بازگشت

موقف الامام من العنف الثوري


و في ضوء ما رأيت من ثورة الحسين بن علي (صاحب فخ) و حركة يحيي بن عبدالله المحض (صاحب الديلم) و انتفاضات جملة من الطالبيين، ان الامام موسي بن جعفر (عليه السلام)، لم يستجب لهؤلاء جميعا بالخروج معهم، أو الانضمام الي تحركهم الثوري. و بغض النظر أن عليهم أن يستجيبوا له، و ليس عليه الاستجابة لهم، لأنه الامام المفترض الطاعة، فان الامام بتجربته السياسية النافذة كان قد علم مسبقا بما تؤول اليه هذه الانتفاضات الدموية من الفشل و الخذلان، و أنها لا تستطيع أن تغير بحركاتها الانتحاري شيئا من الواقع السياسي لا فعليا و لا مستقبليا، و انما هي الدماء و قوافل الشهداء، و ان جلبت النقمة عاطفيا شيئا ما، لذلك كان موقف الامام منها موقف الحذر المتيقظ، كما كان موقفه من الثائرين موقف الناصح و الموجه.

فقد أورد الكليني عن مولي عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، قال: لما خرج الحسين بن علي المقتول بفخ، و احتوي علي المدينة، دعا موسي بن جعفر (عليه السلام) الي البيعة، فأتاه الامام، و قال له: يا ابن عم؛ لا تكلفني



[ صفحه 197]



ما كلف ابن عمك عمك أباعبدالله (عليه السلام)، فيخرج مني ما لا أريد، كما خرج من أبي عبدالله (عليه السلام) ما لم يكن يريد [1] .

فقال له الحسين: انما عرضت عليك أمرا فان أردته دخلت فيه، و ان كرهته لم أحملك عليه، و الله المستعان، ثم ودعه و انصرف.

فقال له أبوالحسن موسي بن جعفر (عليه السلام) حين ودعه: «يا ابن عم؛ انك مقتول فأجد الضراب، فان القوم فساق، يظهرون ايمانا، و يسرون شركا، و انا لله و انا اليه راجعون، أحتسبكم عند الله من عصبة» [2] .

و أنت تري الامام يدعي الي البيعة و التأييد رفيقا بالثائرين، مشفقا عليهم، لا يريد أن يصطدم معهم في شي ء، و بالوقت نفسه لم يثبط من العزم، و لم يقدح بالقضية، و كان صاحب فخ مرنا فيما استقبله به الامام، فلم يرد اكراهه علي شي ء، و انما عرض عليه أمرا لو شاء أن يدخل فيه لرحب به، و لو كره ذلك لم يحمل عليه، و قد لمس الامام تصميم صاحب فخ، فأشعره مصرحا بالحقيقة التي تلقاها من فيض ذلك العلم المخزون، بأنه مقتول، و عليه أن يجد في القتال، فالحاكمون فسقة يظهرون الايمان و يسرون الشرك، فاستقبل صاحب فخ ذلك برحابة صدر و صدق عزيمة، فهو يعلم أن الامام يعني ما يقول.

يقول الأستاذ محمدحسن آل ياسين:

«و لم يكن امتناع الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) عن تأييد ابن عمه بالخروج معه، أو حث الناس علي بيعته، أو اعلان وجوب الانخراط في صفوف



[ صفحه 198]



الثائرين، ناشئا من خوف من بطش السلطة، أو ايثار للحياة علي الموت، أو حب الدنيا و زبارجها الخداعة، و أين منه كل ذلك؟ و هو يعيش بطش السلطة و أذاها في كل يوم، و يتمني لقاء الله و قدومه عليه في كل دعاء و ابتهال.

