بازگشت

المدرسة الأولي


كانت جامعة أهل البيت (عليهم السلام) هي الأمل الباسم لصيانة التراث الاسلامي من الضياع، و مؤسس هذه الجامعة هو أميرالمؤمنين الامام علي (عليه السلام) بما غرس من أصول معرفية ذات ارتباط عريق بالفيض النبوي الشامل، فالنبي مدينة العلم و علي بابها باجماع المسلمين، و كان سيدا شباب أهل الجنة الحسن و الحسين يغذيان أصول هذه الجامعة بما سمح لها العصر، و ما وجدا الي ذلك سبيلا، و كان الامام زين العابدين مشفقا علي هذه الجامعة من الانحلال و التدهور بعصر فقدت به مقاييس الفضيلة، و لكنه استطاع من خلال قيادته و مناداته بحقوق الانسان، و سيل أدعيته الهادرة أن يضفي ظلال الاستقرار علي المبادي ء العامة للجامعة دون الاغراق بالتفصيلات الدقيقة. حتي اذا أوشك القرن الأول



[ صفحه 50]



الهجري علي الغياب، التمع في الأفق ذلك الشهاب الثاقب الامام محمد بن علي الباقر (عليه السلام). فكان المجدد الحقيقي لحضارة التشريع، و كان الرائد الصادق لمعارف الرسالة الاسلامية، بناء و تطويرا و اذاعة و نشرا [1] .

حتي اذا تسلم الامام جعفر بن محمد الصادق قيادة الأمة، كان زعيم مدرسة أهل البيت الريادية دون منازع، و بدأ التحرر الانساني في العقل يخطو خطوات رهيفة في الانفتاح علي كل جديد، و بدأ الفكر المعرفي يتطلع الي المزيد من الثقافة العليا، و انحسر المد العلمي عن كوكبة من المعارف السائرة مع الزمن، فللتشريع أساطينه، و للفقه جهابذته، و للحديث رجاله، و للعلم التجريبي متخصصوه، و للعلوم الانسانية روادها الأوائل، و للابداع في النظر و الفنون و الحياة العقلية جمهرة من المتتبعين و العاملين باخلاص و أمانة.

ولدي اضطلاع الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) بالمسؤولية القيادية، نهد بصيانة هذا التراث الضخم، و عمل علي اذاعته في الآفاق، و أصبح العلم الشاخص الذي ترنو له الأبصار و الضمائر.

و كانت هذه المدرسة عالمية الدلالة، انسانية العطاء، اسلامية المصادر، تتسم بالعمق و الأصالة، و تمتاز بالموسوعية النادرة، و كان من خصائصها الشمولية و الاستيعاب لمفردات الحضارة الاسلامية، لا تجمد علي مادة، و لا تقف عند موضوع، فهي متجددة الآراء، موضوعية النظرة، سليمة الأداء.

و كان من رصانتها الاجتماعية أنها للانسان بكل شرائحه المتعددة، و للمسلم المتحفز بكل آثارها الراسخة، و هي بذلك تحقق مبدأ الرسالة العامة التي لا تقتصر علي موقع، و لا تتحدد باقليم، بعيدة عن الأثرة، قريبة من التفاعل الاجتماعي.



[ صفحه 51]



و اذا تدارسنا ببصيرة و امعان مركز الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) من هذه المدرسة؛ رأيناه القائم علي ادارتها و استمراريتها بعد أبيه، و وجدناه المشفق الحدب علي اغناء هذه المدرسة و اثرائها، فكان العامل اليقظ علي تطبيق أهدافها المركزية من جهة، و الناشط الواعي في نمو حركتها من جهة أخري، و قد حقق ذلك بما عرف عنه بأنه الرائد المتمرس لمعالم التحضر الانساني، و القائد المجرب في ميادين التجديد و الابداع.

و لم يكن الامام مخلي السرب، آمن الجريرة، و ليس لديه من النفوذ ما يجعله في وضع استقراري يحمد عليه، و ليست له الحرية الكاملة في التحرك و الانطلاق، و مع هذا كله، لم تكن السجون و المعتقلات التي تعرض لها، و لا موجات الارهاب السياسي التي واجهها لتعيق مسيرة هذه المدرسة الصاعدة، لأن الكفاح في غمرات هذا المناخ كان متواصلا علي أية حال، حتي ان رسائله و اجاباته و فتاواه لتصدر عنه و هو في غياهب السجون، فيتلقاها تلامذته و أولياؤه بالنشر و الاذاعة و ابلاغ الناس.

و لم تكن الرقابة الصارمة لتحد من نشاط هذه المدرسة الا بحدود، و ذلك أن الامام قد غرس في كل دار منها نبتة طيبة تجد التربة الصالحة للازدهار و الاثمار، فيتناولها تلامذته المقربون بكل حرص و أمانة، و هم أداة التبليغ الاسلامي الأمين.

