بازگشت

تعدد الاتجاهات العقائدية


و مع كل ذلك العمل التكاملي الرائد الذي فجره الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) لتوحيد الأمة، و رأب الصدع، الا أن بعض الظواهر العقلية قد برزت في الميدان، نحاول القاء بعض الضوء علي مصادرها و أثرها في الظروف الاجتماعية، كما نعرض لجزء من حياتها المترددة بتكثيف و ضغط قد يؤديان المهمة دون الاغراق في التفصيلات الهامشية.

و لو أن أهداف هذه الاتجاهات كانت علمية خالصة، أو تنافعية مشروعة، لوصل الينا علم كثير خالص، الا أن ما يحز في النفس أن ينحر الكثير منها الي مداخلات غير بريئة، و أن تطغي لغة الهجوم و الاسفاف علي لغة العقل و الاناة، فينشأ عن هذا و ذاك احتدام لا مسوغ له في التعدي و التحدي و التداعي الذي قد يصل ببعض مفرداته الي تكفير هذا و تضليل ذاك، و هنا تفقد الحياة العقلية هذا الوهج الحضاري في تلاقح القيم و الأفكار. و تلك مأساة نتلقاها بمرارة و حزن عميق، حتي عادت صراعا يطال المعتقدات بكثير من التهاون تارة و التجاهل تارة أخري.

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي:

«و اتسم عصر الامام بموجات رهيبة من النزعات الشعوبية و العنصرية و النحل الدينية، و التجاهات العقائدية التي لا تمت الي الاسلام بصلة، و لا تلتقي معه بطريق، و قد تصارعت تلك الحركات الفكرية تصارعا لا هدوء فيه و لا استقرار، حتي امتد ذلك الصراع الي أكثر العصور، و يعود السبب في ذلك الي أن الفتح الاسلامي قد نقل ثقافات الأمم و سائر علومهم الي العالم الغربي و الاسلامي، بالاضافة الي أن السلام قد جاء بموجة عارمة من العلوم و الأفكار، و دعا المسلمين الي الانطلاق و التخصص في



[ صفحه 115]



جميع ألوان المعارف، و قد أحدث ذلك انقلابا فكريا في المجتمع الاسلامي، و تبلورت الأفكار بألوان من الثقافة لم يعهد لها المجتمع نظيرا في العصور السالفة، و قد اتجهت تلك الطاقات... الي الجانب العقائدي من واقع الحياة، فحدثت المذاهب الاسلامية و الفرق الدينية، و تشعبت الأمة الي طوائف وقع فيما بينها من النزاع و المخاصمات و الجدال الشي ء الكثير، فكانت النوادي تعج بالمعارك الدامية و الصراع العنيف... و كان من أبرز المتصارعين في هذه الساحة هم علماء الكلام و المتكلمون» [1] .

و قد ألمحنا لحياة كثير من هذه الصراعات فيما مضي من هذه الموسوعة في أعمال سابقة [2] .

و قد فصلنا القول في كتابنا «الامام جعفر الصادق / زعيم مدرسة أهل البيت» فتحدثنا عن الثورة المضادة التي قادها الامام ضد متناقضات العصر العباسي في المناخ العقلي، و عرضنا لظاهرة الغلاة و محاربة أئمة أهل البيت لتلك الظاهرة الضالة.

و استوفينا القول - بايجاز - في حركات الالحاد و الزندقة، و عرضنا لحياة المذاهب الكلامية في عصر الامام الصادق (عليه السلام) و وجدنا أن الامام قد وظف نظره العقلي من خلال المحاورات و المناظرات مع زعماء علم الكلام. و كان هذا التوظيف الدقيق قد اشتمل علي ظاهرتين: الأولي: الاستدلال العقلي و البديهي الذي لا سبيل الي انكاره.

الثانية: الاقناع المقبول الذي فجره هذا الاستدلال [3] و لا ضرورة لاعادة هيكلية ذلك البحث فقد سبق القول فيه.



[ صفحه 116]



و هنا لابد من رصد بعض المشاهد العقلية التي حفلت بها حياة عصر الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) مما دأب المناخ السياسي الي التشجيع عليه، للهدف المركزي في التخطيط السلطوي للاستبداد أني كان سبيله، و لا مانع بعد هذا من تشعب آراء الأمة، و تمزيق الصف الاسلامي.

