بازگشت

العقل و المناخ العقلي المضطرب


قال الامام موسي بن جعفر (عليه السلام):

«ان ضوء الروح العقل، فاذا العبد عاقلا كان عالما بربه، و اذا كان عالما بربه أبصر دينه» [1] .

و هذا القول أطروحة فريدة يضعها الامام بين يدي العارفين، فالعقل عند الامام مدار الحجة علي الانسان، و هو سبيل الاطراد العلمي بما يزنه من دقائق الأمور، و هو أيضا منار الهداية في الحياة، حتي اعتبره الامام عدلا لرسالة السماء و قيادة الأئمة فقال: «ان لله علي الناس حجتين: حجة ظاهرة و حجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل و الأنبياء و الأئمة، و أما الباطنة فالعقول» [2] .



[ صفحه 106]



و بهذه الرؤية نجد اهتمام الامام بالعقل الانساني المجرد، و عدة من الأصول التي لا غني عنها في تيسير الحياة و ضبط النفس، و هو يسلط الأضواء علي العقل في رصد منابع الخير كلها، فيقول:

«من أراد الغني بلا مال، و راحة القلب من الحسد، و السلامة في الدين، فليتضرع الي الله في مسألته بأن يكمل عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه، و من قنع بما يكفيه استغني، و من لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغني أبدا» [3] .

يقول الأستاذ محمدحسن آل ياسين تعقيبا:

«و لما كان المراد من العقل في هذه النصوص هو النضج المثمر و الوجود الفاعل المؤثر - و ليس ما يقابل الجنون الذي يعني فقدان السيطرة علي الشعور المنضبط و الاحساس المتزن - كان الانسان المجرد من المعرفة و المحروم من التعلم و ان كمل عقله؛ محكوما بالنقص الذي لا ينكر و لا يستر، بسبب جهله المخل بدوره الانساني النافع لنفسه و مجتمعه، و لذلك أضاف الامام الي ما تقدم منه في تكريم العقل: التنبيه علي أهمية العلم و شأنه الكبير و أثره العظيم في بناء الأفراد و المجتمعات» [4] .

و لما كان العقل المتكامل منحة الهية من وجه، و تجربة ذاتية من وجه آخر، وجدنا القلة النادرة في الاجتماع البشري هي التي تتمتع به ادراكا و معرفة و فلسفة. و حينما تطورت الحياة العلمية في عصر الامام بفضل الجهود المضنية للعلماء و الباحثين و المترجمين، فقد وجدنا في ضوء ذلك تطورا سريعا للحياة العقلية، و كان هذا التطور مصاحبا لعلم الاحتجاج في أبرز فروعه، و للفن الجدلي في مظاهره، و لازدهار حياة المقالات و الفرق و الاتجاهات. و ليس غريبا أن نجد الحياة العقلية قد نشأت في ظل المناخ السياسي، بيد أننا نجد



[ صفحه 107]



للامام موسي بن جعفر (عليه السلام) وثيقة تأريخية في العقل، كانت وليدة الشعور بالمسؤولية، و لم تتأثر بأية عوامل سياسية اطلاقا، و هي عبارة عن رسالة مهذبة نابضة وجهها الامام الي تلميذه العظيم هشام بن الحكم، و قد شرحها الفيلسوف المتأله الملا صدرالدين الشيرازي المعروف ب «الملاصدرا» في رسالة خاصة، و قد تعقبها بالتحليل الموضوعي الأستاذ باقر شريف القرشي (دام علاه)، فكانت مع الأصل في أربعين صفحة» [5] .

و لا أعلم رسالة في العقل قد مهدت للحياة العقلية المتطورة بهذا المستوي الفكري كهذه الرسالة التي ربط بها الامام بين ذوي العقول و منزلتهم و ما بين ما أفاض به القرآن الكريم من الاعتداد الرفيع بهم، و ثمة ظاهرة أخري يشير لها الامام فيما حققه أصحاب العقل السليم من المعرفة بأسرار الهداية و الكون بافاضة من الله تعالي عليهم.

و قد أكد الامام أن الله عزوجل قد جعل العقل حجة يستدل بها علي عظيم خلقه في السماوات و الأرض، و ما فيهما من الكائنات المرئية و غير المرئية، و العوامل الحسية و المتصورة المعلومة و المجهولة و المتخيلة، و ما في ذلك من عجائب صنع الله في الخلق و الايجاد و التصريف و الادارة و الابداع، مما جعله الله برهانا علي معرفته الخارقة، و دليلا علي عظيم قدرته التي لا تدرك

[6] .

