بازگشت

المقدمة


بسم الله الرحمن الرحيم

في حياة الايمان المشرق ألق و صفاء يخترق ضمير الكائن الانساني، فيمنحه الدف ء و الحرارة، و يمده بالنبض و الحركة، و يدفع به شوطا بعيدا في مضمار التكامل الاجتماعي. فاذا اقترن ذلك الايمان الخالص بالانابة المطلقة و الاخبات المتصاعد، التقي الهدف الأخلاقي الأمثل بالهدف الديني السليم، و في ضوء هذا الاغناء الفسيح تكون الثمار الايجابية مزدوجة العطاء، و تعود الأطروحة واضحة الأبعاد، فاذا أضفت لهذا و ذاك: الثبات في المبدأ، و الصلابة في الحق، و الصبر علي المحن و الشدائد، خرجته بحصيلة أخلاقية وارفة الظلال، تتفيأ المناخ الانساني المزدهر في رحاب العقيدة الراسخة، و تستبق الوعي الحضاري بخطوات واثقة، و تحتضن مدارج النضال المبدئي بقوة وروعة.

و هكذا كانت الأجواء التي عاشها هذا الامام العظيم موسي بن جعفر (عليه السلام)، و هو ينهض برسالة السماء، و يحيا مأساة الانسان، و يعيش مظاهر الارهاب السياسي، و يقارع جور الطواغيت اضطهادا لا تحده حدود، و تمييزا طبقيا لا يعرفه الاسلام، و رقابة ملتوية الأساليب، و رصدا بعيد المرامي، و أثرة لا مثيل لها في اقتطاع المناصب و احتجان الأموال و مصادرة الحريات؛ و الشعب المسلم في بؤس و شقاء و حرمان، و طوابير الجياع يلتهمها الفقر و الضياع، و قصور السلاطين تموج بالترف و البذخ و الاسراف، و لا سلطان



[ صفحه 6]



لأحد في الانكار و التغيير، و الناس كل الناس بين خليفة لاه، و مسؤول ساه، و سياط تلهب الظهور.

هذا غيض من فيض لتلك الصورة المأساوية التي دونها التأريخ في الحنايا لا في الصفحات الأولي؛ و ينفجر الموقف عن اتجاهات ثورية، فتسيل الدماء، و تزهق الأرواح، و تتكاتف أعداد الأسري، و ينفجر الموقف أيضا عن هلع و فزع و قلق فيتجرع الناس مرارة الخوف و سيل الأزمات النفسية.

و كان الحكم العباسي دون مغالاة: عبارة عن مخلوق دموي عنيف، ينام و يستيقظ علي الارهاب و الفكر المتعثر، فلا يحلم الا بالدمار الشامل للرافضين، و لا يستمع لأنات هذا الشعب الضائع، و لا يفكر بمصير الأمة المتداعي، و كل ما يصدر عنه ازاء ذلك كله هو تفجير طاقات العنف و الانفعال للقضاء علي المعارضين أو الناصحين، و لا يكاد يصحو من جرائمه اطلاقا و لا يفكر لحظة زمنية في يقظة الضمير التي قد تغتاب الطغاة حينا، فيرتد عن تصرفاته الشاذة، و يعي أن الانسان كائن ذو أهمية خاصة و له نقطته المركزية في الكون، و انما هو الاندفاع بأعمال القهر و القسر، و الاغراق في العمي المطبق، و كأن تصرفاته السلوكية هذه انعكاس للبركان الحاقد المتواجد في نفوس الحاكمين.

و كان الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) في الاتجاه المعاكس لهذا التخلف العريض، و كان التماعه الذهني المتوقد دقيقا في رصد العواطف المرهفة عند الانسان، و كان الوعي الرسالي لديه حريصا علي كشف القدرات الكامنة في الذات الانسانية، فهو يريد لها الازدهار و الانبعاث لتكون كيانا مجسدا يتصرف و يعي و يدرك، لا آلة تستخدم و تشتري و تعار، و هو بذلك صريح دون رموز و ألغاز، و انما هوي الوعي المتدافع الذي يعصف بكيان التعسف و الانحدار الخلقي.



[ صفحه 7]



و من هنا تدرك مدي الهلع الذي يقض مضاجع السلطان، من الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) باعتباره العاصفة التي تقتلع مفاهيم الاستعباد الجماعي، و تخترق حواجز الاستبداد الفردي، فتنهار الأعراف السلطوية التي تعمل علي صنمية المجتمع و تخديره، و تنتقل به من النمط التقليدي في الاذعان و الاذلال الي سياق تحرري جديد من الحيوية و الادراك.

فالامام يشجب كل مظاهر القهر و الاكراه، و يدعو الي الموقف الحاسم، و يصدع بالصوت الجري ء النافذ فيهز الأنظمة الهزيلة بقدرة فائقة تفوق قدرة السلاح، و لكنه النضال السلبي الموجه، أو المواجهة الرافضة المنظمة، فلا موادعة مع الظالمين و القتلة، فكان ضحية الارهاب السياسي، نتيجة هذا الطرح الرائد.

