خطوة ايجابية كانت هي اطلاق سراح المعتقلين السياسيين خاصة و أن أبوه أتم المهمة و انتهي من تنفيذ ما أعده من خطط الاغتيال و الفتك بقوي الخير و الصلاح.

لقد كان المهدي أخف وطأة و أقل شدة في تعامله مع العلويين من أبيه المنصور الا أن شدة الاقبال الجماهيري و الالتفاف الشعبي حول شخصية الامام موسي عليه السلام جعله يتخوف علي عرشه و يقلق علي منصبه (و الملك عقيم) و لم يأمن وثبة الشيعة بقيادة الامام عليه السلام علي حكومته فأصدر أوامره باعتقال الامام، فاعتقل و أودع السجن ثم أطلق لرؤيا رأي فيها أميرالمؤمنين علي عليه السلام و قد سبق ايرادها حيث حدث الربيع فقال: طرقت علي الباب ليلا ففتحتها و اذا بمسرور الكبير قال: أجب أميرالمؤمنين... فارتعبت و قلت: ماذا يريد مني نصف الليل فأسرعت اليه فوجدته يقرأ القرآن و يردد هذه الآية (عسيتم ان توليتم أن تفسدوا في الأرض و تقطعوا أرحامكم) [19] فدخلت و سلمت فرد علي السلام و قال أنت آمن لقد ارعبناك و لكن اذهب الي هذا الحجازي و أطلق سراحه، قلت: من؟ قال: موسي بن جعفر، قلت: أطلق سراحه، قلت: من؟ قال: موسي بن جعفر، قلت: أطلق سراح موسي؟ قال: بل ائتني به فورا، قال الربيع: فمضيت و فتحت أبواب السجن فوجدت الامام عليه السلام يصلي، و لما فرغ قال: يا ربيع ما الذي جاء بك في منتصف الليل؟ قلت: سيدي، أمرت باطلاق سراحك، قال: لعلك أمرت بغير هذا و تريد أن تخفف الروع علي، امض لما أمرت به و أنا مسلم أمري الي



[ صفحه 189]



الله، قلت لا و الله سيدي أمرت باطلاق سراحك. ثم اصطحبته الي المهدي فاستقبله و عانقه و أجلسه الي جانبه و قال: يا أباالحسن اني رأيت جدك أميرالمؤمنين واقفا علي شفير دجلة عاضا علي أنملته و هو يقرأ الآية (فهل عسيتم...) أفتؤمني ألا تخرج علي و لا علي أحد من ولدي؟ فقال الامام عليه السلام: لا فعلت ذلك و لا هو من شأني، فقال: صدقت ثم التفت الي الربيع و قال: أعطه ثلاثة آلاف دينار و خيره بين البقاء عندنا أو الرحيل الي المدينة فعرض عليه الربيع ذلك فقال الامام عليه السلام: لا يا ربيع دعني أمضي الي أهلي فلقد استوحشوا لفراقي، فأسرع الربيع في تجهيزه و رجع الامام عليه السلام الي المدينة و بقي فيها طيلة أيام المهدي يقوم بواجبه الاسلامي في التربية و التوجيه و نشر العلوم حتي جاء دور موسي الهادي و الذي كان شريرا دمويا رهيبا و في أيامه كانت واقعة فخ التاريخية المرعبة التي ضارعت واقعة الطف بل تفوقت عليها و لولا شهرة واقعة الطف لكانت واقعة فخ أعظم منها و انما عظمت واقعة الطف لوجود الامام الحسين عليه السلام فيها و لكن اذا استثنينا الحسين عليه السلام نري مشاهد و فصول واقعة فخ أعظم بكثير من واقعة كربلاء.

