بازگشت

في أيام موسي الهادي


و كانت أيام الهادي بن المهدي العباسي من أسوأ ما مر في حياة الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) علي قصر المدة و اخترام الأجل، اذ تملك عام 169 ه، و هلك لليال بقيت من ربيع الأول عام 170 ه [1] و كان شابا نزقا تولي الخلافة العباسية و عمره خمس و عشرون سنة [2] .

«و كان سادرا في الطيش و الغرور، و متماديا في الاثم و الفجور، و قد أراح الله منه العباد في بداية ملكه، فلم تطل أيامه، و لو امتد به العمر لواجه المسلمون في عهده أعنف المشاكل و أقساها، فقد كان طاغيا جبارا لا يتحرج من سفك الدماء و اراقتها بغير حق، و قد أسرف في سفك دماء العلويين، فأنزل بهم العقاب الصارم، و قد أجمع رأيه علي التنكيل بالامام موسي (عليه السلام)، الا أن الله قصم ظهره قبل أن يقوم بذلك» [3] .

و كان شديد الوطأة علي العلويين، و قد امتلأ عليهم حقدا نتيجة العقد النفسية المتأصلة لديه، و قد ورث هذا الحقد لا عن كلالة، فقد رأيت جده و أباه و أخاه من ذي قبل، فاذا أضفت الي هذا أنه «قاسي القلب، شرس الأخلاق، صعب المرام» [4] .

كانت الحصيلة المترقبة الدماء اثر الدماء تراق فيها الأخلاق و القيم، و تحصد فيها النفوس البريئة من آل أبي طالب في قسوة من الاجراءات لا مثيل لها، فهو يتعقبهم في الآفاق، و يطلب شبابهم و كهولهم في الأقاليم، فلم



[ صفحه 154]



يفلت الا القليل من قبضته، حتي قال اليعقوبي أنه: «ألح في طلب الطالبين، و أخافهم خوفا شديدا... و كتب الي الآفاق في طلبهم» [5] .

و قد تابعهم تحت كل حجر و مدر بعد «مأساة فخ» الشهيرة التي سنأتي علي ذكرها في موقعها من البحث.

و كانت هذه الثورة التي قادها الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) قد استهدفت النظام العباسي، و ذلك بسبب من مظالمه و سوء الادارة، و اضطهاد أهل البيت (عليهم السلام) و من يمت اليهم بصلة ما، و اذلال المسلمين و مصادرة الحرية و اختلاس الأموال، و هي من أعنف الثورات في التأريخ الاسلامي - مأساة - بعد ثورة الطف، فقد استؤصل قادتها، و أبيد معسكرها، و قتل مفجرها في «فخ» علي ستة أميال من مكة المكرمة، و بقي القتلي ثلاثة أيام علي وجه الأرض بلا دفن [6] .

و قد احتزن رؤوسهم، فكانوا مائة رأس و نيفا [7] .

و قد اكتوي الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) بلهيب هذه الثورة، فتوجه اليه اصبع الاتهام جزافا، حتي أن موسي الهادي قد هم بقتل الامام، ثم أعرض عنه، لعدم ثبوت تأييده لها [8] .

و ذكر ابن حجر «أن موسي الهادي حبسه أولا، ثم أطلقه» [9] .

يقول الأستاذ محمدحسن آل ياسين:

«و عندما نريد البحث و التعمق في معرفة دوافع الخليفة الهادي الي حبس الامام، أو ايصال الأذي اليه، أو العزم علي قتله، فقد يرجح في الظن أن



[ صفحه 155]



ذلك مرتبط بقضية ثورة الحسين بن علي في سنة 169 ه، كما يرجح أيضا أن، يكون تراجعه عن تنفيذ ما عزم عليه بسبب ما علمه بعد ذلك من جلاوزته و مخبريه من عدم مشاركة الامام في تلك الثورة، و رفضه دعوة ابن عمه للخروج معه» [10] .

و مع هذا فقد عاش الامام مأساتها بكل أبعادها كما ستري. و لم يكن موسي الهادي رجل دولة، و لا صاحب قيادة، و قد شغل نفسه بالملذات الآثمة و الشهوات الموبقة، فهو رجل خمر و غناء و خدين نديم و مجون، فقد «كان يتناول المسكر» [11] بل كان من المتهالكين علي شرب الخمر، فكان أول خليفة عباسي أغري بالخمر [12] و تبعه علي ذلك هارون الرشيد [13] .

و كان الهادي خليعا ماجنا، أقبل علي اللهو و الدعارة، فبذل المال العظيم علي شهواته و طربه و محافل الغناء حتي قال اسحاق الموصلي: «لو عاش لنا الهادي لبنينا حيطان دورنا بالذهب» [14] و قد غناه ابراهيم الموصلي بصوت فأطربه فوهب له ثلاثين ألف دينار [15] .