و بالامكان الاشارة الي نهج هادي ء لنقاط الارتكاز في الرسالة.

1 - أبان الامام (عليه السلام) أن الله خوف الذين لا يعقلون من عقابه، و قرن العلم بالعقل، فقال تعالي:



[ صفحه 108]



(و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها الا العالمون) [7] .

ثم ذم الله الذين لا يعقلون في آيات عديدة من قرآنه المجيد، عرض الامام لها، و ختم ذلك بقوله تعالي:

(تحسبهم جميعا و قلوبهم شتي ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) [8] .

و مدح الله تعالي القلة لأنهم العقلاء حقا، فقال عزوجل:

(و قليل من عبادي الشكور) [9] .

و قال تعالي: (و قليل ما هم) [10] .

و قال تعالي: (و ما آمن معه الا قليل) [11] .

و أشار الامام أن القرآن ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر، و حلاهم بأحسن الحلية، فقال: (يؤتي الحكمة من يشاء و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا و ما يذكر الا أولوا الألباب) [12] .

و تحدث الامام عما مدح الله به لقمان بايتا الحكمة، و يعني بذلك الفهم و العقل، و ما أوصي به لقمان ولده بالتواضع للحق ليكون أعقل الناس.

2 - و اعتبر الامام أن لكل شي ء دليلا «و دليل العقل التفكر، و دليل التفكر الصمت، و لكل شي ء مطية، و مطية العقل التواضع». و صرح بأن الله تعالي ما بعث الأنبياء و رسله و عباده الا ليعقلوا عن الله، فأحسنهم استجابة



[ صفحه 109]



أحسنهم معرفة، و أعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلا، و أكملهم عقلا أرفعهم درجة في الدنيا و الآخرة، و اعتبر الامام العقل حجة باطنة. و أن العاقل لا يشغل الحلال شكره، و لا يغلب الحرام صبره.

و عد الامام طول الأمل، و فضول الكلام، و شهوات النفس، مؤشرات تعين علي هدم العقل. «و من هدم عقله أفسد عليه دينه و دنياه».

3 - و اعتبر الامام: «الصبر علي الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل من الله اعتزل أهل الدنيا و الراغبين فيها، و رغب فيما عند الله».

«كما اعتبر نصب الحق لطاعة الله، و لا نجاة الا بالطاعة، و الطاعة بالعلم، و العلم بالتعلم، و التعلم بالعقل يعتقد، و لا علم الا من عالم رباني، و معرفة العلم بالعقل».

4 - و رأي الامام: «ان العاقل قد رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة، فالعقلاء تركوا فضول الدنيا، و ان العاقل نظر الي الدنيا و أهلها فعلم أنها لا تنال الا بالمشقة، و نظر الي الآخرة فعلم أنها لا تنال الا بالمشقة، فطلب بالمشقة أبقاهما».

و رأي الامام أن العقلاء زهدوا في الدنيا و رغبوا في الآخرة. و أن الله حكي عن قوم صالحين قولهم: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب) [13] .

و انه لم يخف الله من لم يعقل عن الله، و من لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه علي معرفة... و روي عن جده أميرالمؤمنين: «ما عبدالله بشي ء أفضل من العقل».

و عقب الامام علي ذلك بافاضات رائعة تخص الموضوع.



[ صفحه 110]



5 - و رأي الامام رؤية مجهرية: «أن العاقل لا يكذب، و ان كان فيه هواه» و قال أيضا: «لا دين لمن لا مروة له، و لا مروة لمن لا عقل له» و روي عن جده أميرالمؤمنين صفة العاقل: «ان من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال:

يجيب اذا سئل، و ينطق اذا عجز القوم عن الكلام، و يشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه هذه الخصال الثلاث فهو أحمق». الي آخر فقرات هذه الرسالة الثمينة.

