بازگشت

انتفاضة يحيي بن عبدالله المحض


و كان يحيي هذا من أنصار الحسين (صاحب فخ) فلما قتل الحسين و أهل بيته و أصحابه، فر بنفسه، و استتر عن سلاطين بني العباس حقبة من الزمن، و أخذ يجول البلدان بحثا عن ملجأ يلتجأ اليه ليظهر أمره فيه.

و استقر المكان بيحيي في بلاد الديلم، و هو المراد بقول المؤرخين: «صاحب الديلم» فقد ظهر هناك، و اجتمع عليه الناس، و بايعه أهل تلك الأعمال، و عظم أمره، و خاف الرشيد لذلك و أهمه، و انزعج منه غاية الانزعاج، فكتب الي الفضل بن يحيي البرمكي: «ان يحيي بن عبدالله قذاة في عيني، فأعطه ما شاء، و اكفني أمره» [1] .

و يري أبوالفرج الأصبهاني:

ان الفضل بن يحيي علم بمكان يحيي بن عبدالله في بعض النواحي، فأمره بالانتقال عنه، و قصد الديلم، و كتب له منشورا لا يعرض له أحد، فمضي متنكرا حتي ورد الديلم، و بلغ خبره الرشيد، و هو في بعض الطريق، فولي الفضل بن يحيي نواحي المشرق، و أمره بالخروج الي يحيي.

فكتب الفضل الي يحيي: اني أريد أن أحدث بك عهدا، و أخشي أن تبتلي بي و أبتلي بك، فكاتب صاحب الديلم، فاني قد كاتبته لك لتدخل الي بلاده فتمتنع به.

ففعل ذلك يحيي، و كان صحبه جماعة من أهل الكوفة... كانوا يخالفون يحيي في أمره، و حينما ولي الرشيد الفضل جمع كور المشرق



[ صفحه 186]



و خراسان، أمره بقصد يحيي و الجد به، و بذل الأمان و الصلة له، ان قبل ذلك. فمضي الفضل فيمن ندب معه، و راسل يحيي فأجابه الي قبوله، لما رأي من تفرق أصحابه و سوء رأيهم فيه، و كثرة خلافهم عليه، الا أنه لم يرض الشرائط التي شرطت له، و لا الشهود الذين شهدوا له، و بعث بالكتاب الي الفضل، فبعث به الي الرشيد. فكتب له الرشيد بما أراد، و شهد له من التمس.

فلما ورد كتاب الرشيد علي الفضل، و قد كتب له الأمان علي ما رسم يحيي، و أشهد الشهود الذين التمسهم، و جعل الأمان علي نسختين: احداهما مع يحيي، و الأخري معه.

و شخص يحيي بن عبدالله - بناء علي الأمان الموثق - حتي وافي بغداد، و دخلها معادلة في عمارية علي بغل، فلما قدم يحيي أجازه الرشيد بجوائز سنية. يقال: ان مبلغها مائتا ألف دينار، و غير ذلك من الخلع و الحملان، فأقام علي ذلك مدة، و في نفس الرشيد الحيلة علي يحيي، و التتبع له، و طلب العلل عليه و علي أصحابه.

ثم ان نفرا من أهل الحجاز تحالفوا علي السعاية بيحيي، و هم: عبدالله بن مصعب الزبيري، و أبوالبختري وهب بن وهب، و رجل من بني زهرة، و رجل من بني مخروم، فوافوا الرشيد لذلك، و احتالوا الي أن أمكنهم ذكره له، فأشخصه الرشيد اليه، و حبسه عند مسرور الكبير في سرداب، فكان في أكثر الأيام يدعوه و يناظره، الي أن مات في حبسه، و اختلف في كيفية موته، و كيف كانت وفاته؟

فقيل: ان الرشيد دعاه يوما، و جمع بينه و بين ابن مصعب ليناظره، فيما رفع اليه، فجبهه ابن مصعب بحضرة الرشيد قائلا: ان هذا دعاني الي بيعته.