ان معاناة الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) كانت كفيلة بالقضاء علي كيان هذه المدرسة، و لكن الشعلة ما كان لها أن تنطفي ء، و قد خلق من حولها الرواة و المحدثون و الأعلام يذكون جذوتها، و يتابعون ايراءها و ايقادها، و هي تزدهر ما بين المغرب و المشرق. و من هنا بلغت الذروة في العطاء السائر الذي يدان فيه للامام عبر تطلعاته في جعل العلم بديلا لجاهلية النظام العباسي في كل ممارساته التي تدل علي الجهل و الضلال و الزيغ المتعمد، و كان ذلك



[ صفحه 52]



خطرا داهما علي كيان الأمة يهددها بالدمار و البوار، لولا أن يتداركها الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) في ذلك التوجه النابض.

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي: «و كان من أهم ما عني به الامام موسي (عليه السلام) نشر الثقافة الاسلامية، و اشاعة المعارف العامة بين الناس، و قد عملت تعاليمه الرفيعة علي تنمية العقول، و تثقيف الأفكار، و تقدم المسلمين في الميادين العلمية... و نظرا لمركزه العلمي الخطير فقد شاع ذكره في البلاد، و تحدث الركبان بوفرة مواهبه و مقدراته العلمية، و قد دان شطر كبير من المسلمين بامامته، و جعلوا مودته، و الأخذ بقوله، فرضا من فروض الدين» [2] .

و هنا يقترن الهدف الديني بالهدف العلمي، فتكون الحصيلة المزدوجة من اقترانهما: أن ما يبلغ علميا يصدر عن قناعة دينية، و بذلك يكتب لأي أثر في هذا المنظور السيرورة النافذة.

و كان الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) قد استشف من وراء الغيب أن حياته مهددة بالخطر سياسيا، و ليس في مقدوره تغيير هذا المنحني السياسي الطائش، فاتجه الي الرسالة العلمية مناضلا في ميادينها كافة، و التزم الخط المنهجي لجامعة أهل البيت في تخطيطها البعيد، و هو يستشرف العالم الاسلامي في حركته العلمية الدائبة، فغذاها - أعني الجامعة - بفيض امداده الذي لا ينضب، و تبني الملتفين حول أغصانها بأبوة مانحة للتوجيه و النصح الكريم، و تلقي هؤلاء هذا العطف المثالي بجد و اجتهاد فما فرطوا في شي ء، بل اهتبلوا الفرص المواتية - علي شدة الرقابة - للافادة و الاضاءة، و كان هذا الحافز الشريف، يسترعي نظر الامام في العطاء، فكتب، و ألف، و حدث، و أفتي، و ناظر، و حاضر، فصان الجامعة بأبنائها الواثقين، و نشر مبادئها الكبري في شتي الممالك و الأقاليم، فكانت قبلة الطالبين و السالكين معا.



[ صفحه 53]



و عاد هذا التراث الهادي متوافرا لدي العلماء، و في أيدي العاملين علي ارفاد الثقافة الملتزمة، و الصابرين علي شدة المحنة في التحري و الرصد. و نجم عن هذا كله: خلود هذه المدرسة السيارة بعطائها الجزل، و كيانها المستقل.

و استقلالية مدرسة أهل البيت حقيقة زمنية شاخصة، فهي لا تستمد كيانها من السلطات القائمة، و هي لا تسير بركاب الحاكمين، و هي لا تستعين بالقوة لفرض سيطرتها علي العقول، و هي لا تتوسل بالمال علي تعزيز نفوذها، و هي لا تلجأ الي الأساليب الشائعة في العصر للتغلغل في ضمائر الناس، بل قامت علي سجيتها، فطرية الأداء، عفوية الارادة.

و كان دور الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) دور المجدد و المطور لمبادي ء هذه المدرسة بما أوتي من قوة عقلية و ادراك علمي متميز، و بما استقي من معارف متسلسلة من ذلك الرافد الأساس الذي تفجرت منه أمواج الثقافة عند أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

و عندما تتحقق هذه الظواهر في أي أثر معرفي يكون الخلود السرمدي الرابض في صدر الحياة، و تكون الافادة من تراثه الأثير في الموقع المتجدد، و اذا كان الأمر كذلك، و هو كذلك، فما علينا الا أن نتحدث لماما عن موارد هذا العلم و مصادره.


پاورقي

[1] ظ: المؤلف / الامام محمد الباقر / مجدد الحضارة الاسلامية / مؤسسة العارف / بيروت / 2002 م.

[2] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 1 / 33.