بازگشت

المبادي ء السياسية المتقابلة


و كانت السلطات القائمة في عصر الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) تنطلق سياسيا من واقع أرستقراطي قائم علي أساس الأثرة و الاستعلاء، بينما كانت سياسة الامام و هي تنطلق من واقع اسلامي متوازن، معنيا للعدل الاجتماعي المفقود، و ألقا من النصح الكريم في بعث القدرات الانسانية، و دليلا من القيم التي تشجب عبادة الدولة و الأصنام البشرية، مؤكدة علي المبادي ء التي تعتبر الانسان مخلوقا رفيعا له كرامته المضمونة في اطار تعليمات الدولة الاسلامية التي تستنكر كون الفرد عبدا للدولة.

و من هنا كانت الفروق المميزة بين واقعين متناقضين، واقع الاستبداد المطلق المتمثل بسلاطين الجور، و واقع الكرامة الانسانية المتمثلة بأفكار الامام.



[ صفحه 138]



و كان استنطاق الوثائق التأريخية المحايدة، و استحضار النصوص الطريفة لحياة الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) في الرصد و التوجيه و التأثير، قد أحدثت في الأفق العام صوتا مدويا حاول البحث القاء المزيد من الضوء علي معطياته، و قد تأكد لنا من أبعاده و جوانبه استيعاب الامام المشروع الطموح البشري في العدل و المساواة و الحرية الاجتماعية، مما أوجد حالة كبري في الاستنفار اليقظ من ركود الماضي الي الانبعاث الجديد من التحرر و الانعتاق من تجاوزات السياسة الجافة التي انتهجتها خلائق السوء و دعاة التخريب الجماعي، فكان الانقلاب الجذري في فكر الانسان المسلم الواعي و حياته الحقيقية منطلقا - في ضوء توجيه الامام - لمعالجته الوضع الشاذ في أنماطه المأساوية، اذ انفتح العقل الانساني علي معايير جديدة في الأحكام و الأعراف و التقييم الموضوعي تختلف علي تلك الأعراف الشائعة وراء حجز الأفكار و وأد المنطلق المنطقي للانسان، مما جعل النظام العباسي يعيش في عزله قاتلة بين أفياء القصور و أحضان الجواري و المولدات، و هو يبتعد عن هموم الشعب، و الشعب يبتعد عن همومه، فهما مفترقان لا يلتقيان، و ان فرضت السيطرة بالقوة و الاكراه نوعا من الطاعة، و لكن هذا الفرض قد يتعكر صفوه بالانتفاضات المسلحة - كما ستري- فلم يكتب للدولة العباسية الاستقرار السياسي الا في ظل مسرحيات مفضوحة الغايات حاولها النظام للحل المؤقت، كالتجائه الي نصب الامام الثامن من أئمة أهل البيت؛ الامام علي بن موسي الرضا (عليه السلام) في مركز ولاية العهد للمأمون ريثما تهدأ العاصفة.

و لقد أصيب المجتمع الاسلامي بالشلل التام و الانكماش علي الذات جراء ما يعانيه من مخلفات هذا الوضع الغريب حتي أسقط في يده، و لكن التجربة الرافضة لظواهر التمزق الداخلي، و التي نهض بها الامام موسي بن



[ صفحه 139]



جعفر (عليه السلام) بصلابة و أناة، تعطي الجماعة الاسلامية زخما متحركا في مجابهة المناخ المريض الملوث، و تمد الأمة قوة و فتوة للانطلاق الغاضب علي العنف و التسلط.

و كان الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) نموذجا لا مثيل له في اشراق الضمير و توهج الذات، فحقق مبدأ «الغيرية» الذي يعيش فيه القائد الفذ لغيره من الناس لا لنفسه، و تلك هي التضحية التي ندبت لها شريعة السماء.

لقد كان بامكان الامام أن يغض طرفا عن تجاوزات الحكم العباسي فحسب، لا أن يجاربه أو يؤيده، فالحاكم لا يطمح بذلك، و لو تجاوز الامام ما رسمه لنفسه لعاش في بحبوحة من النعيم، بين القصور الفارهة و الحياة الرغيدة، و لكنه لم يخلق لهذا قط، بل انتصب شاخصا ماثلا للمبادي ء الرسالية التي ترفض كل صيغ المحاباة و الاستئثار بحقوق الفرد و الأمة، فكانت المجابهة للاضطهاد و الاستبداد تشكل نظرة مستقبلية لارساء مرجعية أهل البيت في اثراء الضمير الانساني بالموقف الصلب، و المبدأ الثابت، و الحياة الحرة الكريمة، دونما اراقة دماء بريئة، أو اثارة معارك عقيمة، فليكن و الحالة هذه هو الضحية لهذا التوجه الناهض، فما خلق الامام ليريح أو يستريح، بل ليناضل ما استطاع الي ذلك سبيلا، و كان تكليفه الشرعي هو الذي يملي عليه طبيعة العمل و التعبير عن الموقف بطرقه الخاصة التي تتفادي الصراع المرير بين الجمهور الأعزل المضطهد، و بين القوي الفاعلة و هي تتسلح بالجبروت و الجيش المدرب، و بذلك استطاع الامام تحقيق هدفين مهمين في سهم واحد:

الأول: مجابهة التعالي و شريعة الغاب؛ بالقول الصارم، أو النضال السلبي الهادر، أو الكلمة النافذة الي الأعماق، و هي تزلزل عروش الطغاة و كبرياء الجبابرة.



[ صفحه 140]



الثاني: الابقاء بحدود كبيرة علي البقية المؤمنة، دون التفريط بها في خنادق القتال و ميادين الحروب المدمرة.

فقد رأي الامام - علي قلة أنصاره - أن القتال لا يحقق له نصرا فعليا ولا مستقبليا، فعليه أن يسلك بأتباعه بحلم و رؤية، و يحفزهم باعداد القوة الي الظرف المناسب.

و كان عصر الامام قد أتاح له الالتقاء البغيض بطواغيت عصره من بني العباس، فكانت مبادؤه متقاطعة مع كل من: أبي جعفر المنصور، و المهدي العباسي، و موسي الهادي، و هارون الرشيد، و هم يمثلون الدولة العباسية في قوتها و عنفوانها.

و سنلاحظ عن قرب مدي الاستهانة بالقيم الانسانية و الأخلاقية لدي هؤلاء، و الامام موسي بن جعفر كالجبل الأشم رسوخا و ثباتا و قيما.