[ صفحه 187]



فقال يحيي: يا أميرالمؤمنين أتصدق هذا علي و تستنصحه؟ و هو ابن عبدالله بن الزبير الذي أدخل أباك و ولده الشعب، و أضرم عليهم النار، حتي تخلصهم أبوعبدالله الجدلي صاحب علي (عليه السلام)، و هو الذي بقي أربعين يوما لا يصلي علي النبي (صلي الله عليه و آله) في خطبته حتي التاث الناس عليه، فقال: ان أهل بيت سوء اذا ذكرته أشرأبت نفوسهم اليه، و فرحوا بذلك، فلا أحب أن أقرأ عينهم بذلك، و هو الذي فعل بعبدالله بن العباس مالا خفاء به عليك، و طال الكلم بينهما حتي قال يحيي: و مع ذلك هو الخارج مع أخي علي أبيك، و قال في ذلك أبياتا منها:



قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتنا

ان الخلافة فيكم يا بني حسن



و قرأ القصيدة، فتغير وجه الرشيد عند سماع الأبيات، فحلف ابن مصعب بالله الذي لا اله الا هو، و بايمان البيعة: أن هذا الشعر ليس له، فقال يحيي:

و الله يا أميرالمؤمنين ما قاله غيره، و ما حلفت بالله كاذبا و لا صادقا قبل هذا، و ان الله اذا مجده العبد في يمينه استحيا أن يعاقبه، فدعني أحلفه بيمين ما حلف بها أحد قط كاذبا الا عوجل.

قال الرشيد: حلفه، قال: قل: برئت من حول الله و قوته، و اعتصمت بحولي و قوتي، و تقلدت الحول و القوة من دون الله استكبارا علي الله و استغناء عنه، و استعلاء عليه، ان كنت قلت هذا الشعر. فامتنع عبدالله منه، فغضب الرشيد، و قال للفضل بن الربيع: هنا شي ء، ما له لا يحلف ان كان صادقا، فرفس الفضل عبدالله برجله، و صاح به: احلف ويحك، و كان له فيه هوي، فحلف باليمين، و وجهه متغير و هو يرعد، فضرب يحيي بين كتفيه ثم قال: يا ابن مصعب قطعت و الله عمرك، و الله لا تفلح بعدها، فما برح من موضعه حتي أصابه الجذام و مات في اليوم الثالث.

قال أبوفراس الحمداني يذكر ذلك:



[ صفحه 188]



ذاق الزبيري غب الحنث و انكشفت

عن ابن فاطمة الأقوال و التهم



فكان الرشيد بعد ذلك يقول للفضل بن يحيي: «رأيت يا عباسي؛ ما أسرع ما أديل يحيي من ابن مصعب».

ثم جمع الرشيد الفقهاء، و فيهم محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي يوسف، و الحسن بن زياد اللؤلؤي، و أبوالبختري: وهب بن وهب القرشي المدني، فجمعوا في مجلس، فخرج اليهم مسرور الكبير بالأمان الذي أعطاه الرشيد ليحيي.

فبدأ بمحمد بن الحسن الشيباني، فنظر فيه، فقال: هذا أمان مؤكد لا حيلة فيه، فصاح عليه مسرور: هاته فدفعه الي الحسن بن زياد، فقال بصوت ضعيف: هو أمان. فاستلبه أبوالبختري و قال: هذا باطل منتقض، قد شق العصا، و سفك الدم، فاقتله و دمه في عنقي.

فدخل مسرور علي الرشيد و أخبره، فقال: اذهب له و قل له: فرقه ان كان باطلا بيدك!!!

فجاء مسرور، و قال له ذلك، فقال: شقه أباهاشم!! قال مسرور: بل شقه أنت ان كان منتقضا، فأخذ سكينا و جعل يشقه و يده ترتعد، حتي صيره سيورا، فأخله مسرور علي الرشيد، فوثب، فأخذه من يده و هو فرح، و وهب لأبي البختري (ألف ألف و ستمائة ألف) و ولاه قضاء القضاة، و صرف الآخرين، و منع محمد بن الحسن من الفتيا مدة طويلة.

و أجمع الرشيد علي انفاذ ما أراد بيحيي، و كان محبوسا في المطبق الذي لا يعرف به الليل من النهار، فروي من كان مع يحيي، قال كنت قريبا منه، فكان في أضيق البيوت و أظلمها، فبينا نحن ذات ليلة كذلك، اذ سمعنا صوت الأقفال، و قد مضي من الليل هجعة، فاذا هارون قد أقبل علي بر ذون له، فوقف ثم قال: أين هذا؟ يعني يحيي، قالوا في فهذا البيت، قال: علي به، فأدني اليه، فأخذ،



[ صفحه 189]



فضربه مائة عصا، و يحيي يناشده الله و الرحم و القرابة من رسول الله (صلي الله عليه و آله) و يقول: بقرابتي منك، فيقول: ما بيني و بينك قرابة.