بيد أن رسالة السماء التي نهد الامام برفع لوائها، بدأت في اتساقها و شموخها تنشر الهدي و تفيض المعرفة، فكان للنضال موقع في كسر القيود و الأغلال، و كان لصوت العلم موقع و دوي في الآفاق، و كان هذا التلاحم في كشف الظلم و نشر العلم يعني انتصار مدرسة أهل البيت في هذين الخطين المتوازيين. و كانت حياة الامام (عليه السلام) تقتسمها المظالم و المعارف، مظالم الطواغيت، و معارف الرسالة الاسلامية، و جاء هذا الكتاب لرصد ذلك الزخم الهائل من المعارف، و سبر ذلك السيل المتلاطم من المظالم، و هما موضوع هذه الرسالة في الكشف الموضوعي و الاستقراء العلمي و تحديد الرؤية.

و كانت طبيعة البحث في أصوله و فروعه و متعلقاته أن انتظم في ثمانية فصول: كان الفصل الأول منها بعنوان:



[ صفحه 8]



«الامام في سماته و مميزاته»

و قد اشتمل علي قبس من الأضواء الكاشفة عن مسيرة الامام بايجاز معبر في ولادته، و نشأته المباركة، و التأكيد علي منزلته العليا ناهضة نابضة دون عواطف، يلي ذلك كشف الامام من مرآة التاريخ في شخصيته و مواهبه و قدراته، و تسليط الضوء علي جزء من نماذج خصائص الامام بما فيها المنظور المشترك في الخصائص بين الأئمة (عليهم السلام)، متحدثا عن الورع و التقوي في ظاهرة ايجابية، و عن حلم الامام و كظمه الغيظ في جبلة نفسية، متوقفا عند ظاهرة تتحدي شح الحاكمين في الكرم و السخاء و المواساة. بما نعتبره دراسة مكثفة في أبرز خصائص الامام و مميزاته.

و كان الفصل الثاني بعنوان:

«الامام و المسيرة العلمية الرائدة»

و قد تناول بالبحث المعمق خمسة ظواهر متأصلة هي:

المدرسة الأولي لأهل البيت في ارساء قواعد العلوم المتطورة، و بناء صرح الحضارة الانسانية.

و كانت الظاهرة الثانية معبرة عن مصادر علم الامام الكسبية و اللدنية بشواهد شاخصة، و أمثلة بارزة الملامح.

و كان المبحث الثالث متساوقا عمليا مع ظاهرة السيرورة النادرة، و الانتشار الذائع الصيت لعلم الامام الهادر في الآفاق و الأقاليم.

و تبني المبحث الرابع ظاهرة الدور الريادي لتلامذه الامام و طلابه في نشر التراث العلمي الأصيل الصادر عن الامام مشافهة أو تدوينا، في نماذج حية ناطقة و قد أكدت فيه علي من كان من هؤلاء التلاميذ مؤلفا و أحصيت بعضا من مؤلفاتهم.



[ صفحه 9]



و نظر المبحث الخامس في ظاهرة متحركة لتعليمات الامام في دائرة معارفه الموسوعية، و قد بدا سجلا حافلا بالأعلاق النفسية، و كنزا لا يثمن من الذخائر المفجرة للطاقات البشرية.

و كان الفصل الثالث بعنوان:

«الامام و ظواهر الحياة العقلية المتطورة»

و قد ركز البحث علي أربع ظواهر عقلية في حاة الامام (عليه السلام).

كان الأول منها عارضا أمينا و محللا للعقل و المناخ العقلي المضطرب في عصر الامام، و رصد شوارده و أوابده في ضوء المنهج الاستقرائي.

و كان الثاني متحدثا بموضوعية عن تعدد الاتجاهات العقائدية مذهبيا و كلاميا بلمحات بارزة تطرح الفكر الكلامي كما هو علي صعيد المناقشة.

و كان الثالث متحدثا عن الموجات الجديدة التي أحدثت الانقسام في فرق الشيعة، و معرضا بالانشقاق الداخلي الذي عرض لها، فكان منه ما ولد ميتا فلم يكتب له بقاء، و منه ما استمر متعثرا دون أي تأثير علي الفكر الامامي الأصل، و منه ما ظل حتي اليوم في كيان متزلزل.

و كان الرابع مستوعبا لأفكار الامام الصادعة في خضم التيار الكلامي، و اثرائه الفكر الاسلامي بالحقائق مجردة نظرا و عملا، و ذائقة توحيدية خالصة.

و كان الفصل الرابع بعنوان:

«الامام و طواغيت عصره»

و قد بدأ برؤية استراتيجية للمبادي ء السياسية المتقابلة لدي الامام و عند الطواغيت، فأعطت تصورا دقيقا للفروق المميزة بين فكر الامام السياسي في البناء و الانعتاق، و بين تسلط الحاكمين في الاضطهاد و الاستبداد.