«ان هؤلاء القادة - أئمة أهل البيت (عليهم السلام) - ليسوا من حيث المنطلق و المبدأ هواة حكم أو عشاق سلطان، و لم يكن من أهدافهم في الدنيا كرسي الملك أو عرض الخلافة، و انما يتمثل همهم الأكبر و شغلهم الشاغل في العمل علي تطبيق أحكام الدين، و تجسيد ما جاء في كتاب الله و سنة رسوله (صلي الله عليه و آله) علي صعيد الواقع المعاش للمسلمين، فان علموا بتحقيق الثورة لذلك - و لو بالقوة لا بالفعل كما ثورة الحسين (عليه السلام) - قاموا بها، و لم يأبهوا بفداحة الخسائر و عظم التضحيات.

و ان لم يضمنوا هذه النتيجة لا في الحال و لا في المستقبل المنظور، امتنعوا عن اراقة الدماء، و تأجيج نيران الحروب و الفتن، لأنها بلا جدوي و لا مردود» [3] .

و ثمة ملحظ آخر جدير بالأهمية، أن الشعب المسلم و هو يعاني المحن و الشدائد في حكم الارهاب و الجبروت، قد ضربت أغلب فصائله صفحا عن السياسة و مشكلاتها، و اتجه شبابها نحو الاغتراف من نمير أهل البيت العلمي، فكانت قوافل العلماء تؤم ساحة أهل البيت الرعيل اثر الرعيل، للاستضاءة بنور العلم، و كانت عائدية التمتع بهذا البرنامج المعرفي تعود بما هو أجدي نفعا للمسلمين، و بما هو أكثر تحريرا للعقول، و هي ترفض الاعتساف السياسي، و تأبي التضحية بالنفس دون جدوي متوافرة.

ان ما قام به الحسين بن علي (صاحب فخ) عبارة عن انكار للمفهوم السلطوي العام، و كان هذا الانكار في أقصي درجاته و أعظم عطائه، و هذه الطريق مسنونة في انكار المنكر و الأمر بالمعروف، فقد يري بعضهم ذلك لازما



[ صفحه 199]



له أني اتفق حتي مع عدم أمن الضرر فيعتبره جهادا، و هذا اجتهاد قد يخطي ء فيه المجتهد و قد يصيب، أما الامام (عليه السلام) فله حكمه الخاص الذي ينطلق من موازين أخري يحددها تكليفه الشرعي ليس غير.

و لم يكن الامام لينجذب للأحاسيس و هي شلاء، و لم يكن ليتأثر بالعواطف الصارخة و هي موقتة، و كان عمله الفعلي الهادف يستوعب الأجيال المتعاقبة لا الأيام القليلة الزائلة، و لم يكن همه لينحصر بالتغيير السياسي و العدة غير متكاملة لدرئه، و النصرة غير متيسرة لردعه، و للامام أن يري، و لأتباعه و أوليائه أن يمتثلوا، فالآراء لا تفرض علي الامام مهما كان مصدرها البشري الا اذا اقترنت بقناعته المنطقية، لهذا نجد أن دأب الأئمة (عليهم السلام) و منهم الامام موسي بن جعفر استثمار توجه الناس اليهم بالاتجاه العلمي، فأذكوا شرارته، و ألقحوا جذوته، فكانت ثماره بناء الأمة عقليا و فكريا، و ذلك هو الهدف المركزي الذي تقصر عن تحقيقه عروش الظالمين، بل و تتضاءل أمام زحفه صولة السلاطين، فقد ذهبت جبروتهم أدراج الرياح كأمس الدابر، و خلد علم أهل البيت في مدرجة التأريخ الانساني المتحضر، و كان هذا الاتجاه امتدادا طبيعيا لمسيرة الأئمة في حياتهم العملية في ضوء تعليمات القرآن الكريم و السنة النبوية لا يحيدون عنهما قيد شعرة قط.

و لك هنا أن تعرف موقف الامام من حركة يحيي بن عبدالله المحض كما عرفت من ثورة الحسين (صاحب فخ) فكلاهما يصدران عن رافد العنف الثوري، و لم يكونا أحرص علي الثورة من الامام لو أن ظروفها كانت مواتية، و لما لم يكن الأمر بهذه السهولة و اليسر، فالامام لم يجد شرعية تتبع، و لا مشروعية تستهدف في زج نفسه أو أوليائه في دوامة محكوم عليها بالفشل و النهاية المحزنة دون حصيلة مرجوة في التغيير و الانقلاب الجذري سياسيا و عقائديا.



