بازگشت

في عهد المهدي العباسي


و استقبل المهدي بن المنصور خلافة أبيه عام 158 ه بموجة عارمة من اللهو و العبث و المجون، فقد استولي علي مخزون الثراء الفاحش الذي تركه أبوه نتيجة بخله و تقتيره مما احتجز من مال المسلمين، فأرخي لنفسه الزمام في التحلل و الاستهتار و الاسراف، و ولع بالغناء و موائد الفجور، فأصاب منها ما شاء، و أباح للمغنيين ما شاؤوا من الحرية و الرخاء، و أصبح شعر بشار في الغزل الاباحي ينشد جهارا، و بمجونه ينتشر سرا و خفاء، حتي عيب علي المهدي ذلك، فضيق علي بشار، ثم أطلق له العنان.

و قد فصل القول بذلك الدكتور أحمد أمين من مصادره [1] .

و كان قد بلغ المهدي حسن صوت ابراهيم الموصلي وجودة غنائه، فقربه اليه، و أعلي من شأنه [2] .

و كان المهدي مولعا بشرب الخمر، و معروفا به، حتي أثار ذلك وزيره يعقوب بن داود فنهاه عن ذلك فلم ينته، و قال له: «أبعد الصلاة في المسجد تفعل هذا»؟

فما استمع له، و شجعه علي الخمرة بعض شعرائه، فقال:



فدع عنك يعقوب بن داود جانبا

و أقبل علي صهباء طيبة النشر [3] .



و كان المهدي أول من فتح باب الخلاعة و المجون في بني العباس، و أول من استجاب لشهواته و نزواته علنا، فنشأ جيل من الشباب في ميعة



[ صفحه 147]



و ضياع، و تجرأ علي الحرمات ذوو الفسق و الفجور، و كانت نقلة نوعية في حياة الترف و السرف أشرفت فيها الدولة علي التدهور، و صاحب ذلك البذخ الطائل الذي تجلي في مراسم تزويجه لولده هارون الرشيد من زبيدة فيما استضاف به الناس في قصر الخلد علي دجلة، فكان مجمل ما أنفق علي ذلك من بيت مال المسلمين خمسين ألف ألف درهم، و ألبست زبيدة قميصا كله من الدر الكبار، و ثوبا كله من الذهب [4] .

بل ذهب الشابشتي الي أكثر من هذا، فقال: «ان المهدي لما زوج ابنه الرشيد بأم جعفر ابنة أخيه، استعد لها ما لم يستعد لامرأة قبلها من الآلة و صناديق الجوهر، و الحلي، و التيجان، و الأكاليل، و قباب الفضة و الذهب، و الطيب، و أعطاها بدلة هشام (بن عبدالملك) و لم ير في الاسلام مثلها، و مثل الحب الذي كان فيها، و كان في ظهرها و صدرها خط من ياقوت أحمر، و باقيها من الدر الكبار الذي لا يوجد مثله» [5] .

أما الهبات الضخمة التي منحها لأبنائه و قواده و ولاته فحدث عن ذلك و لا حرج، فقد اشتري فصا من ياقوت أحمر بثلاثمائة ألف دينار، و وهبه لولده الهادي مما أوجد حالة من الذهر و الهلع لدي سواد المسلمين الجياع.

و في هذا المناخ الساخن نشأ ولده ابراهيم فكان شيخ المغنين، و شبت ابنته علية بنت المهدي، فكانت زعيمة الغناء النسائي في العصر العباسي، و تفرعنت زوجته الخيزران فكان لها الباع الأطول في شؤون السياسة و ادارة السلطان.

و بذر أموال الدولة علي الشعراء، فحينما أنشده مروان بن أبي حفصة:



[ صفحه 148]



هل تطمسون من السماء نجومها

بأكفكم أو تسترون هلالها



أو تدفعون مقالة من ربكم

جبريل بلغها النبي فقالها



شهدت من الأنفال آخر آية

بثرائهم فأردتم ابطالها



و سمع المهدي ذلك، زحف من مصلاه حتي صار علي البساط، و هو يقول: كم بيت هي؟ قال: مائة بيت.

فأمر له بمائة ألف درهم، و قال له:

«انها لأول مرة أعطيها شاعرا في خلافة بني العباس» [6] .

بهذا و أمثاله كانت تساس الدولة في عهد المهدي، و تبذر الأموال بين أتباعه و شهواته، أضف اليها تشجيعه الوضاعين الذين يخترعون الأخبار و الروايات في ثلب العلويين، و ضمهم اليه بما افتروا من الكذب الصراح علي النبي (صلي الله عليه و آله) [7] .

