بازگشت

الانشقاق الداخلي في فرق الشيعة


و كما انشق المسلمون الي مذاهب متعددة في القدر و الارجاء و الجبر و التفويض، و كما نشأت المعتزلة و الأشاعرة و الخوارج، فقد انشق الشيعة فيما بينهم، فكانت الفرق الخارجة عن نظام أهل البيت مفارقة لتسلسل الأئمة الاثني عشر القائل بامامة أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) و ولايته الكبري، ثم الحسن و الحسين، و علي بن الحسين (عليهماالسلام)، و محمد الباقر، و جعفر الصادق. و موسي الكاظم، و علي الرضا، و محمد الجواد، و علي الهادي، و الحسن العسكري، و الحجة القائم المنتظر (عليهم السلام) أجمعين.

هذا التسلسل الامامي كان منظورا اليه، و متحدثا عنه، منذ عهد مبكر، بدأه رسول الله (صلي الله عليه و آله) و علي، و الحسن و الحسين حتي عصر الامام الصادق (عليه السلام) بروايات متواترة و أحاديث مستفيضة و هو ما عليه الامامية، و هو جزء لا يتجزأ من مبدأ الامامة.

ولدي الامعان في تأريخ الانشقاق الداخلي في فرق الشيعة نجده أسبق عهدا من عصر الامام موسي بن جعفر، فقد نشأت الكيسانية القائلة بامامة محمد بن الحنفية، و هو الأخ الثالث غير الشقيق لسيدي شباب أهل الجنة الحسن و الحسين (عليهماالسلام).

فكانت الفتنة به عظيمة - و لا علاقة له بها - لأنه ابن أميرالمؤمنين، و ليس بأيدينا من المصادر ما يشير الي ادعائه الامامة لا من قريب و لا من



[ صفحه 119]



بعيد؛ بينما رأي أتباعه بأنه المهدي المنتظر، و أن وفاته كانت غيبة له، بل هو حي لم يمت و انما احتجب عن الأنظار. و سميت هذه الفرقة بالكيسانية نسبة الي كيسان مولي المختار الثقفي، بل قيل انه المختار نفسه.

و قد انقرضت هذه الفرقة، فلا وجود لها اليوم.

و من أبرز الفرق التي انشقت علي نظام أهل البيت «الزيدية» نسبة الي الشهيد زيد بن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)، و لم يكن زيد قد ادعي لنفسه الامامة أبدا، بل كان ثائرا، آمرا بالمعروف و ناهيا عن المنكر، حتي سفك في سبيل الله دمه، و صلبت جثته بعد القتل و أحرقت، و هو مرضي عند الأئمة (عليهم السلام)، و قد دعا الي الرضا من آل محمد.

روي العيص بن القاسم، قال: «سمعت أباعبدالله (الامام الصادق) يقول: عليكم بتقوي الله... ان أتاكم آت منا، فانظروا علي أي شي ء تخرجون؟ و لا تقولوا خرج زيد، فان زيدا كان عالما، و كان صدوقا؛ و لم يدعكم الي نفسه، و انما دعاكم الي الرضا من آل محمد (صلي الله عليه و آله)، و لو ظهر لوفي بما دعاكم اليه، و انما خرج الي سلطان مجتمع ليفضه (ليقضه) [1] .

و لم يكن للامام أن يسدد رأي زيد لو لم يكن علي حق. الا أن الزيدية اتخذت منهجا في دعوي الامامة يقوم علي مبدأ السيف، من خرج بالسيف فهو الامام المفترض الطاعة، و من أقام امامته علي غير الكفاح المسلح، فليس بامام، فلا يجوز اتباعه بزعمهم، و لا يجوز القول بامامته [2] .

و هنالك فرق انطلقت في الميدان في عصر الامام موسي بن جعفر (عليه السلام)، و كان أبرزها: الاسماعيلية، و الفطحية، و الواقفة.



[ صفحه 120]



و لكل فرقة من هذه الفرق الثلاث دعواها في تسلم منصب الامامة لغير الامام الشرعي المنصوص عليه في سلسلة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام).

فالاسماعيلية تنتسب الي اسماعيل بن الامام جعفر الصادق، فعلي الرغم من وفاته في حياة أبيه، فقد أنكروا ذلك بشدة، و قالوا: لا يموت حتي يملك [3] .

