بازگشت

في استخلاف المنصور


لم يكن المنصور حازما كما صوره مدونو التأريخ، و لم يكن داهية كما يصفه رواة الأحداث، بل كان من جبابرة الأرض الذين سفكوا الدماء، و انتهكوا الحرمات. و لم يكن ليتعامل بمنظور ديني علي الاطلاق، و انما هو الملك الدنيوي العقيم، فهو لا يتورع عن ارتكاب أفظع الجرائم و الموبقات ازاء تثبيت أركان مملكته، و لا أدل علي ذلك ما اقترفه من قتل الحسنيين تحت كل حجر و مدر، و من تتبع آثار المعارضين ابادة و سجونا و طوامير، حتي طفح الاناء بما فيه شدة و قسوة و تنكيلا.

و مع أن التأريخ الرسمي قد منح الطغاة هالة من التعظيم و شيئا من الاكبار، الا أن شذرات من تقريراته قد فضحت ذلك الستار الشفاف الذي أحيط بتلك الأبراج العاجية التي استقل في ظلالها دعاة الجور و قتلة الأبرياء.



[ صفحه 141]



لقد أنزل العباسيون بقيادة أبي جعفر المنصور أفدح العقوبات بأبناء عمومتهم من العلويين، لم يمنعهم عن ذلك قرابة أو لحمة نسب، و لم يردعهم دين أو ورع، و انما هو الاستئثار الشامل بكل شي ء، و الأحكام العرفية الصارمة لأدني مخالفة، و لم تكن جرائم المنصور نفسه بريئة من القسوة الضارية التي أنست جرائم الجاهلية في عنفها و شدتها، يضاف اليها الغدر بأقرب الناس، و أنصار النظام، و قادة الحركة العباسية أنفسهم، حتي قال الأستاذ السيد أمير علي الهندي:

«كان المنصور خداعا لا يتردد البتة في سفك الدماء، و تعزي قسوته الي حقده البالغ حد الافراط... سادرا في بطشه، و مستهترا في فتكه، و تعتبر معاملته لأولاد علي (عليه السلام) صفحة من أسوأ صفحات التأريخ العباسي» [1] .

و لم يكن أمر قسوته بمعزل عن تسليط الضوء علي برنامجه الدموي في استئصال شأفة المعارضين السياسيين من قبل التأريخ، بل صرح بأكثر من مصدر و مورد بآثار ذلك النهج الارهابي المفجع في صوره المرعبة.

قال الطبري (ت 310 ه): ان المنصور: «أمر بأسطوانة مبنية ففرغت، ثم أدخل فيها محمد بن ابراهيم بن الحسن، فبني عليه و هو حي» [2] .

بل أنه عمد الي جملة الأسري من الحسنيين فكبلهم بالقيود و الأغلال حتي ماتوا في السجون [3] .

و قيل: انهم وجدوا مسمرين في الحيطان [4] .

قال السيوطي بأنه: «قتل خلقا كثيرا حتي استقام ملكه» [5] .



[ صفحه 142]



و هو الذي أمر بضرب أبي حنيفة النعمان بن ثابت، ثم سجنه فمات بعد أيام [6] .

بل روي السيوطي: أنه قتل أباحنيفة بالسم [7] .

و هذه أمثلة شاردة علي فظاظة أفعاله و سوء معاملته، مع شرائح من الناس و الأبرياء منهم بخاصة، و لا أدل علي ذلك من قتله الامام الصادق (عليه السلام) فقضي مسموما بأمره.

و قد عرضنا لشي ء من سيرته في البطش الدموي في كتابنا: «الامام جعفر الصادق (عليه السلام) زعيم أهل البيت» و نضيف هنا أنه كان ممن يتلاعب بشريعة سيد المرسلين (صلي الله عليه و آله)، و يخالف أحكامها بأحكام ما أنزل الله بها سلطانا.