و لم يكن الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) في منأي عن شرور الحكم و جرائره، فقد كابد الكثير في عهد المهدي بما تحدث عنه الرواة، لا لشي ء، الا العداء السافر لآل بيت النبي (صلي الله عليه و آله) و الا الخوف المستطير من مكانة الامام و التفاف المسلمين حول زعامته الدينية، بما عرف عنه من الورع و التقوي، و ما اشتهر من الأثر العلمي العظيم.

و يبدو أن المهدي قد استدعي الامام عدة مرات، و استقدمه الي بغداد.

يقول الأستاذ محمدحسن آل ياسين:

«و قد نجح ذوو النفوس الخبيثة في سعيهم لتأزيم الموقف بين الامام و السلطان، فاستدعي الامام الي بغداد، و حبس هناك باتفاق المؤرخين مدة



[ صفحه 149]



من الزمن.. و ان استدعاء الامام و حبسه في عهد المهدي قد تكرر أكثر من مرة... و ذكر (القدمة الأولي علي المهدي) دليل علي تعدد القدمات و تكرارها، و ان لم نعرف عددها و ملابساتها بالتفصيل» [8] .

و قد أشار الرواة الي حادثتين في هذا السياق:

فقد كتب المهدي الي عامله علي المدينة بارسال الامام الي بغداد، فتجهز الامام للسفر، و التقي أباخالد (الزبالي أو الرماني) و كان منقبضا، فقال له الامام: مالي أراك منقبضا؟

قال: كيف لا أنقبض، و أنت سائر الي هذا الطاغية، و لا آمن عليك. فهدأ الامام من روعه، و أخبره أن لا ضير عليه في سفره هذا، و يبدو أن الامام سجن في هذا الاستدعاء، قال الخطيب: و لما حبس المهدي موسي بن جعفر، رأي المهدي في النوم علي بن أبي طالب، و هو يقول:

(فهل عسيتم ان توليتم أن تفسدوا في الأرض و تقطعوا أرحامكم) [9] .

قال الربيع: فأرسل (المهدي) الي ليلا، فراعني ذلك، فجئته فاذا هو يقرأ هذه الآية - و كان أحسن الناس صوتا - و قال علي بموسي بن جعفر، فجئته به، فعانقه، و أجلسه الي جنبه، و قال: يا أباالحسن، اني رأيت أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب في النوم يقرأ علي كذا، فتؤمنني أن لا تخرج علي أو علي أحد من ولدي؟

فقال: الله، لا فعلت ذاك، و لا هو من شأني.

قال: صدقت. يا ربيع أعطه ثلاثة آلاف دينار، ورده الي أهله.



[ صفحه 150]



قال الربيع: فأحكمت أمره ليلا، فما أصبح الا و هو في الطريق خوف العوائق [10] و قد روي هذا الخبر في أكثر من خمسة عشر مصدرا بالتفصيل [11] .

و سار الامام (عليه السلام)، فالتقي أباخالد في «زبالة» أيضا، و كان السرور ظاهرا عليه، فقال له الامام: «ان لهم الي عودة لا أتخلص منها» [12] .

و هناك حادثة تروي في المناقب و البحار بالشكل الآتي:

«لما بويع محمد المهدي دعا حميد بن قحطبة نصف الليل، و قال: ان اخلاص أبيك و أخيك فينا أظهر من الشمس، و حالك عندي موقوف!!

قال: أفديك بالروح و المال و الأهل و الولد.

فلم يجبه المهدي؛ فقال: أفديك بالمال و النفس و الأهل و الولد و الدين.

فقال: لله درك؛ فعاهده علي ذلك، و أمره أن يقتل الامام الكاظم (عليه السلام) في السحر بغتة. فنام فرأي عليا (عليه السلام)، يشير اليه، و يقرأ الآية السابقة...، فانتبه مذعورا، و نهي حميدا عما أمره، و أكرم الكاظم و وصله» [13] .

ولدي المقارنة في ضوء الروايتين نلحظ أن الامام كان سجينا عند الربيع أولا، و عند حميد بن قحطبة ثانيا، و علي هذا فان اعتقال الامام قد حدث مرتين في عهد المهدي بن المنصور، كما نلحظ أن الامام قد استقدم مرتين عليه من المدينة الي بغداد، فاذا علمنا مدي حقد المهدي علي العلويين و شدة بطشه بهم، كان ما استنتجناه مقاربا للواقع الذي حدث. و هكذا كان شأنه مع أبناء علي بن أبي طالب سجنا و تشريدا و قتلا، فقد روي الطبري عن يعقوب بن داود وزير المهدي أن المهدي قال له:



[ صفحه 151]



هذا فلان بن فلان من ولد علي، أحب أن تكفيني مؤونته و تريحني منه، و تعجل ذلك... قال: قلت أفعل، قال: فخذه اليك... و أهدي له جارية حسناء.