و لما بدأ العباسيون في ضغوطهم علي العلويين و ملاحقتهم لهم و كان والي المدينة رجل من أحفاد الخليفة الثاني اسمه عبدالعزيز تحامل علي الطالبيين و أساء اليهم و سامهم سوء العذاب فحجر عليهم أن يخرجوا من المدينة و فرض عليهم الاقامة الجبرية فيها و عدم السفر و طالبهم أن يثبتوا وجودهم (كما يوقع الموظفون) و يعرضوا عليه أنفسهم كل يوم و يوقعوا لئلا يثور أحد منهم و كان يفتري عليهم التهم، و أنهم يعاقرون الخمرة حتي أمر بكبس دار الحسن الأفطس و أركبوه علي حمار و شهروا به بأنهم و جدوه يشرب الخمرة و اشتدت الضغوط حتي بلغت الحالة درجة لا تطاق و ذات يوم أرسل الي الحسين بن علي بن الحسن شهيد فخ و أسمعه كلاما قاسيا و تهدده و توعده فصممم الحسين علي الموت و خرج و أخرج معه العلويين و جماعة من



[ صفحه 190]



الحجاج و أقبل الي فخ (وادي من و ديان مكة يبعد عنها ستة أيام).

و هناك طوقته جيوش بني العباس و كان اللقاء يوم التروية و قد سبق ذلك تفصيلا كيف بذلوا له الأمان ثم غدروا به و رشقه مبارك التركي بسهم أرداه صريعا و انجلت الواقعة عن ستة و سبعين و مائة من القتلي من أبناء الرسول صلي الله عليه و آله و سلم بقيت أجسادهم ثلاثة أيام بلا مواراة حتي أكلتهم السباع و الطير و قطعت رؤوسهم و رفعت علي أطراف الرماح من المدينة الي بغداد و سيقت نساؤهم و أطفالهم سبايا كما فعل يزيد تماما بل زادوا علي يزيد لأن يزيد لم يقتل الأسري من الأطفال الصغار بينما هؤلاء عندما و صلوا بهم الي بغداد و أدخلوهم علي موسي الهادي كان يستدعي الصبيان و الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم فيوبخهم و يأمر بضرب أعناقهم، و تركت جثثهم تتراقص بدمائها في وسط المجلس (مثل الدجاج) و بيده صفيحة أو سيف و يتخطي علي تلك الجثث البريئة و ينشد:



بني عمنا لا تنشدوا الشعر بعدما

دفنتم بصحراء الغميم القوافيا



و قد ساء في ما جرت الحرب بيننا

بني عمنا لو كان أمرا مدانيا



فان قلتم أنا ظلمنا فلم نكن

ظلمنا و لكنا أسأنا التقاضيا



و راح يتهدد و يتوعد و ينال من الطالبيين الي أن ذكر الامام موسي عليه السلام فقال: و الله ما خرج حسين الا من أمره و لا تبع الا محبته لأنه صاحب الوصية في أهل هذا البيت، قتلني الله اذا أبقيت عليه. فقال له أبويوسف القاضي تلميذ أبي حنيفة: يا أميرالمؤمنين أقول أم أسكت؟ فقال: قتلني الله ان عفوت عن موسي بن جعفر و لولا ما سمعت من المهدي فيما أخبر به المنصور ما كان به جعفر من الفضل في دينه و علمه و ما بلغني من السفاح فيه من تقريظه و تفضيله لنبشت قبره.

فقال أبويوسف: نساؤه طوالق، و عتق جميع ما يملك من الرقيق، و تصدق بجميع ما يملك من المال و حبس دوابه و عليه المشي الي بيت الله



[ صفحه 191]



الحرام ان كان مذهب موسي الخروج و لا يذهب اليه و لا مذهب أحد من أولاده و لا ينبغي أن يكون هذا منهم، و لم يزل أبويوسف يخاطب الهادي و يخفف حدة غضبه بكلام رقيق حتي سكن غضبه.