«فقد دخل عليه ابن هرمة الشاعر المشهور بشرب الحمر، فقال له المنصور: ما حاجتك؟ قال ابن هرمة: تكتب الي عاملك بالمدينة أن لا يحدني اذا وجدني سكران!! فقال:

لا أعطل حدا من حدود الله. قال: تحتال لي!!

فكتب المنصور الي عامله: من أتاك بابن هرمة سكرانا فاجلده مائة، و اجلد ابن هرمة ثمانين.

فكان من يراه سكران يقول:

- من يشتري مائة بثمانين، ثم يتركه و يمضي» [8] .

و هكذا يجد المنصور المخرج لاباحة شرب الخمر و تعطيل الحدود، علما بأنه كان يتناول الخمرة، و لكنه لا يظهر لندمائه بشرب و لا غناء [9] و كان



[ صفحه 143]



معروفا بالفتك، و لقد غدر بأب مسلم الخراساني قائد الدعوة العباسية، و بأبي سلمة الخلال وزير آل محمد كما وصفوه، و بعمه عبدالله بن علي، و سواهم من أعيان رجاله.

و كان بخيلا يضرب المثل بشحه و بخله، و يجد ذلك مكرمة و حسن تدبير، و يحرص علي خزائنه جمعا و احتكارا، و الشعب المسلم يتضور جوعا و بؤسا، و يعلل ذلك بقوله: «من قل ماله قل رجاله، و من قل رجاله قوي عليه عدوه، و من قوي عليه عدوه اتضع ملكه، و من اتضع ملكه استبيح حماه» [10] .

و هكذا تري حاكما غادرا بخيلا فاتكا يتقمص الخلافة الاسلامية، و يتبوأ مقعد ادارة المسلمين بهذه الصفات المهزوزة، و كان حريا بالتأريخ أن يكشف سود صحائفه، و لكن التأريخ يجري في ميدان الحكم سواء رضي الناس أم سخطوا.

و كان الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) قد قضي أكثر من عشرين عاما في خلافة المنصور التي امتدت بين عام 136 ه حتي عام 158 ه، و هي فترة ليست بالقصيرة، اذ أفني زهرة شبابه في حياة هذا الحاكم، و هو يسفك الدماء بغير الحق، و يستبيح الذمام ابتداء من القضاء علي الحسنيين و انتهاء بسم الامام الصادق (عليه السلام). و ما رافق ذلك من المظالم الهائلة و الارهاب الجماعي، مما ذهب ضحيته آلاف المسلمين الرساليين، مضافا الي القضاء علي شباب الهاشميين و شيوخهم قتلا و تشريدا و اعتقالا. كما حدث بذلك التأريخ [11] .

و كان الاضطهاد السياسي يتراوح في تلك الحقبة بين قطع الأعناق و قطع الأرزاق و مصادرة الحرية، فكان علي الناس و هي ترافق هذه الانتهاكات أن تحيا شاهد الخوف و الهلع و الفقر.



[ صفحه 144]



و الامام ينظر الي هذا كله، و لا يستطيع تغيير ذلك جذريا، و ان استطاع أن يفضحه علي رؤوس الأشهاد سلبا أو ايجابا، غاب عنه الأولياء الا صفوة تعد بأطراف الأصابع، ادخرهم لتبليغ الرسالة، و استتر عنه الزعماء فقد ملئت غرائرهم بالأموال و الرشاوي، و بقي في ضعفاء من الناس لا حول لهم و لا طول، و الأمر يتنقل بالفوضي من سيي ء الي أسوأ، و الآفاق داكنة بين سحاب و ضباب، و الحياة مضطربة بين السيف و الحيف، و قلق المسلمون علي الامام حينما كتب المنصور الي واليه علي المدينة عند وفاة الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام):

«ان كان الامام قد أوصي الي رجل بعينه، فقدمه و اضرب عنقه». فكتب الوالي الي المنصور أن الامام الصادق قد أوصي الي خمسة: أبي جعفر المنصور نفسه، و محمد بن سليمان والي المدينة، و ولده عبدالله الأفطح، و ولده موسي، و زوجته حميدة.

