الامام و مجابهة الانحراف و التضليل الديني
و مع الصورة الناصعة لأدب المجاملة الفاعل لدي الامام، و حفاظه المتكامل علي شعيرة التقية الواجبة، الا أننا نجده و باصرار قد يجابه المركز الأول في السلطة مجابهة صريحة صارمة، اذا اقتضت الضرورة الدينية ذلك، و اذا كان لابد من الاصحار بالرأي الخارق للأباطيل.
نلمس هذا الاتجاه عند الامام متجاوب الأصداء اذا حاذر من التضليل الديني و خداع المسلمين، ليصد بذلك الانحراف المتعمد، و يصون الحقيقة الكبري من الابتذال و الضياع.
و مبدأ المجابهة لاعلاء كلمة الحق لدي الامام من خصائصه الثابتة التي أذهلت الكثيرين في عصره، لأنها - عادة ما - تكون بأشد اللحظات حراجة، و عند أصعب المجالات محاججة، و هي قد تستلزم التضحية، و تتطلب الجرأة العالية، و تعني قطع خطوط العلاقات القائمة.
و سجل الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) حافل بهذا التوجه الفريد اذ كان لابد منه لتمييز الواقع عن الدجل، و تخليص الحق من الشوائب، و كشف الأقنعة دون محاباة.
[ صفحه 216]
فحينما دخل الرشيد المدينة توجه الي زيارة النبي (صلي الله عليه و آله) و معه الناس، فتقدم الرشيد نحو القبر و قال:
السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يابن العم - مفتخرا بذلك علي غيره - فتقدم الامام موسي بن جعفر الي القبر، و قال:
السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبتاه.
فتغير وجه الرشيد، و تبين الغيظ فيه [1] .
ان الملحظ الدقيق لهذه الحادثة يشير الي أن الرشيد أراد اضفاء صيغة الشرعية علي خلافته، لأنه ابن عم رسول الله (صلي الله عليه و آله) فأراد الامام ابطال ذلك، و احتج علي الرشيد بلغته نفسها، فسلم علي النبي (صلي الله عليه و آله) باعتباره أباه، فهو أولي بالشرعية - اذن - من الرشيد.
و كان الرشيد كثيرا ما يفتح الحوار مع الامام، بيد أنه يتحري مواطن الاحراج في ذلك، و كان الامام بين خيارين: اما أن يغضب السلطان، و اما أن تشوه الحقائق، فكان الامام (عليه السلام) يختار الخيار الأول، و كان هذا قدره عند الحاكمين.
قال الرشيد للامام: لم زعمتم أنكم أقرب الي رسول الله (صلي الله عليه و آله) منا، و أنتم بنو علي... و النبي جدكم من قبل أمكم؟
فقال الامام: لو أن النبي (صلي الله عليه و آله) نشر فخطب اليك كريمك هل كنت تجيبه؟
فقال الرشيد: سبحان الله! و لم لا أجيبه؟ بل أفتخر علي العرب و العجم و قريش بذلك.
فقال الامام: لكنه (عليه السلام) لا يخطب الي، و لا أزوجه.
فقال: لم؟
فقال الامام: لأنه ولدني و لم يلدكم [2] .
[ صفحه 217]
و في رواية: ان الامام قال للرشيد في هذه المسألة أو سواها:
هل يجوز أن يدخل علي حرمك - يعني النبي - و هن منكشفات؟
فقال لا، قال الامام: لكنه يدخل علي حرمي كذلك، و كان يجوز له [3] .
و يبدو أن مسألة النسب كانت الذريعة الوحيدة لبني العباس، لاثبات أنهم أولي بالنبي من أهل بيته، لكثرة ما سألوا الامام عن ذلك عسي أن يفحم، و لكنهم كانوا في وهم، فمتي كل الأئمة عن الاجابة في شي ء؟
سأل الرشيد الامام: كيف قلتم أنا ذرية النبي، و النبي لم يعقب، و انما العقب للذكر لا للأنثي، فائتني بحجة من كتاب الله...
فقال الامام: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (و من ذريته داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسي و هارون و كذلك نجزي المحسنين - و زكريا و يحيي و عيسي...) [4] .
من أبوعيسي؟ فقال: ليس لعيسي أب.
فقال الامام: «انما ألحقناه بذراري الأنبياء (عليهم السلام) من طريق مريم و كذلك ألحقنا بذراري النبي (صلي الله عليه و آله) من قبل أمنا فاطمة.
و زاده الامام قوله (تعالي): (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله علي الكاذبين) [5] .
