بازگشت

الامام و اختراق النظام العباسي


و اخترق النظام العباسي من الداخل علي يد أولياء الامام و يعلم من الامام، و كان ذلك يحظي باهتمامه و رعايته و مباركته فيما توصلنا اليه.

فهذا علي بن يقطين ذو الشرف الأصيل و الولاء العريق لأهل البيت، و كان أبوه من دعاة الدولة العباسية، و نشأ ولده بالقرب منهم، فكانت ثقة العباسيين به متناهية، و اخلاصه - في الظاهر - لهم متواترا، فكان من رجال الدولة أيام المهدي و الهادي، و تقلد منصب الوزير الأول في عهد الرشيد، و الامم يسدد خطاه، و يخترق بوجوده النظام، و يدعو له، و يعضد سيرته في اغاثة الملهوفين، و الدفع عن الضعفاء، و قد طلب الاذن من الامام أن يتخلي عن منصبه هذا، فنهاه الامام عن ذلك نهيا شديدا، معللا ذلك، و مبرمجا له، بقوله (عليه السلام):

«لا تفعل، فان لنا بك أنسا، و لاخوانك بك عزا، و عسي أن يجبر الله بك كسيرا، و يكسر بك نائرة المخالفين عن أوليائه، يا علي: كفارة أعمالكم الاحسان الي اخوانكم، اضمن لي واحدة و أضمن لك ثلاثا، اضمن لي أن لا تلقي أحدا من أوليائنا الا قضيت حاجته و أكرمته، و أضمن أن لا يظلك سقف سجن أبدا، و لا ينالك حد سيف أبدا، و لا يدخل الفقر بيتك أبدا، يا علي من سر مؤمنا فبالله بدأ، و بالنبي (صلي الله عليه و آله) ثني، و بنا ثلث» [1] .

و الامام بهذا النحو من التوجيه، يبدي تفهمه الدقيق لمهمة علي بن يقطين من خلال موقعه الخطير، و هو يشجعه علي البقاء فيه، و هو ينهاه عن الاستقالة منه، و هو يتوسم فيه جبر الكسير و اطفاء نائرة المخالفين عليه، و الامام يلمس منه ايجابية مطلقة، فيبين له ما يكفر به عن عمل السلطان في



[ صفحه 210]



الاحسان الي الاخوان، و قضاء احتياج المؤمن، و يحدد له بعض الآثار الوضعية في اكرامه لأولياء الله، و يلخصها له في ثلاث:

الاعتصام من السجن، و الاحتزاز من السيف، و الاستعاذة من الفقر، فليت أولياء الامام التزموا بذلك لدي تسلمهم لبعض المناصب في الدولة، و نظروا ببصائرهم لهذه المكاسب الكبري التي يحققها من عمل بنصح الامام و توجيهه الكريم.

اننا نلمس في سيرة علي بن يقطين ألقا من هدي أهل البيت و وهجا من عمق تطلعهم لحقائق الأشياء، فهو القدوة في هذا المجال الرفيع، و مع ذلك نراه يضيق ذرعا بعمل السلطان لئلا يقصر بالتزامه الانساني، و يكتب للامام:

«ان قلبي يضيق مما أنا عليه من عمل السلطان، فان، أذنت لي جعلني الله فداك، هربت منه؟»

و يرد عليه جواب الامام بالنص:

«لا آذن لك بالخروج عن عملهم، و اتق الله...» [2] .

لقد تراءي للامام بلمح بعيد يعسر رصده علي الكثيرين، أن بقاء علي بن يقطين في موقعه هو الأصلح لأمور الدنيا و الدين، فهو لا يأذن له في الخروج منه، و مع ذلك فهو يأمره بتقوي الله، تأكيدا علي مراقبة النفس من الاصطدام بالأهواء.

و لما قدم الامام (عليه السلام) الي العراق في احدي استدعاءاته من قبل الرشيد، زاره علي بن يقطين، فشكا الي الامام حاله، و طلب منه الاذن في التخلي عن منصبه فنهاه الامام، و قال له: «يا علي، ان لله أولياء مع أولياء الظلمة ليدفع بهم عن أوليائه، و أنت منهم يا علي» [3] .