فقال المنصور: ما الي قتل هؤلاء من سبيل [12] .

و كانت جرائم المنصور تتجاوز الحدود في الانتقام و التشفي، و أكتفي بحديث «الخزانة» التي احتجزها لنفسه، و لم يطلع عليها أحدا، و هي محاطة بالسرية و الكتمان، حتي ظهر أمرها بعد وفاته بما تحدث عنه محمد بن جرير الطبري بقوله:

«لما عزم المنصور علي الحج دعا (ريطة بنت أبي العباس السفاح) امرأة المهدي، و كان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر، فأوصاها بما أراد، و عهد اليها، و دفع اليها مفاتيح الخزائن، و تقدم اليها و أحلفها، و وكد الايمان أن لا تفتح بعض تلك الخزائن، و لا تطلع عليها أحدا الا المهدي، و لا هي الا أن



[ صفحه 145]



يصح عندها موته، فاذا صح ذلك اجتمعت هي و المهدي و ليس معهما أحد حتي يفتحا الخزانة، فلما قدم المهدي من الري الي مدينة السلام دفعت اليه المفاتيح و أخبرته ألا تفتحه، و لا يطلع عليه أحد حتي يصح عندها موته، فلما انتهي الي المهدي موت المنصور، و ولي الخلافة فتح الباب و معه ريطة، فاذا أزج كبير فيه جماعة من قتلي الطالبيين، و في آذانهم رقاع فيها أنسابهم، و اذا فيهم أطفال، و رجال شباب، و مشايخ عدة كثيرة، فلما رأي المهدي ذلك ارتاع لما رأي، و أمر فحفرت لهم حفيرة، فدفنوا فيها، و عمل فوقها دكانا» [13] .

و هكذا نجد شأن الطغاة الكبار في الانتقام اللاانساني بأقرب الناس صلة و نسبا، و لا غرابة في ذلك و وصيته لولده المهدي تقول: «اني تركت بعض المسيئين من الناس ثلاثة أصناف: فقيرا لا يرجو الا غناك، و خائفا لا يرجو الا أمنك، و مسجونا لا يرجو الفرج الا منك» [14] .

و يعقب علي الرواية الأستاذ باقر شريف القرشي بقوله:

«انه لم يترك بعض المسيئين من الناس علي ثلاثة أصناف، و انما ترك الناس جميعا كذلك، فقد روعهم بخوفه، و سلبهم الأمن و الدعة، و نشر الفقر و المجاعة بينهم، و ملأ السجون بالأحرار و المصلحين» [15] .

و كيف تري حياة الامام، و هو يعايش كل المآسي التي اجترحها المنصور في حقده؟ بلي مات المنصور و عمر الامام ثلاثون عاما أبقت في قلبه ذكريات اللوعة و المرارة و الأسي، فكان بذلك يحيا الألم الكبير في كل ظواهره المروعة.



[ صفحه 146]




پاورقي

[1] أمير علي الهندي / مختصر تاريخ العرب / 184.

[2] الطبري / تأريخ الأمم و الملوك 7 / 546.

[3] المصدر نفسه 7 / 540.

[4] اليعقوبي / التأريخ 3 / 106.

[5] السيوطي / تأريخ الخلفاء / 172.

[6] محمدحسن آل ياسين / الامام موسي بن جعفر / 14.

[7] السيوطي / تأريخ الخلفاء / 172.

[8] السيوطي / تأريخ الخلفاء / 178.

[9] المصدر نفسه / 179.

[10] اليعقوبي / التأريخ 3 / 121.

[11] ظ: الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / 350.

[12] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 47 / 3.

[13] الطبري / تأريخ الأمم و الملوك 6 / 320.

[14] اليعقوبي / التأريخ 3 / 349.

[15] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 1 / 431.