[ صفحه 10]



تلت ذلك أربعة مباحث راصدة لمعاناة الامام الهائلة من أبعاد شتي، لدي استخلاف المنصور، و في عهد ولده المهدي، و في أيام موسي الهادي، و في مملكة هارون الرشيد. و كان فيها مسح تأريخي مركز لعوالم الارهاب التي تعرض لها الامام، و تصوير للحاجة المأساوية التي مثلث كابوسا مطبقا علي حياة الامام.

و كان الفصل الخامس بعنوان:

«المناخ الثوري و اجراءات الارهاب السياسي»

و قد انتظم في خمسة مباحث ناطقة بصدق و أمانة عن: / قمع التحرك الثوري من قبل العباسيين، و ثورة الحسين بن علي (صاحب فخ)، و انتفاضة يحيي بن عبدالله المخص، و التصفية الجسدية للعلويين، و موقف الامام من العنف الثوري.

و كان هذا الفصل حافلا بمشاهد الدماء القانية، و تأريخ الثورات العلوية المضطربة، و تصوير الاجراءات الصارمة في الاقتصاص، بما يمثل موجة الارهاب السياسي العنيف في معالجاته البدوية المعقدة، و استخفافه بالدماء و الأعراض و قيمة الانسان.

و عرض لموقف الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) من هذه الأحداث الحزينة، و لوح بتوجيهاته بالترقب و النصح الكريم، و أشار لمعارضته هذا المنهج.

و كان الفصل السادس بعنوان:

«البعد الاستراتيجي لسياسة الامام في مقاومة الانحراف العباسي»

و هو عرض جديد لأبعاد استراتيجية بارزة في سياسة الامام المنطلقة من صميم رسالته و قيادته للأمة في ضوء تعليمات السماء.



[ صفحه 11]



و قد اشتمل علي ثلاثة مباحث رئيسية لخصت سياسة الامام تجاه عملية التخطيط المكثفة لعوالم التضليل العباسي بأحداث ماثلة أبرزت الامام و سياسة النضال السلبي، و الامام و اختراق النظام العباسي، و الامام و مجابهة الانحراف و التضليل الديني. و هي عوالم تمثل عمق الصدق السياسي لدي الامام في صور دقيقة الآثار.

و كان الفصل السابع بعنوان:

«الامام في غياهب السجون»

و هو فصل فريد تناول بالبحث العوامل الرئيسية التي أدت الي سجن الامام، و أكدت تكرار اعتقال الامام مرة بعد مرة، و عرضت لأماكن سجن الامام، و أبرزت الجوانب الايجابية لحياة الامام في السجن عبادة و علما و عملا. و كان ذلك في أربعة مباحث هي: رؤية مجهرية في أسباب سجن الامام. ايديولوجية تنقل الامام بين عدة سجون. حياة الامام في طوامير السجون. الامام يوصي بأمواله و يوقف أراضيه.

و كان الفصل الثامن بعنوان:

«الامام في مدارج الشهادة»

و قد اشتمل علي أربعة مباحث تناولت أواخر حياة الامام في الاعتقال، و اشتملت علي بيان دوافع سجن الامام و محاولات اغتياله، و عرضت لمشاهد الاشهاد علي وفاة الامام، و أنهت بمعالم تجهيزه و تشييعه الي مقره الأخير، حيث مرقده الشامخ - اليوم - في الكاظمية المقدسة. و هذه المباحث كالآتي: فزع الرشيد من منزلة الامام، اغتيال الامام بالسم، الاشهاد علي وفاة الامام، تجهيز الامام و تشييعه الي مثواه الأخير.



[ صفحه 12]



و كان ما تقدم من الفصول قد نهض بعنوان هذا الكتاب:

«الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) ضحية الارهاب السياسي»

و لم يكن باستطاعة هذه الدراسة الالمام بالدور المشرق للامام في ميادين الحياة الاجتماعية كافة، و اكتفت برصد الأحداث في مسيرة الامام، و الاشارة بعمق الي مخزونه الفكري و التراثي و العقائدي، فمثل ذلك ألقا من حياة الامام، و التمس قبسا من شعاعه الفياض، و عرض لنماذج من مميزاته الكبري، و تناول بعرض جديد و أسلوب جديد ذلك اللمعان المتوهج في خصائص الامام، و علم الامام، و الحياة العقلية للامام، و سياسة الامام، و اضطهاد الامام، و استشهاد الامام.

و كان الرأي الحر رائد هذه الدراسة، و استقراء المجهول مهمتها الأساسية، و تصوير حقائق الأشياء هدفا موضوعيا.

و ما توفيقي الا بالله العلي العظيم، عليه توكلت و اليه أنيب، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

النجف الأشرف

محمدحسين علي الصغير



[ صفحه 13]