قال يعقوب: و بعثت الي العلوي، فأدخلته و سألته عن حاله... و اذا هو ألب الناس و أحسنهم ابانة... قال لي: ويحك؛ يا يعقوب؛ تلقي الله بدمي، و أنا رجل من ولد فاطمة بنت محمد؟ قلت: لا و الله، فهل فيك خير؟ قال ان فعلت خيرا شكرت لك.

فقلت له: أي الطرق أحب اليك؟ قال: طريق كذا، قلت: فمن هناك من تأنس به و تثق بموضعه؟ قال: فلان و فلان.

قلت: فابعث اليهما، و خذ هذا المال، و امض معهما.

و اذا الجارية (التي أهديت له) قد حفظت علي قولي، فبعثت به مع خادم لها الي المهدي... و بعث المهدي من وقته ذاك فشحن تلك الطرق... فلم يلبثوا أن جاؤوه بالعلوي بعينه و صاحبيه و المال.

قال يعقوب: و أصبحت من غد ذلك اليوم، فاذا رسول المهدي يستحضرني...

فقال: يا يعقوب، ما حال الرجل؟

قلت: يا أميرالمؤمنين قد أراحك الله منه.

قال: مات؟ قلت: نعم، قال: و الله؟ ثم قال: قم فضع يدك علي رأسي، قال: فوضعت يدي علي رأسه و حلفت له به.

قال: يا غلام؛ اخرج الينا ما في هذا البيت.

قال: ففتح بابه عن العلوي و صاحبيه و المال بعينه. قال: فبقيت متحيرا و سقط في يدي. فقال المهدي: لقد حل لي دمك لو آثرت اراقته، و لكن احبسوه [14] .



[ صفحه 152]



و هذا نموذج فرد من نماذج كثيرة تمثل جور المهدي، و ما صاحب أيام حكمه من المظالم طيلة أحد عشر عاما من خلافته السوداء؛ و لقد عاش الامام الكاظم (عليه السلام) أحداثها المأساوية و اجتراحها الدموي.

و ربما انتبه المهدي لنفسه، فرأي ما أحدثه من ثغرات عريضة في كيان الدولة، فحاول ائتلاف القلوب بأسلوب من الدجل و التضليل يظهر فيه بصورة المنصف في مروءة مزعومة.

فقد عرض علي الامام موسي بن جعفر فيما يروي، أن يرد عليه فدكا، فرفض الامام ذلك، و لما ألح عليه المهدي، قال: لا أقبلها الا بحدودها. قال المهدي: و ما حدودها؟

قال الامام: الحد الأول عدن. فتغير وجه المهدي.

و الحد الثاني: سمرقند. فأربد وجهه.

و الحد الثالث: افريقية.

فقال له المهدي: و الحد الرابع؟

قال الامام: سيف البحر مما يلي الخزر و أرمينية. فقال له: لم يبق لنا شي ء، فتحول الي مجلسي!!

قال الامام: لقد أعلمتك بأني ان حددتها لم تردها [15] .

و المهدي أراد تطييب بعض الخواطر الناطقة باغتصاب أرض الزهراء، و الامام أكد الأمر باغتصاب الخلافة و الدولة لا الأرض وحدها. و مهما يكن من أمر، فقد انتهت أيام المهدي بموته في المحرم 169 ه [16] .



[ صفحه 153]




پاورقي

[1] ظ: أحمد أمين / ضحي الاسلام 1 / 112 - 114.

[2] ظ: الأصبهاني / الأغاني 5 / 5.

[3] ظ: ابن الطقطقي / الفخري / 167.

[4] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 1 / 439.

[5] الشابشتي / الديارات / 100.

[6] ظ: الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد 3 / 144.

[7] ظ: المصدر نفسه 2 / 193، 6 / 346، الطبري / تاريخ الأمم و الملوك 6 / 397، الطبرسي / الاحتجاج / 214.

[8] ظ: محمدحسن آل ياسين / الامام موسي بن جعفر / 58 و انظر مصادره.

[9] سورة محمد / 22.

[10] الخطيب البغدادي / تاريخ بغداد 3 / 30 - 31.

[11] ظ: محمدحسن آل ياسين / الامام موسي بن جعفر / 59.

[12] الشبلنجي / نور الأبصار / 36.

[13] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 417، المجلسي / البحار 48 / 140.

[14] الطبري / تاريخ الأمم و الملوك 8 / 158 - 159.

[15] هاشم معروف الحسني / سيرة الأئمة الاثني عشر 2 / 340.

[16] المسعودي / مروج الذهب 3 / 233.