و كان هذا الزعم مخالفا لحقائق الاحداث، اذ توفي اسماعيل في عهد مبكر قبل الدعوة اليه، فقد مات في حياة أبيه في «العريض» و حمل علي رقاب الرجال الي المدينة، و دفن بالبقيع، و تقدم الامام الصادق سريره، و أمر بوضعه علي الأرض قبل دفنه مرارا كثيرة، و كان يكشف عن وجهه و ينظر اليه، يريد بذلك تحقيق أمر وفاته عند الظانين خلافته له من بعده، و ازالة الشبهة عنهم في حياته [4] .

و يقوم مذهب هذه الطائفة علي الغلو، و حصر الامامة في ذرية اسماعيل فيما يزعمون، و يضفون علي زعمائهم أقدس النعوت التي يرفضها حتي شبابهم المثقف. و في هذا الجو الغائم نشأت (الفطحية) القائلة بامامة عبدالله بن الامام الصادق (عليه السلام)، و قد لزمهم هذا اللقب لقولهم بامامته، و هو أفطح الرجلين. و يقال أنهم لقبوا بذلك لأن داعيهم الي امامة عبدالله هذا كان رجلا يقال له: عبدالله بن الأفطح [5] و قد تسمي هذه الفرقة العمارية، نسبة الي أحد زعمائها المسمي «عمار» [6] .



[ صفحه 121]



و سرعان ما اختفت هذه الفرقة، اذ لم يعش عبدالله بعد أبيه الا سبعين يوما، و لم يعقب ولدا ذكرا [7] و كأن مبدأ هذه الفرقة قد ولد ميتا، و انتهي أمرها.

و نشأت أفكار فرقة ضالة، كان لها الأثر في تفريق الكلمة، و تشويه الحقائق المجردة، و هي فرقة الواقفة، و قد تسمي «الواقفية» و سبب هذه التسمية أنها وقفت علي امامة موسي بن جعفر (عليه السلام) و ادعت أنه حي لم يمت و لا يموت، و أنه رفع الي السماء كما رفع عيسي بن مريم (عليه السلام) و أنه هو القائم المنتظر الذي يملأ الدنيا قسطا و عدلا بعد ما ملئت ظلما و جورا. و أن الذي في سجن السندي بن شاهك ليس هو الامام موسي بن جعفر بل شبه و خيل اليهم أنه هو [8] .

و كانت هذه المقالة مدعاة الي السخرية من قبل الامامية لأنها لا تقوم علي أساس نصي أو تأريخي علي الاطلاق.

قال الشيخ الطوسي (ت 460 ه):

«أما الذي يدل علي فساد مذهب الواقفة... فما ظهر من موته (عليه السلام)، و اشتهر و استفاض كما اشتهر موت أبيه و جده و من تقدمه من آبائه... علي أن موته اشتهر ما لم يشتهر موت أحد من آبائه (عليهم السلام)، لأنه أظهر، فقد أحضروا القضاة و الشهود، و نودي عليه ببغداد علي الجسر، و قيل: هذا الذي تزعم الرافضة أنه حي لا يموت، مات حتف أنفه» [9] .

و يبدو أن العنصر المادي، و خيانة الله و رسوله في احتجان الحق الشرعي و مال المسلمين، هو الذي أدي بالقول الي الوقف.



[ صفحه 122]



فروي الثقات: ان اول من أظهر هذا الاعتقاد علي بن أبي حمزة البطائني، و زياد بن مروان القندي، و عثمان بن عيسي الرواسي، طمعوا في الدنيا، و مالوا الي حطامها، و استمالوا قوما، فبذلوا لهم مما اختانوه من الأموال... فكان عند زياد بن مروان سبعون ألف دينار... و عند عثمان بن عيسي ثلاثون ألف دينار و خمس جوار، فبعث اليهم الامام علي بن موسي الرضا (عليه السلام): أن احملوا ما قبلكم من المال، و ما كان اجتمع لأبي عندكم من أثاث و جوار، فاني وارثه، و قائم مقامه، فأنكر ذلك البطائني و القندي، و أما عثمان بن عيسي الرواسي فكتب اليه: ان أباك (عليه السلام) لم يمت، و هو حي قائم، و من ذكر أنه مات فهو مبطل، و اعمل علي أنه قد مضي كما تقول، فلم يأمرني بدفع شي ء اليك، و أما الجواري: فقد أعتقتهن، و تزوجت بهن [10] .