[ صفحه 211]



ان هذا الاعتداد بعلي بن يقطين يعني أن الامام قد أخلصه لمهمة رسالية يتعاهدها، و يؤديها علي الوجه الأمثل، فهو يعتمده في اختراق النظام لا لارادة الحكم بل لانعاش حياة المضطهدين، - و ما أكثرهم - و انقاذهم من جور السلطان، و للنظر في شأن أولياء الله من وراء ستار حديدي من السرية التامة من خلال هذا الجندي المجهول، فهو في الظاهر من رجال النظام، و هو في الواقع من أولياء الامام، و أي ولي هذا و الامام يشهد له بالجنة، و يدعو له أن يكون في أعلي عليين.

أورد الأستاذ باقر شريف القرشي: ان ابن يقطين أقبل علي الامام ذات مرة، فقال الامام:

من أراد أن يري رجلا من أصحاب رسول الله (صلي الله عليه و آله) فلينظر الي هذا المقبل، و أشار الي علي، فقال بعض من حضر:

أو في الجنة؟ قال الامام: أما أنا فأشهد أنه من أهل الجنة. و قال الامام في مورد آخر: ضمنت لعلي بن يقطين أن لا تمسه النار أبدا. بل و أكثر من هذا، فقد دعا له الامام، و هو علي الصفا بقوله:

«الهي؛ في أعلي عليين، اغفر لعلي بن يقطين» [4] .

ان هذه الرعاية التامة لهذا الرجل تعبر عن مدي ما قدمه من خدمات للأمة، و ما وفي به من التزامات للامام، و ما أسداه من أعمال جباره تجاه الشعب الضائع في عواصف النظام، مما استحق معه هذا الثناء العاطر و الدعاء العظيم.

و هذا يلزمنا جميعا أن نتوجه هذا التوجه في رعاية شؤون الناس، و متابعة احتياج الآخرين، كل بحسب موقعه من المنصب و المكانة و الجاه، و الا فهي الأيام القصيرة مهما طالت، و من وراثها المساءلة و المحاسة فيما قدم الانسان و ما ترك.



[ صفحه 212]



و لسنا ندري بالضبط حجم هذه المكرمات التي انتهجها ابن يقطين في خلال منصبه، و لسنا نعلم مدي اتساع عطائه الانساني و هو علي رأس السلطة، لأن أعماله محاطة بكثير من الكتمان لئلا يفتضح أمره لدي السلطان، الا أننا نستشعر أهميتها القصوي من خلال اعتداد الامام به، و متابعته من قبله في تصرفاته، و تسديده له في كثير من شؤونه التي يقصر ادراكها الا بعد حين، ناظرين بذلك ما ذكره الشيخ المفيد (ت 413 ه) و هو أقرب الي عهد الامام، و ما يرويه لنا نعتبره من أصول الروايات.

أولا: روي عبدالله بن ادريس عن ابن منان، قال: حمل الرشيد في بعض الأيام الي علي بن يقطين ثيابا أكرمه بها، و كان في جملتها دراعة خز سوداء من لباس الملوك.

فأنفذ ابن يقطين بالدراعة و بعض الثياب الي الامام الكاظم (عليه السلام) و معها خمس ماله، فلما وصلت، قبل الامام الثياب و المال، ورد الدراعة... و كتب اليه: أن احتفظ بها...

فلما كان بعد أيام تغير علي بن يقطين علي غلام فصرفه... فسعي به الي الرشيد، و قال: انه يقول بامامة موسي بن جعفر، و يحمل اليه خمس ماله في كل سنة، و قد حمل اليه الدراعة... فأنفذ الرشيد الي ابن يقطين من يحضره... فحضر... قال له: ما فعلت بالدراعة؟.. قال هي عندي في سفط مختوم...

قال الرشيد: أحضرها الساعة، فاستدعي بعض خدمه و قال له:... افتح الصندوق الفلاني، و جئني بالسفط الذي فيه بختمه، فلم يلبث الغلام أن جاءه بالسفط مختوما، فوضع بين يدي الرشيد... ففتح و نظر الي الدراعة فيه بحالها... فقال لعلي بن يقطين: أرددها الي مكانها، و انصرف راشدا، فلن أصدق عليك بعدها ساعيا، و أمر أن يتبع بجائزة



[ صفحه 213]



سنية، و تقدم بضرب الساعي ألف سوط، فضرب نحوا من خمسمائة سوط، فمات في ذلك [5] .

و لك أن تسأل: أني توافر هذا العلم بهذه الحال في الاستدعاء و السؤال عن الدراعة من قبل الامام؟ و كيف احتاط الامام لذلك بهذه الصورة التي حكمت ببراءة ابن يقطين يمثل هذا الموقف الحرج؟

و لنا أن نجيب: ان هذا العلم لدي الامام قد فتح عليه كما تقدم في موارد علم الامام - من ذلك الباب الذي فتح لجده أميرالمؤمنين (عليه السلام) «علمني رسول الله ألف باب من العلم، يفتح لي من كل باب ألف باب» [6] .