ثم حمل فرد الي موضعه، فقال: كم أجريتم عليه؟ قالوا: أربعة أرغفة و ثمانية أرطال ماء، قال: اجعلوها علي النصف، ثم خرج، و مكث ليالي ثم سمعنا وقعا، و اذا نحن به، فدخل و قال: علي به، فأخرج ففعل به مثل فعله ذلك، و ضربه مائة عصا أخري، و قال: كم أجريتم عليه؟ قالوا رغيفين و أربعة أرطال ماء، قال: اجعلوها علي النصف. ثم خرج و عاد الثالثة، و قد مرض يحيي و ثقل، قال: علي به، قالوا: هو عليل مدنف لما به، قال: كم أجريتم عليه؟ قالوا: رغيفا و رطلين ماء، قال: اجعلوه علي النصف، ثم خرج. فلم يلبث يحيي أن مات، فأخرج الي الناس فدفن.

عن ابراهيم بن رياح: أنه بني عليه أسطوانة بالرافقة (بلدة في الرقة) و هو حي.

و عن علي بن محمد بن سليمان أنه دس اليه في الليل من حنقه حتي تلف، قال: و بلغني أنه سقاه سما.

و عن محمد بن أبي الحسناء، أن الرشيد أجاع السباع، ثم ألقاه اليها فأكلته. و عن عبدالله بن عمر العلوي، قال:

دعينا الي مناظرة يحيي بن عبدالله بحضرة الرشيد و هو يقول له: يحيي اتق الله و عرفني أصحابك السبعين لئلا ينتقض أمانك!! و أقبل علينا فقال: ان هذا لم يسم أصحابه، فكلما أردت أخذ انسان يبلغني عنه شي ء أكرهه، ذكر أنه ممن أمنت.

فقال يحيي: يا أميرالمؤمنين أنا رجل من السبعين فما الذي نفعني من الأمان؟ أفتريد أن أدفع اليك قوما تقتلهم معي؟ لا يحل لي هذا، قال: ثم خرجنا ذلك اليوم، و دعانا له يوما آخر، فرأيته أصفر اللون متغيرا، فجعل



[ صفحه 190]



الرشيد يكلمه فلا يجيبه، فقال: ألا ترون اليه لا يجيبني؟ فأخرج يحيي الينا لسانه قد صار أسود مثل الفحمة، يرينا أنه لا يقدر علي الكلام، فاستشاط الرشيد غضبا و قال: انه يريكم أني سقيته السم، و الله لو رأيت قتله لضربت عنقه صبرا، ثم خرجنا من عنده، فما صرنا في وسط الدار حتي سقط يحيي علي وجهه لآخر ما به.

و عن ادريس بن محمد بن يحيي كان يقول:

قتل جدي بالجوع و العطش في الحبس.

و عن الزبير بن بكار عن عمه: أن يحيي لما أخذ من الرشيد المائتي الألف الدينار، قضي بها دين الحسين صاحب فخ، و كان الحسين خلف مائتي ألف دينار دينا [2] .

هذا مجمل ما حصل ليحيي بن عبدالله المحض في حركته و أمانه و تسييره الي بغداد، و سجنه، حتي استشهاده، و بالامكان القاء الضوء الكاشف علي تداعيات هذه المأساة.

1 - ان يحيي كان قذاة في حلق الرشيد كما صرح بذلك لأنه قام بتحرك علي نطاق واسع في بلاد الديلم، و لأنه أخ الثائرين في عهد المنصور: محمد النفس الزكية، و ابراهيم أحمر العينين اللذين تحدثنا عن تورتيهما في كتابنا عن الامام الصادق (عليه السلام).

و ظهر أن الرجل كان من الثائرين مع الحسين بن علي (صاحب فخ) و قد اختفي عن السلطة العباسية، حتي أثر اختفاؤه في الحياة السياسية، و انتابت الحاكمين منه هواجس و تحسبات عدة، و أنه في اختفائه قد تنقل متنكرا بين عدة كور و قصبات و بلدان حتي استقر به المطاف في بلاد الديلم في عهد



[ صفحه 191]



الرشيد مع سبعين من أصحابه، و لعل اختفاءه في احدي خانات (حلوان) شمال العراق من مظاهر هذا التواري عن أنظار السلطة.