و كتب علي بن يقطين الي أبي الحسن موسي بن جعفر عليه السلام فلما وصل الخبر الي الامام جمع أهل بيته و شيعته و استشارهم بالأمر فقالوا نشير عليك أن تختفي و تواري شخصك عن هذا الطاغية الأرعن فتبسم الامام ثم تمثل بقول كعب بن مالك:



زعمت سخينة أن ستغلب ربها

فليغلبن مغالب الغلاب



ثم أقبل علي من حضر من مواليه و أهل بيته و قال ليفرج روعكم أنه لا يرد أول كتاب من العراق الا بموت الهادي و هلاكه، قالوا: و ما ذاك أصلحك الله؟ فأخبرهم أنه رأي جده رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم في المنام و شكي اليه موسي الهادي و ما جري منه في أهل بيته، فقال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لتطب نفسك يا موسي، ما جعل الله لموسي عليك سبيلا، ثم قال: قد أهلك الله آنفا عدوك فلتحسن لله شكرك فتفرق الناس و هم ينتظرون بفارغ الصبر ورود البريد من العراق. فما كان بأسرع من أن وافاهم و هو يحمل البشري بهلاك الطاغية و الذي انطوت صفحته السوداء و لفظته الأرض الي جهنم و بئس المصير. و لقد جاء في الفصول المهمة: أن الامام عليه السلام عندما قال له أهله: نري أن تتباعد عنه و أن تغيب شخصك فانه لا يؤمن عليك من شره فتبسم ثم رفع يده الي السماء فقال: «الهي كم من عدو شحذ لي ظبة مديته و داف لي قواتل سمومه و لم تنم عني عين حراسته فلما رأيت ضعفي عن احتمال الفوادح و عجزي عن كلمات الجوائح صرفت ذلك عني بحولك و قوتك لا بحولي و قوتي و ألقيته في الحفيرة التي احتفرها لي خائبا من أمله في دنياه، متباعدا عما يرجوه في أخراه، فلك الحمد علي قدر ما عممتني فيه من نعمتك و ما توليتني من جودك و كرمك، اللهم فخذه بقوتك و افلل حده عنا بقدرتك



[ صفحه 192]



و اجعل له شغلا فيما يليه، و عجزا به عما ينويه. اللهم و عدني عليه عدوة حاضرة تكون من غيظي شفاء و من حنقه علي وقاء، أوصل اللهم دعائي بالاجابة و انظم شكايتي بالتعبير، و عرفه عما قليل ما وعدت به من الاجابة لعبيدك المضطرين، انك ذوالفضل العظيم و المن الجسيم». ثم ان أهل بيته انصرفوا عنه فلما كان بعد مدة يسيرة حتي اجتمعوا لقراءة الكتاب الوارد علي موسي بن جعفر عليه السلام بموت موسي الهادي و في ذلك يقول بعضهم:



و سارية لم تسر في الأرض تبتغي

محلا و لم يقطع بها الأرض قاطع



و بالرغم من قصر أيامه فقد استطاع أن يقوم بعمل تاريخي و يسجل اسمه مع جلادي الشعوب و قتلة أولاد الأنبياء.



[ صفحه 193]




پاورقي

[1] كشف الغمة، ج 2، ص 42.

[2] سورة الرعد، الآية: 11.

[3] الفصول المهمة، ص 235.

[4] قرب الاسناد، ص 191.

[5] الفصول المهمة، ص 235.

[6] كشف الغمة، ج 3، ص 49.

[7] بحارالأنوار، ج 48، ص 174.

[8] قرب الاسناد، ص 195.

[9] الفصول المهمة، ص 241.

[10] سورة الأنعام، الآيتان: 85، 84.

[11] سورة آل عمران، الآية: 61.

[12] تاريخ بغداد، ج 13، ص 28.

[13] موسوعة الخليل، 9 / 38.

[14] الامام الصادق، أسد حيدر، ج 2، ص 334.

[15] قادتنا للميلاني، ج 6، ص 316.

[16] حياة الحيوان الكبري للدميري، ج 1، ص 138.

[17] الارشاد، ص 289.

[18] الارشاد، ص 289، ط لبنان.

[19] سورة محمد، الآية: 22.