و لم يدع أحد أن النبي أدخل تحت الكساء الا علي بن أبي طالب، و فاطمة، و الحسن و الحسين، و كان تأويل قوله عزوجل «أبناءنا» الحسن و الحسين، و نساءنا فاطمة، و أنفسنا علي بن أبي طالب، ان العلماء قد
[ صفحه 218]
أجمعوا علي أن جبرئيل قال يوم أحد: يا محمد ان هذه لهي المواساة من علي. قال: لأنه مني و أنا منه، فقال جبرئيل: و أنا منكما يا رسول الله، ثم قال: لا سيف الا ذوالفقار و لا فتي الا علي...» [6] .
و كان الرشيد قد جند لقضية البنات و وراثة الأعمام شعراء البلاط العباسي و فقهاء السلاطين، لاثبات أن قرابتهم للنبي أولي من قرابة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و قد تولي كبر ذلك مروان بن أبي حفصة قائلا:
أني يكون و ليس ذاك بكائن
لبني البنات وراثة الأعمام
فرده جعفر بن عفان الطائي، و كان يلعن مروان و يقبح قوله، و أجابه:
لم لا يكون و ان ذاك لكائن
لبني البنات وراثة الأعمام
للبنت نصف كامل من ماله
و العم متروك بغير سهام
ما للطليق... و للتراث... و انما
صلي الطليق مخافة الصمصام [7] .
و هي قضية باءت بالفشل، و لم تكن لتنطلي علي الشعب المسلم.
و كان الأسلوب الاستفزازي للرشيد الذي يجابه به الامام، يدعو الامام أن يجيب بصراحة متناهية، و ذلك بسبب من الاحراج الكبير الذي تثيره هذه الأسئلة، فتجعل الامام مضطرا لبيان الأمر الواقع علي حقيقته المجردة، و لكنه يسنده الي القرآن العظيم الذي هو عدله.
قال الرشيد للامام موسي بن جعفر: أسألك عن العباس و علي، بم صار علي أولي بميراث رسول الله (صلي الله عليه و آله) من العباس، و العباس عم رسول الله، و صنو أبيه؟
قال الامام: «ان النبي (صلي الله عليه و آله) لم يورث من قدر علي الهجرة فلم يهاجر، و ان عليا (عليه السلام) آمن و هاجر، و قال الله:
[ صفحه 219]
(و الذين آمنوا و لم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شي ء حتي يهاجروا)» [8] «فالتمع وجه الرشيد و تغير» [9] .
و أضاف في البحار، فسأله الرشيد: أسألك يا موسي، هل أفتيت بذلك أحدا من أعدائنا؟ أو أخبرت أحدا من الفقهاء في هذه المسألة بشي ء؟
فقال الامام: «اللهم لا....» [10] .
و تارة أخري يحرج الرشيد الامام بتنطعه في السؤال، و قد يستعفيه الامام من ذلك، و لكن الرشيد يصر اصرارا كبيرا، و يعطي الامام الأمان، فكان لابد للامام من الجواب.
قال الرشيد: لم ادعيتم أنكم ورثتم النبي (صلي الله عليه و آله) و العم يحجب ابن العم، و قبض رسول الله (صلي الله عليه و آله) و قد توفي أبوطالب قبله و العباس حي؟...
قال الامام: ان في قول علي بن أبي طالب (عليه السلام): اذ ليس مع ولد الصلب - ذكرا كان أو أنثي - لأحد سهم الا للأبوين و الزوج و الزوجة، و لم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث، و لم ينطق به الكتاب [11] .
و بمثل هذا العنت، و بمثل هذه الأسئلة، و بمثل هذه الاجابة، كان قلب الرشيد يمتلي ء حقدا علي الامام، و الامام يعلم ذلك، و لا يستطيع الا قول الحق، اذ ليس مما ليس منه بد، و هكذا يشكل الامام موقفا حاسما لا تردد فيه و لا اضطراب.
و لم تكن مجابهة الامام (عليه السلام) لفقهاء البلاط العباسي بأقل شأوا من مجابهته للسلاطين، فقد أورد الشيخ المفيد: ان محمد بن الحسن الشيباني
[ صفحه 220]
سأل الامام موسي بن جعفر بمحضر من الرشيد و هم بمكة؛ قال له: أيجوز للمحرم أن يظلل عليه محمله؟
فقال الامام (عليه السلام): لا يجوز له ذلك مع الاختيار. فقال محمد بن الحسن: أفيجوز أن يمشي تحت الظلال مختارا؟
فقال له الامام: نعم، فتضاحك محمد بن الحسن من ذلك.