[ صفحه 200]



فقد روي أن يحيي حينما عزم عن حركته كتب للامام:

«أما بعد: فاني أوصي نفسي بتقوي الله، و بها أوصيك، فانها وصية الله في الأولين، و وصيته في الآخرين.

خبرني من ورد علي من أعوان الله علي دينه و نشر طاعته؛ و بما كان من تحننك مع خذلانك، و قد شاورت في الدعوة للرضا من آل محمد (صلي الله عليه و آله) و قد احتجبتها و احتجبها أبوك من قبلك، و قديما ادعيتم ما ليس لكم!! و بسطتم آمالكم الي ما لم يعطكم الله!! فاستهويتم و أضللتم!! و أنا محذرك ما حذرك الله من نفسه».

تقول الرواية فكتب اليه الامام موسي بن جعفر في الجواب: «... أما بعد؛ فاني أحذرك الله و نفسي، و أعلمك أليم عذابه و شديد عقابه و تكامل نقماته،و أوصيك و نفسي بتقوي الله فانها زين الكلام و تثبيت النعم، أتاني كتابك تذكر فيه أني مدع و أبي من قبل، و ما سمعت ذلك مني... و ذكرت أني ثبطت الناس عنك لرغبتي فيما في يديك، و ما منعني من مدخلك الذي أنت فيه - لو كنت راغبا - ضعف عن سنة، و لا قلة بصيرة بحجة... و أنا متقدم اليك أحذرك معصية الخليفة، و أحثك علي بره و طاعته، و أن تطلب لنفسك أمانا قبل أن، تأخذك الأظفار....» [4] .

و أنت تري رسالة يحيي في التهجم علي الامام، و هي بعيدة الصدور عنه، فانه أدري بمنزلة الامام و منزلة أبيه من ذي قبل، و اذا كان يدعو للرضا من آل محمد، فالامام هو الرضا من آل محمد.

و أنت تري الرد فيما نسب للامام، و اذ شككنا في الأصل ثم لنا الشك فيما يتفرع عنه.



[ صفحه 201]



و قد تولي تفنيد هذه الرسالة و رواياتها الأستاذ باقر شريف القرشي: «و الرواية لا يمكن الاعتماد عليها لأنها مرسلة أولا. و قد جاء في سندها روي بعض أصحابنا، بالاضافة الي أن الكثيرين من رجال السند مجهولون... فلا مجال للاعتماد عليها و التشكيك في حال يحيي» [5] .

و مهما يكن من أمر، فان الامام كان قاطعا بفشل حركة يحيي في الأساس، و لا يستطيع تأييدها في حال من الأحوال، و هو علي رصد تام، و لكنه كان يري ضرورة الثورة المضادة للحكم العباسي سلبيا لا عن طريق العنف، فلا هدنة معه و لا تأييد له، و لا انخراط في صفوفه، فهو في مجابهة معه غير دموية. و لكنها مجابهة تجرد الحكم عن صفة الشرعية، و هي أرقي درجات المجابهة سياسيا في مقاومة الانحراف العباسي كما ستري هذا في الفصل الآتي من الكتاب.



[ صفحه 203]




پاورقي

[1] كان محمد النفس الزكية قد دعا الامام الصادق (عليه السلام) الي الانضمام لحركته الثورية ضد المنصور، فأبي عليه الامام الصادق ذلك، و أخبره بفشل ثورته، كما أخبر بقتله و قتل أخيه من قبل المنصور، و كان الاخبار بالواسطة عن طريق أبيه و سواه، و الامام الكاظم يشير الي هذا.

[2] الكليني / الكافي 3 / 366، المجلسي / البحار 48 / 161.

[3] محمدحسن آل ياسين / الامام موسي بن جعفر / 61 - 62.

[4] ظ: الكليني / الكافي 1 / 366، المجلسي / البحار 48 / 166.

[5] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 99.