و تهافت كثير من ذوي الأحلام القاصرة و ذوي الأطماع الواهنة الي اعتناق مذهب الواقفة دون هدي من كتاب أو سنة أو عقل.

و الطريف في الأمر أن يحمل الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) في حياته علي هذه الفرقة و علي رئيسها بالذات، فعن ابن أبي داود، قال: «كنت أنا و عيينة بياع القصب عند علي بن أبي حمزة البطائني، - و كان رئيس الوافقة - فسمعته يقول: قال أبوابراهيم (عليه السلام) (موسي بن جعفر): انما أنت و أصحابك يا علي أشباه الحمير!!.

فقال لي عيينة: أسمعت؟ قلت: اي و الله لقد سمعت.

فقال: لا، و الله لا أنقل اليه قدمي ما حييت» [11] .



[ صفحه 123]



و قال ربيع بن عبدالرحمن: «كان و الله موسي بن جعفر (عليه السلام) من المتوسمين، يعلم من يقف عليه بعد موته، و يجحد الامام بعد امامته» [12] .

و قد تمخض الامام علي بن موسي الرضا (عليه السلام)، لقيادة حملة واسعة ندد فيها بالواقفة، و حذر منها، و فند آراءها، و أخبر عن الضلال و الانحراف في خطواتها.

فقد سأل مرة ما فعل الشقي حمزة بن بزيع؟ فقال ابراهيم بن أبي البلاد: هو ذا قد قدم. فقال (عليه السلام): يزعم أن أبي حي، هم اليوم شكاك، و لا يموتون غدا الا علي الزندقة.

يقول صفوان بن يحيي: فقلت في نفسي: شكاك قد عرفتهم، فكيف يموتون علي الزندقة؟

فما لبثنا الا قليلا حتي بلغنا عن رجل منهم أنه قال عند موته: هو كافر برب أماته. فقلت: هذا تصديق الحديث [13] .

و عن محمد بن سنان؛ قال: ذكر علي بن أبي حمزة عند الامام الرضا (عليه السلام) فلعنه ثم قال: ان علي بن أبي حمزة أراد أن لا يعبد الله في سمائه و أرضه، فأبي الله الا أن يتم نوره و لو كره المشركون، و لو كره اللعين المشرك، قلت: المشرك؟ قال: نعم و الله رغم أنفه، كذلك هو في كتاب الله: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم...) [14] و قد جرت فيه و في أمثاله، انه أراد أن يطفي ء نور الله [15] .

و قد روي جعفر بن محمد النوفلي، أنه سأل الامام الرضا (عليه السلام): قلت: جعلت فداك، ان أناسا يزعمون أن أباك حي؟



[ صفحه 124]



فقال: «كذبوا لعنهم الله؛ لو كان حيا ما قسم ميراثه، و لا نكح نساؤه، و لكنه ذاق الموت كما ذاقه علي بن أبي طالب...» [16] .

و مع هذا الشجب المستمر، و الانكار الصريح، فان فتنة الواقفة قد استهوت جماعة من أعيان الشيعة فيهم الأكابر و الأعاظم، الا أن الله تعالي قد كشفها ببركة الامام الرضا (عليه السلام)، فرجع عنها أولئك الذين شكوا بوفاة الامام موسي بن جعفر (عليه السلام)، ثم عادوا لامامة الرضا (عليه السلام) بعد البراهين و الأدلة.

و قد استوعب الشيخ الطوسي ذكرهم بأسمائهم و أعيانهم، بعد أن لزمتهم الحجة، و لا داعي لاعادة ذلك مع عودتهم الي الهدي [17] .

و كان هذا بحسن التأتي لسيدنا و مولانا الامام علي بن موسي الرضا (عليه السلام) و قوة حجته، و نفاذ بصيرته، و صدق تجاربه، و قرعه الدليل بالدليل، و جهره بمعاداة أولئك الأفاقين.