ذكر الأستاذ باقر شريف القرشي عن أحد عيون الرشيد، قوله: «كنت في خان من خانات حلوان، فاذا بيحيي بن عبدالله في دراعة صوف غليظة، و كساء صوف أحمر غليظ، و معه جماعة ينزلون اذا نزل، و يرتحلون اذا رحل، و يكونون معه ناحية، فيوهمون من رآهم أنهم لا يعرفونه، و هم أعوانه» [3] .

و يبدو أنه في هذا المنزل كان في سبيله الي بلاد الديلم عن طريق شمال العراق الشرقي.

2 - ان الرشيد قد علم بالتحرك السري ليحيي، و قد عرف استجابة بعض العراقيين له، و جملة من العلويين، و كان ذلك مما يقلق الرشيد، فرماه بالفضل بن يحيي البرمكي بجيش مكثف مدرب علي القتال، قيل أنه بلغ خمسين ألف رجل، و أن أصحاب يحيي قد فزعوا من أنباء هذا الجيش، فتفرقوا عنه، و خالفوه كثيرا، و أخيرا يبدو أنهم قد أسلموه عند الوثبة، حتي اضطر الي التفاوض مع الفضل ضمن شروط معينة، فيها الأمان له و لأصحابه، و قد أمضي الرشيد تلك الشروط، و أشهد عليها يحيي، و دعمت بالايمان الغليظة المؤكدة. 3 - ان الرشيد قد استقبله بادي ء ذي بدء بالأكرام ظاهريا، و بالعفو أمام الآخرين، و قد رحب به و دفع له مائتي ألف دينار فأخذها، و وفي بها دينا للحسين صاحب فخ، و لكن الرشيد كان يدبر له المكيدة و يحكم الخطة لقتله أو اغتياله، فبدأ بسجنه، و عاوده مرارا بالاستجواب، و ساءله عن أسماء



[ صفحه 192]



أصحابه و أعيانهم، فأبي عليه يحيي ذلك، لأنه علم يقينا أنه سيقتلهم، فلا أمان لأهل الغدر و البهتان.

4 - يبدو أن طبقة من أهل المكر و الخيانة، و ممن يتقرب الي السلطان بالدماء، قد ائتمروا فيها بينهم للسعاية بيحيي، فغادروا الحجاز، و وصلوا بغداد، و احتالوا بالوصول الي الرشيد فنالوا من يحيي، فأمر الرشيد بحبسه عند مسرور الكبير في سجن المطبق.

5 - و كان الذي تولي كبر الافتراء عليه هو عبدالله بن مصعب الزبيري، فاتهمه بأنه دعاه الي الخروج معه علي الرشيد، فأنكر يحيي ذلك، و جرت بينهما أيمان قاتلة، انتهت بالانتقام من الزبيري عاجلا.

6 - و قد استدعي الرشيد جمهرة من الفقهاء الرسميين و عرض عليهم الأمان، فأبي اثنان منهم الطعن فيه، و تجرأ أبوالبختري القرشي علي الطعن و لم يعده أمانا، فخرق الأمان، و قطعه بسكين سيورا، فأجازه الرشيد علي ذلك بأعطية ضخمة، و حرم محمد بن الحسين الشيباني من القضاء و الافتاء مدة طويلة، مما يؤكد أن الرشيد كان يسخر الفقهاء لارادته و رغبته، فمن أبي عليه ذلك أبعده فورا.

7 - و في خاتمة المطاف رأينا الرشيد عازما علي التخلص من يحيي، فيضربه ضربا مبرحا، و يحيي يناشده الله و الرحم و القرابة من رسول الله (صلي الله عليه و آله) فلا يستجيب الرشيد لشي ء، حتي أجهز عليه جوعا و عطشا، و قيل سما، و لم تكن لديه رأفة أو شفقة أو حمية، حتي انتهت حياته بالشكل الذي ألمحنا اليه باختصار، و رحم الله أبافراس الحمداني و هو يذكر ذلك:



يا قاصدا لمساويهم يكتمها

غدر الرشيد بيحيي كيف ينكتم



لا بيعة ردعتهم عن دمائهم

و لا يمين، و لا قربي، و لا رحم





[ صفحه 193]




پاورقي

[1] ظ: ابن عنبة / عمدة الطالب / 139، البحار 48 / 180.

[2] ظ: الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / 465 - 485 بتصرف و اختصار، المجلسي / بحارالأنوار 48 / 182 - 187.

[3] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 92 و انظر مصدره.