روي محمد بن أبي عمير عن علي الأسواري، قال:

كان ليحيي بن خالد مجلس في داره يحضره المتكلمون من كل فرقة و ملة يوم الأحد، فيتناظرون في أديانهم، و يحتج بعضهم علي بعض، فبلغ ذلك الرشيد، فقال ليحيي بن خالد:

يا عباسي ما هذا المجلس الذي بلغني في منزلك يحضره المتكلمون؟ فقال:... ما شي ء مما رفعني به أميرالمؤمنين، و بلغ من الكرامة و الرفعة أحسن موقعا عندي من هذا المجلس، فانه يحضره كل قوم مع اختلاف مذاهبهم، فيحتج بعضهم علي بعض، و يعرف المحق منهم، و يتبين فساد كل مذهب من مذاهبهم.

قال له الرشيد: فأنا أحب أن أحضر هذا المجلس، و أسمع كلامهم من غير أن يعلموا بحضوري... و بلغ الخبر المعتزلة فتشاوروا فيما بينهم و عزموا أن لا يكلموا هشاما الا في الامامة، لعلمهم بمذهب الرشيد و انكاره علي من قال بالامامة.

و يحضر الرشيد هذه الجلسة، و فيها هشام بن الحكم من الامامية و عبدالله بن يزيد الأباضي من الخوارج، و حضر جماعة المعتزلة. و لك أن تختبر أهداف هذه الجلسة، فمن رأي يحيي بن خالد البرمكي أن «يتبين فساد كل مذهب» من مذاهب القوم، و هدف المعتزلة الايقاع بهشام بن الحكم لأنه امامي، و يعرفون رأي الرشيد بمن قال ذلك، فلا يسألونه الا بالامامة، و الرشيد يحضر ليعرف أعداءه من أوليائه، و القوم في أخذ ورد من مبحث



[ صفحه 117]



الامامة، و هشام يعطي الدليل اثر الدليل علي صحة مذهبه، و المعتزلة يردون و ينقضون، و هشام يرد الرد و النقض معا، و الخوارج يعتذرون عن الخوض في الموضوع لأن هشاما شريك الأباضي في التجارة، و تحتدم آراء القوم في جدل مستميت و خصام شديد، حتي ينجر الحديث الي القول من قبل هشام أن الامام معصوم من الذنوب، و أنه أشجع الناس، و أسخي الناس، و أعلم الناس، و قرع الحجة بالحجة.

و الرشيد يسمع هذا كله، و معه جعفر بن يحيي يسمع هذا كله، فقال الرشيد لجعفر، من يعني بهذا؟ قال: يا أميرالمؤمنين يعني موسي بن جعفر، قال، ما عني بها غير أهلها، ثم عض علي شفته، و قال: مثل هذا حي و يبقي لي ملكي ساعة واحدة؟ فو الله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من مائة ألف سيف. و علم يحيي بن خالد أن هشاما قد أتي، فغمز الي هشام بالخروج، و علم هشام أنه قد أخذ علي حين غرة، فانسل من المجلس و هرب، و كان ذلك آخر العهد به حتي مات [4] .

في هذه المحاورات و المناظرات عمق علمي لا شك في ذلك، و لكن تبني السلطة لهذا النوع من الجهد العقلي يكشف أنهم بسبيل كشف من يواليهم ممن يخالف عليهم، و لابانة من يؤيد مذهبهم السياسي ممن يحتمل عليه، فهي و ان كانت آفاقا معرفية في الجدل و الحجاج و المناظرة، الا أن عليها رصدا سياسيا جاثما، يأخذ عليهم الأنفاس، و يلتقط الاشارات فيذهب ضحية ذلك أمثال هؤلاء العلماء.

و ظاهرة أخري أن الحكم يبارك هذه الخطوات أني كانت النتائج، لأنها تصب في رافد مصالحهم الفئوية السياسية، فما علي المتكلمين الا الجهد



[ صفحه 118]



المضني في الجدل و الاحتجاج، و ما علي الحكم الا استثمار ذلك في صراعات بين صفوف الأمة لا أول لها و لا آخر، و لكنها تشغل الناس، و تلك نقطة انطلاق كبري يسعي اليها الحكم و السلطان.


پاورقي

[1] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 109.

[2] ظ: المؤلف / الامام محمد الباقر مجدد الحضارة الاسلامية / 88 - 106.

[3] ظ: المؤلف / الامام جعفر الصادق / زعيم مدرسة أهل البيت / الباب الأول / الفصل الثالث / الحياة العقلية و ظواهرها الاجتماعية.

[4] ظ: هذه المحاورة كاملة / البحار للمجلسي: 4 / 198 - 202.