و كان الامام بذائقته الفطرية الخالصة يدرك دور العقل في الحياة الاجتماعية، ولديه تصور عريق بتقلبات المناخ الاجتماعي، و يعرف جيدا توجه السلطان لتسخير الحياة العقلية للسير في ركابه و تلبية رغباته، فأراد الشعب التمتع بجوهرة العقل، لتمنعه و تعصمه عن الانزلاق السياسي الذي تجهد السلطات علي احداثه و توسيع ثغراته، و من البديهي أن يفيد قلة من المثقفين و العلماء من هذا الأمداد الطهور، و تندفع أكثرية القوم نحو السراب.

و مهما يكن من أمر، فان الاتجاهات السياسية المعقدة قد أذكت شرارة الجذوة الكلامية، لا حبا بالعلم و تشجيعا له، بل لتفيد منه في الابقاء علي النفوذ، و اشغال الشعب المسلم عن نفسه بنفسه، و بمبادئه عن مشكلاته، و قد مهد هذا التخطيط الي قيام الأشاعرة و المعتزلة و المرجئة و المفوضة، و ساعد علي ظهور الزندقة و المانوية و المزدكية و الشعوبية و سواها في افرازات أحدثها البعد السياسي في المناخ العقلي، و هو ينتقل من دور العلم بالشي ء الي دور النقاش، و من طور الفهم الي طور المناظرة، ازاء اثبات هذا الأصل أو دحض ذلك المبدأ، و من هنا نشأت الحياة العقلية و هي تتدرج بالتصاعد من البسيط الي المركب، و من السهل الي الصعب، و من القاعدة الي القمة، و اذا بالأفق الحالم المتزن يتحول الي شعلة نار متلهبة تزيد في حرارة الجو و سعرات الحياة.



[ صفحه 111]



و لا أدل علي هذا من نشوء بدعة الارجاء في ظل الحكم الأموي، و استمراريتها حتي اليوم، لأن الارجاء قد ابتدع مقالة تعني بمجاراة السلطان، و الابقاء علي عروش الطغاة، تثبيتا لأنظمة الحكم السائدة، فالحاكم هو الحاكم المطاع، ما دام يشهد الشهادتين ليس غير، لا يغيره فسق، و لا يعزله اسراف، و ان خاض في دماء المسلمين خوضا، فأمره الي الله، و علي المسلمين الطاعة، و ان ظلم عباد الله، و غير أحكام الله، و أكل أموال المسلمين، و ثوابه أو عقابه علي الله، و ليس لأحد أن يعتدي علي ذاته المقدسة!!.

الجديد في هذا المنحي في الاسلام أن الحاكم مصون غير مسؤول، فقد أبيح له كل شي ء، و قد خول بكل شي ء. و قد رحب الطغاة و الجبابرة و الملوك بهذا المبدأ الجديد.

فالارجاء اذن مذهب الطواغيت، و هو المذهب الذي يبيح الانحراف و الخروج عن الخط الديني، و يجعل الحاكم مستقلا في برجه العاجي عن النقد و التجريح و الرفض.

و طبيعي أن مذهب الارجاء قد ابتدعته الأعطيات الضخمة من السلاطين، و جعلت منه مبدأ لا ينطق، و لا يعترض، و لا يحاجج، بل يظل مسالما طول الخط.

يقول الأستاذ خودابخش: «ان أصل المرجئة، يرجع الي ما كان من ضرورة استنباط وسيلة للعيش في وفاق مع الحكم» [14] .

و أقره علي ذلك أستاذنا الدكتور يوسف خليف بقوله: «فقد وجد الحاكمون في هذا المذهب ضالتهم المنشودة التي كانوا يتمنون أن يعثروا عليها وسط الاتجاهات و المذاهب المتعددة المعادية لهم» [15] .



[ صفحه 112]



و لم يقف المسلمون بمنحي عن فكرة الارجاء، بل وقفوا في الاتجاه المعاكس لمجابهة الارجاء فالامامية يرون في مذهب الارجاء احتضانا لتطلع الطواغيت في اباحة المحظورات، يسوغ لهم الاستبداد و سفك الدماء دون أن يخرجهم ذلك عن حضيرة الايمان، و كان في طليعة ذلك الامام محمد الباقر (ت 114 ه) حينما قصده عمرو بن قيس الماصر، و هو ممن يقول بالارجاء، فقال للامام: انا لا نخرج أهل دعوتنا و أهل ملتنا من الايمان في المعاصي و الذنوب. فرد عليه الامام مستندا الي السنة الشريفة، فقال:

«يا ابن قيس: أما رسول الله (صلي الله عليه و آله) فقد قال: لا يزني الزاني و هو مؤمن. و لا يسرق السارق هو مؤمن. فاذهب أنت و اصحابك حيث شئت» [16] .

