بازگشت

النشأة المباركة


درج الامام في طفولته و صباه يتفيأ ضلال النبوة، و يتغذي روح الايمان، و أدرك من حياة أبيه الامام الصادق (عليه السلام) عشرين عاما، ينتهل رافد معارفه، و يغترف من بحر علمه الهادر، و ابتهج به أبوه ابتهاجا عظيما و هو يافع يحتضن الفكر الناهض، و ينطلق الي الهدف الرائد، حتي قال أبوه: «الحمد لله الذي جعلك خلفا من الآباء، و سرورا من الأبناء، و عوضا عن الأصدقاء» [1] .

و تمثلت في الامام الأصالة منذ صغره، و عرف بالشمم و الاباء و هو صبي يافع، و ذاع صيته في الآفاق مبكرا، و سرت هيبته في الأنظار و القلوب، و اعتمرت الضمائر بمحبته حتي قال أبونواس [2] .



اذا أبصرتك العين من غير ريبة

و عارض فيك الشك أثبتك القلب



و لو أن ركبا أمموك لقادهم

نسيمك حتي يستدل بك الركب



جعلتك حسبي في أموري كلها

و ما خاب من أضحي و أنت له حسب



و الظاهرة الجديرة بالاهتمام أن الامام كان منذ صباه يتمتع بحياة عقلية نيرة، يعي المسائل بفكر ثاقب، و يجيب السائل بادراك متوهج، حتي كان مثار اعجاب العلماء و الفقهاء، و قد تحدثوا عن ذلك بشكل مدهش ينم عن الاعجاب و الاكبار. فقد روي الاربلي عن أبي حنيفة امام المذهب الحنفي قوله:

«رأيت موسي بن جعفر و هو صغير السن في دهليز أبيه، فقلت: أين يحدث الغريب منكم اذا أراد ذلك؟ فنظر الي ثم قال: يتواري خلف الجدار،



[ صفحه 17]



و يتوقي أعين الجار، و يتجنب شطوط الأنهار و مساقط الثمار، و أفنية الدور و الطرق النافذة و المساجد، و لا يستقبل القبلة و لا يستدبرها، و يرفع و يضع بعد ذلك حيث شاء».

قال: فلما سمعت هذا القول نبل في عيني، و عظم في قلبي، فقلت له: ممن المعصية؟ فقال:

«ان المعصية لابد أن تكون من العبد، أو من ربه، أو منهما جميعا. فان كانت من الله (تعالي)، فهو أعدل و أنصف من أن يظلم عبده، أو يؤاخذه بما لم يفعله، و ان كانت منهما فهو شريكه. و القوي أولي بانصاف الضعيف. و ان كانت من العبد وحده فعليه وقع الأمر، و اليه توجه النهي، و له حق الثواب و العقاب، و وجبت الجنة و النار».

قال أبوحنيفة: فقلت: «ذرية بعضها من بعض» [3] .

و هذه الاجابة في شطرها الأول بدا بها الامام في صباه فقيها ناطقا بالسنة، و صادعا بالافتاء، و في شطرها الثاني بدا متكلما نزه الباري عن الظلم و القبح العقلي، و دحض نظرية الجبر و التفويض.

و ليس عجيبا أن ينطلق الامام متهاديا بهذا المستوي الرفيع في سن مبكرة. فللنشأة أثرها في المعرفة و الادراك و التمييز، و للتربية الفذة ثمارها في الوعي و الدراية المتنورة، و خصائص الامام - باعتباره معصوما - تبدو متكاملة في ظل مواهبه و عصمته، و هي مزيج بين ملكته الراسخة التكوينية و بين عبقرياته المتعددة. و بعد هذا فحديثه حديث أبيه، و حديث أبيه حديث جده، و حديث جده حديث رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، و رسول الله هو المشرع الأعظم، و كفي بذلك شرفا.



[ صفحه 18]



و ليس جديدا القول ان الامام موسي بن جعفر (عليه السلام)، وريث النبوة الشرعي، و حامل الرسالة اماما مفترض الطاعة، و قد حمل بين جنبيه من عوامل الوراثة، و صدور النص عليه، و مقومات النمو الفكري ما يجعله حجة لله في بلاده و علي عباده.

عاش الامام حياته في الصبا و الشباب في أكناف مدرسة أبيه، الامام جعفر الصادق (عليه السلام) زعيم مدرسة أهل البيت (صلي الله عليه و آله) في موسوعيتها و موضوعيتها، و قد صقلت هذه المدرسة قابلياته و قدراته الخارقة، و هي تستوحي مصادرها من ذلك المخزون الثقافي الحافل بأصناف المعارف الانسانية التي سيرها الامام الصادق في الخافقين، و أشرقت بأشعتها الملونة في الفكر البشري ففاق حد الطموح المرتقب الي الأفق المديد، فاذا أضفنا الي ذلك الاعداد الكريم الذي حظي به الامام، و المواهب الراقية التي انفرد بها، و الفضائل العامة التي اكتسبها، و ما أحياه من مآثر، خلصنا أنه خلاصة أطروحة أهل البيت في التربية و التأصيل، و زبدة هذا الكون في العبقرية و النبوغ.