و اذا كان الأمر كذلك، و هو كذلك، فقد انتفي الاستغراب و العجب و الاستبعاد، و ليس هو بأعجب مما ترويه الحادثة الأخري في الموضوع نفسه.

ثانيا: روي محمد بن اسماعيل عن محمد بن الفضل، قال: اختلفت الرواية بين أصحابنا في الوضوء، فكتب علي بن يقطين بذلك للامام، فكتب اليه الامام: فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء، و الذي أمرك به في ذلك:.... أن تغسل وجهك ثلاثا، و تخلل شعر لحيتك، و تغسل يدك من أصابعك الي المرفقين، و تمسح رأسك كله... و تغسل أصابعك الي المرفقين.

فلما وصل الكتاب عجب بما رسمه له... ثم قال: مولاي أعلم بما قال، و أنا ممتثل أمره...

و سعي بعلي بن يقطين لدي الرشيد، فقيل له: اختبره بالوضوء... فلما دخل وقت الصلاة، وقف الرشيد وراء حجاب ينظر وضوءه، فتوضأ علي الصورة التي رسمها له الامام.



[ صفحه 214]



فقال الرشيد: كذب يا علي بن يقطين من زعم أنك من الرافضة.

و ورد علي ابن يقطين كتاب الامام (عليه السلام):

«ابتداء من الآن يا علي بن يقطين توضأ كما أمر الله، اغسل وجهك مرة فريضة، و أخري اسباغا، و اغسل يديك من المرفقين كذلك، و امسح مقدم رأسك، و ظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما كان يخاف عليك، و السلام» [7] .

و مع كل هذه المنزلة لعلي بن يقطين عند الامام، فقد يجابهه بما يصحح سيرته، و يخفف من غلوائه، رائده في ذلك ايقافه عند المنهج السوي الذي لا يحاد عنه، فقد حجبه، و امتنع عن مقابلته، لأنه حجب ابراهيم الجمال، و هو من أولياء الامام.

فقال علي بن يقطين للامام موسي بن جعفر: يا سيدي ما ذنبي؟

فقال (عليه السلام): حجبتك لأنك حجبت أخاك ابراهيم الجمال.

و قد أبي الله أن يشكر سعيك، أو يغفر لك ابراهيم الجمال.

فدخل علي بن يقطين علي ابراهيم داره، و قال له: ان المولي أبي أن يقبلني أو يغفر لي.

فقال ابراهيم: يغفر الله لك، فألح علي بن يقطين عليه أن يطأ خده، ففعل ذلك بعد ممانعة، فقبله الامام بعد هذا [8] .

و من هنا نستشعر أن رعاية الامام لعلي بن يقطين لم تكن لذاته، و انما كانت لأسباب موضوعية أهمها أن يكون عند حسن ظن القاصدين من ذوي المشكلات، و أن يكون في تواضع المؤمن لدي استقبال ذوي الدين، و أن يكون لاخوانه حصنا منيعا ترد به عادية الزمن.



[ صفحه 215]



و بتوافر هذه الشروط و أمثالها، يكون العمل عند السلطان مبررا، و يكون الاندماج كليا بهذه الشروط ضروريا لتنفيذ ذلك، فبهذا و ذاك دفع الظلامة و اقرار العدالة و تلبية الاحتياج، و هذا كله هو الذي يسوغ اختراق النظام من الداخل لهدف أسمي.

و هكذا تمكن الامام موسي بن جعفر (عليه السلام)، و بشكل ايجابي بناء، أن يتجاوز كثيرا من العقبات التي اعترضت مسيرته النضالية و العملية من خلال أوليائه الأمناء.


پاورقي

[1] المجلسي / بحارالأنوار 48 / 139 و انظر مصدره.

[2] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 158 يرويه عن قرب الاسناد / 170.

[3] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 287.

[4] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 287.

[5] ظ: الشيخ المفيد / الارشاد / 329 - 330.

[6] ظ: الشيخ المفيد / الاختصاص 282 - 283 في طرق و أسانيد هذا الحديث، و بما روي فيه عن الأئمة (عليهم السلام) بعبارات متقاربة.

[7] ظ: الشيخ المفيد / الارشاد / 330 - 331.

[8] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 85.