و هكذا تكون الشقة بين الشعب البائس اليائس و بين حكامه و سلاطينه العابثين، الشعب يتطلع الي رغيف الخبز، و السلطان يسرف بامعان تحقيقا للذائذ الآثمة. و يتجرع الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) ضروب المآسي في أيام هذا الطاغية المشهور، فيصبر علي الأذي، يكظم غيظه، حتي اذا توعده بالقتل جازما،



[ صفحه 156]



و أنهي اليه الخبر، و عنده جماعة من بني هاشم و أهل بيته، قال لأهل بيته: ما تشيرون؟

قالوا: نري أن تتباعد عنه، و أن تغيب شخصك منه، فانه لا يؤمن شره، فتبسم الامام، و قال مستشهدا:



زعمت سخينة أن ستغلب

ربها و ليغلبن مغالب العلاب



ثم رفع يده الي السماء، فقال:

«اللهم كم من عدو شحذ لي ظبة مدينه، و أرهف لي شبا حده، و داف لي قواتل سموحه، و لم تنم عين حراسته، فلما رأيت ضعفي عن احتمال الفوادح، و عجزي عن ملمات الجوايح، صرفت ذلك بحولك و قوتك. لا بحولي و قوتي، فألفيته في الحفير الذي احتفره خائبا مما أمله في دنياه، متباعدا مما رجاه في آخرته، فلك الحمد علي ذلك قدر استحقاقك سيدي، اللهم فخذه بعزتك، و أفلل حده عني بقدرتك، و أجعل له شغلا فيما يليه، و عجزا عمن يناويه.

اللهم و أعدني عليه عدوي حاضرة، تكون من غيظي شفاء، و من حقي عليه وفاء، و صل اللهم دعائي بالاجابة، و أنظم شكايتي بالتغيير، و عرفه عما قليل ما وعدت الظالمين، و عزمني ما وعدت في اجابة المضطرين، انك ذو الفضل العظيم و المن القدم».

(ثم تفرق القوم، فما اجتمعوا الا لقراءة الكتاب الوارد عليه بموت موسي بن المهدي) [16] .

و كان دعاء الامام مستجابا و علي الفور، حيث ورد البريد بهلاك موسي الهادي، و في ذلك يقول بعض من حضر عند موسي بن جعفر من أهل بيته:



[ صفحه 157]



و سارية لم تسر في الأرض تبتغي

محلا.. و لم يقطع بها البعد قاطع



سرت حيث لم تحد الركاب و لم تنخ

لورد.. و لم يقصر لها البعد مانع



تمر وراء الليل.. و الليل ضارب

بجثمانه.. فيه سمير و هاجع



تفتح أبواب السماء.. و دونها

اذا قرع الأبواب منهن قارع



اذا وردت لم يردد الله وفدها

علي أهلها.. و الله راء و سامع



و اني لأرجو الله حتي كأنما

أري بجميل الظن ما الله صانع [17] .



و الأبيات اشارة تفصيلية الي دعوة الامام في رد كيد الهادي، و هكذا كان، فقد انتهت حياة الهادي بدعاء الامام، دون الدخول بتفصيلات مؤامرة القضاء علي الهادي.


پاورقي

[1] ظ: اليعقوبي / التأريخ 3 / 139، الطبري / تأريخ الأمم و الملوك 8 / 205.

[2] ظ: ابن عبد ربه / العقد الفريد 5 / 116.

[3] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 1 / 457.

[4] المسعودي / مروج الذهب 3 / 246.

[5] اليعقوبي / التأريخ 3 / 137.

[6] ظ: اليعقوبي / التأريخ 3 / 137، المسعودي / مروج الذهب 3 / 248.

[7] ظ: الطبري / تأريخ الأمم و الملوك 8 / 192، 8 / 197.

[8] الأبي / نثر الدر 1 / 358 / طبعة القاهرة / 1980 م.

[9] ابن حجر / الصواعق المحرقة / 122.

[10] محمدحسن آل ياسين / الامام موسي بن جعفر / 60.

[11] ظ: الطبري / تأريخ الأمم و الملوك 8 / 222، السيوطي / تأريخ الخلفاء / 186.

[12] الجهشياري / الوزراء و الكتاب / 144.

[13] ظ: الطبري / تأريخ الأمم و الملوك 6 / 489، الأصبهاني / الأغاني 5 / 216.

[14] ظ: الأصبهاني / الأغاني 5 / 216.

[15] المصدر نفسه 5 / 241.

[16] المجلسي / بحارالأنوار 48 / 217.

[17] الصدوق / عيون أخبار الرضا 1 / 79.