و كان ابراهيم النخعي (ت 96 ه) عنيفا في مقاومة الارجاء. و المرجئة عنده هم أهل الرأي المحدث، و الارجاء بدعة، و قد تركوا الدين أرق من الثوب السابري، بل ذهب الي أكثر من هذا فقال: «لأنا علي هذه الأمة من المرجئة أخوف عليهم من عدتهم من الأزارقة» [17] .

و في قبال أهل الجبر و الارجاء، كانت عقيدة القدرية القائمة علي القول بحرية الارادة و الاختيار، و زعيم القائلين بالقدر - غير منازع - الحسن البصري [18] .

و الذي يهمنا في الأمر أن العباسيين قد رحبوا بفكرة الاعتزال كالأمويين من ذي قبل، لأنهم أزاحوا فكرة التقديس عن الأبدال و الأئمة، فهم بذلك يقفون في الصف المقابل للفكر الامامي الذي يعطي للأئمة (عليهم السلام) مكانتهم في الولاء و التقديس.



[ صفحه 113]



أما الخوارج فلم يكن لهم أمر ذو بال في العصر العباسي، و كان الخروج علي الدولة من شأن الطالبيين فحسب، و الحسنيين منهم بالذات، و لم يكن المسلمون ليعتبروا العلويين خوارج في المفهوم الاصطلاحي، بل عدوهم من الثائرين.

الا أن الحياة العقلية في عصر الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) قد انفجرت بأفكار جديدة مضافا الي مخلفات الخوارج و المرجئة و أهل القدر المعتزلة. فكانت متاعب الامام مضنية في صد التيارات و الرياح الوافدة، و هو يعيش تبعات ذلك كله، يعالجها حينا، و يدفعها حينا آخر، و يوفق بين المسلمين فيما بينهما، حتي سجل له تأريخيا ذلك الدور المشرف.

لقد نشأت في عهد أبيه الامام الصادق فرق الغلاة و الزنادقة و الالحاد، و نشأت في عهده فرق أخري وثيقة الصلة بما ابتلي به عصر أبيه. فأضاف ذلك جهدا الي جهده.

و الذي يراه البحث أن الحياة الجديدة لم تكن هادئة أو مستقرة، بل هي الي الصخب و الضجيج أقرب، و هي تمثل مدي الانشطار الاسلامي الي فرق و جماعات و جماعات و تكتلات.

و قد شجعت السياسة هذا الجو المحموم المضطرب، ليصفو لها الأفق بعيدا عن المجابهة و الرفض، و بمعزل عن مشكلات التحسس الجماعي بالظلم و المأساة و الاذلال.

و كانت حتمية تجربة السماء الفطرية تقتضي بالضرورة أن ينتصر الاتجاه العقلي الرصين علي تلك التهاويل الغريبة التي اجتاحت العالم الاسلامي في سرعة مذهلة. و هي تتضخم ضمن مخطط سياسي صاعق، أبرم بنوده سلاطين الجور و أدعياء الفكر الوافد.



[ صفحه 114]




پاورقي

[1] ابن شعبة / تحف العقول / 296.

[2] الكليني / الكافي 1 / 16.

[3] الكليني / الكافي 1 / 18، ابن شعبة / تحف العقول / 289.

[4] محمدحسن آل ياسين / الامام موسي بن جعفر / 106.

[5] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر: 1 / 183 - 223.

[6] ظ: نص رسالة الامام / الكليني / الكافي 1 / 13 - 20، ابن شعبة / تحف العقل 390 - 400، و فيها زيادة علي ما ذكره الكليني.

[7] سورة العنكبوت / 43.

[8] سورة الحشر / 13.

[9] سورة سبأ / 13.

[10] سورة ص / 24.

[11] سورة هود / 40.

[12] سورة البقرة / 268.

[13] سورة آل عمران / 8.

[14] ظ: يوسف عبدالقادر خليف / حياة الشعر في الكوفة / 309.

[15] المرجع نفسه / 309.

[16] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام محمد الباقر 2 / 90 و انظر مصدره.

[17] ابن سعد / الطبقات الكبري 1 / 191.

[18] ظ: شوقي ضيف / التطور و التجديد في الشعر الأموي / 52.