فقد روي أحمد بن محمد قال:

«وقف علي، أبوالحسن (الامام الرضا) في بني زريق، فقال لي و هو رافع صوته، يا أحمد؛ قلت: لبيك، قال:

انه لما قبض رسول الله (صلي الله عليه و آله) جهد الناس في اطفاء نور الله، فأبي الله الا أن يتم نوره بأميرالمؤمنين (عليه السلام).

فلما توفي أبوالحسن (عليه السلام) (الامام موسي بن جعفر) جهد علي ابن أبي حمزة و أصحابه في اطفاء نور الله، فأبي الله الا أن يتم نوره، و ان أهل الحق اذا دخل عليهم داخل سروا به، و اذا خرج عنهم



[ صفحه 125]



خارج لم يجزعوا عليه، و ذلك أنهم علي يقين من أمرهم، و ان أهل الباطل اذا دخل فيهم داخل سروا به، و اذا خرج عنهم خارج جزعوا عليه، و ذلك أنهم علي شك من أمرهم، ان الله جل جلاله يقول: (... فمستقر و مستودع...) [18] .

قال: ثم قال أبوعبدالله (عليه السلام): المستقر الثابت، و المستودع المعار» [19] و لما صرح الحق عن وجهه، انتهي أمر هذه الفرقة، و ذهبت أدراج الرياح، و كأنها لم تكن.

و لئن انشقت فرق الشيعة من الداخل، فقد انشق المسلمون من الخارج، فوفدت عليهم الرياح الصفراء يحملها الأعاجم في كثير من الضغط علي النفوس الضعيفة و الأحلام الطائشة، و قد استأثرت الشعوبية بطائفة منهم، و استقطبت المزدكية و الزرادشتية و المانوية جيلا من الناس، و أسفرت حركات الالحاد و الزندقة عن اتباع و سائرين بالركاب، و قد شاء أربابها تزيين مبادئهم بشعارات براقة لم تظهر حتي اختفت، و لكنها أثرت في الحياة الفعلية ايما تأثير، و لكنها عاشت في أوهام العقول و لم تبلغ الأفئدة، و قد وقف منها المسلمون موقف المناضل المستميت، و كان الدور الأكبر للامام موسي بن جعفر (عليه السلام) بارز السمات و الآثار، فرفضها المجتمع المسلم، و عادت ادعاءاتها باهتة الألوان، فما استقرت حتي تبددت، و ما اجتمعت حتي تفرقت. و لئن أتاح المناخ السياسي لهذه المبادي ء الوافدة أن تتطاول، فقد أتاحت قيادة أهل البيت الفرصة للعمل علي الاطاحة بها، كما ستشاهد هذا في المبحث الآتي.



[ صفحه 126]




پاورقي

[1] الكليني / روضة الكافي / 264.

[2] ظ: النوبختي / فرق الشيعة / 75.

[3] ظ: الأشعري / مقالات الاسلاميين / 98.

[4] الشيخ المفيد / الارشاد / 319 - 320.

[5] ظ: المصدر نفسه / 320.

[6] ظ: الأشعري / مقالات الاسلاميين.

[7] ظ: الشهرستاني / مقالات الاسلاميين.

[8] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 204.

[9] الشيخ الطوسي / الغيبة / 20.

[10] ظ: الصدوق / علل الشرائع / 236 طبع النجف، الطوسي / الغيبة / 46 - 47، الصدوق / عيون أخبار الرضا: 112 / 1، الكشي / الرجال / 307، المجلسي / بحارالأنوار: 48 / 252.

[11] الشيخ الطوسي / الغيبة / 49، المجلس / البحار: 48 / 255.

[12] الشيخ الصدوق / عيون اخبار الرضا: 1 / 112.

[13] ظ: الشيخ الطوسي / الغيبة / 49، المجلسي / البحار: 48 / 256.

[14] سورة التوبة / 32.

[15] الشيخ الطوسي / الغيبة / 50، المجلسي / البحار: 48 / 257.

[16] ظ: الشيخ الصدوق / عيون أخبار الرضا 2 / 216، البحار 48 / 260.

[17] ظ: الشيخ الصدوق / عيون اخبار الرضا 2 / 216، البحار 48 / 260.

[18] سورة الأنعام / 98.

[19] الكشي / الرجال / 278، المجلسي / البحار 48 / 261.