و لا أدل علي هذا من تنويه أبيه به، و ارشاد الناس اليه، و وضعه موضع القيادة المرتقبة، ذلك كله مع وجود الامام الصادق (عليه السلام). فقد كانت الخطابية في غلوها قد استشري داؤها و بلاؤها في عهد الامام الصادق (عليه السلام) علي يد محمد بن مقلاص الأسدي المعروف بأبي الخطاب، و كان من أعنف الغلاة و أشدهم انحرافا، و قد تبرأ منه الأئمة مدي التأريخ، و حذروا شيعتهم، و فندوا آراءه الغالية جملة و تفصيلا. و قد التجأ عيسي الشلقاني الي الامام الصادق (عليه السلام) مستجيرا من هذه الظاهرة، طالبا القول الفصل فيها، فقال له الامام الصادق (عليه السلام): «يا عيسي: ما منعك أن تلقي ابني - يعني الامام الكاظم - فتسأله عن جميع ما تريد؟».



[ صفحه 19]



فاتجه عيسي صوب الامام الكاظم، و كان صبيا في المكتب - كما تقول الرواية - فلما رآه الامام الموسي بن جعفر (عليه السلام) بدره بالقول: «يا عيسي؛ ان الله (تبارك و تعالي) أخذ ميثاق النبيين علي النبوة فلم يتحولوا عنها أبدا، و أخذ ميثاق الوصيين علي الوصية فلم يتحولوا عنها أبدا، و أعار قوما الايمان زمانا ثم سلبهم اياه، و ان أباالخطاب ممن أعير الايمان، ثم سلبه اياه».

فقلت: «ذرية بعضها من بعض و الله سميع عليم» [4] .

و نخلص من هذا الحديث الي أمور:

الأول: أن الامام الصادق (عليه السلام) قد أراد الاشادة العملية بولده، و أمر شيعته بالتوجه نحوه، عالما بقدرته علي الاجابة، ليوحي بذلك أنه الامام المفترض الطاعة.

الثاني: أن الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) قد بادر بالاجابة عما يختلج في ضمير السائل قبل سؤاله، مما يشكل بعدا محوريا في القول بالعلم اللدني و الموهبي لدي الامام كما سلف لنا فيه القول ببحث سابق.

الثالث: الاستعداد الفطري لدي الامام موسي بن جعفر في استقبال ما يطرح عليه من المعضلات و هو في سن الصبا، مما يعني تأثير النشأة المباركة في مسلكيته العلمية النادرة.

يقول الأستاذ محمدحسن آل ياسين:

«هكذا نشأ موسي بن جعفر في هذه البيئة المباركة الناصعة النقاء، و في تلك البيوت التي يعلو فيها ذكر الله أطراف الليل و آناء النهار، و تتردد في جنباتها همسات التسبيح و التهليل، و أصداء الابتهال و الترتيل، و ينتشر منها علي الناس فيوض العلم النافع، و دروس العمل الصالح، و أمثولة الخلق



[ صفحه 20]



الرفيع. و سرعان ما اكتملت خطوط رجولته الناطقة، و معالم شبابه الندي، و اتضحت للعيان صفاته الخلقية و مواهبه الخلقية و ملكاته الذاتية علي نحو ممتاز لافت للنظر» [5] .

حتي اذا انتقل الامام الصادق (عليه السلام) الي الرفيق الأعلي عام (148 ه) استقل الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) بالامامة، و نهد بأعباء القيادة، فكان بطلها المجرب، و عملاقها العظيم، و رائد التحرر الاجتماعي، و رافض الاستعباد الجماعي، و ناشر الفكر الانساني.

و كانت تطلعات الامام الرائدة تتقوم بعناصر حية تسعي الي اقامة المجتمع المتكامل بأساليب دفع ناهضة، تبعثه من رقدة الجفاف و الانكماش و التخدير الي صحوة الوعي و الحرية، و تطل به علي آفاق الأنشطة المتعددة في الموقف و التفكير، و هو يتفجر بأنماط الحياة العاملة علي الايمان بقضية الانسان، باعتباره نقطة الانطلاق في الكون.


پاورقي

[1] الصدوق / عيون أخبار الرضا 2 م 127، المجلسي / البحار 48 / 24.

[2] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 432.

[3] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 429.

[4] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 411.

[5] محمدحسن آل ياسين / الامام موسي بن جعفر / 20.