فقال له الامام الكاظم (عليه السلام): أفتعجب من سنة النبي (صلي الله عليه و آله) و تستهزي ء بها؟ ان رسول الله (صلي الله عليه و آله) كشف ظلاله في احرامه، و مشي تحت الظلال و هو محرم، و ان أحكام الله يا محمد لا تقاس، فمن قاس بعضها علي بعض فقد ضل سواء السبيل. فسكت محمد بن الحسن لا يرجع جوابا [12] .
و قد يفجأ الامام هؤلاء بنوع من علمه لا تصل اليه أحلامهم، و لا ترقي الي ادراكه عقولهم، فقد ورد في عدة مصادر:
أن أبايوسف القاضي و محمد بن الحسن الشيباني زار الامام في السجن، و قال أحدهما للآخر: نحن علي أحد أمرين؛ اما أن نساويه أو نشكله، فجلسا بين يديه، فجاء رجل كان موكلا بالامام من قبل السندي، فقل: ان نوبتي قد انقضت و أنا علي الانصراف، فان كان لك حاجة أمرتني حتي آتيك بها في الوقت الذي تخلفني النوبة؛ فقال: مالي حاجة.
فلما أن خرج، قال الامام لأبي يوسف و صاحبه:
ما أعجب هذا؟ يسألني أن أكلفه حاجة من حوائجي ليرجع، و هو ميت في هذه الليلة!!
فقاما، و قال أحدهما للآخر: انا جئنا لنسأله عن الفرض و السنة؛ و هو الآن جاء بشي ء آخر كأنه من علم الغيب!!
[ صفحه 221]
ثم بعثا برجل مع الرجل، فقالا: اذهب حتي تلزمه، و تنظر من أمره في هذه الليلة... فمضي الرجل فنام في مسجد في باب داره، فلما أصبح سمع الناعية و رأي الناس يدخلون داره، فقال: ما هذا؟
قالوا: مات فلان في هذه الليلة... فانصرف الرجل الي أبي يوسف و محمد و أخبرهما الخبر، فأتيا أباالحسن (عليه السلام)، فقالا: قد علمنا أنك أدركت العلم في الحلال و الحرام، فمن أين أدركت أمر هذا الرجل الموكل بك أنه يموت الليلة؟
قال الامام (عليه السلام): من الباب الذي أخبر بعلمه رسول الله (صلي الله عليه و آله) علي بن أبي طالب (عليه السلام).
فلما رد عليهما هذا، بقيا لا يحيران جوابا [13] .
و هذا باب ملتئب لدي الامام فيه عشرات الأحداث شواهد علي الاخبار بعلم المنايا و آجال الناس، و كأنها مرهونة بكلامه، و لا تخطي ء و لا مرة واحدة، و دلائلها منتشرة في أمهات المصادر، و قد تقدم قسم كبير منها علم الامام الموهبي، و منها:
عن اسحاق بن عمار، قال: سمعت العبد الصالح أباالحسن (عليه السلام) ينعي الي رجل نفسه، فقلت في نفسي: و انه ليعلم متي يموت الرجل من شيعته؟
فقال الامام شبه المغضب: يا اسحاق قد كان رشيد الهجري يعلم علم المنايا و البلايا، فالامام أولي بذلك [14] .
و في رواية أخري عن اسحاق أيضا قال:
كنت عند أبي الحسن (عليه السلام)، و دخل عليه رجل فقال له أبوالحسن: يا فلان انك تموت الي شهر.
[ صفحه 222]
قال: فأضمرت في نفسي كأنه يعلم آجال شيعته؟
فقال الامام: «يا اسحاق، و ما تنكرون من ذلك؟ و قد كان رشيد الهجري مستضعفا، و كان يعلم علم المنايا و البلايا، فالامام أولي بذلك، ثم قال، يا اسحاق تموت الي سنتين، و يتشتت أهلك و ولدك و عيالك، و أهل بيتك...» [15] .
و لا نريد الاسترسال في هذا الشأن لئلا نخرج عن صلب الموضوع.
و في ضوء ما تقدم يبدو لنا أن الامام في اللحظات الحاسمة؛ لا يتردد مطلقا في ابداء الحقائق مجردة حذر التضليل.
[ صفحه 223]
پاورقي
[1] الطبرسي / الاحتجاج / 214، البحار 48 / 103.
[2] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 127 - 128.
[3] ظ: الآبي / نثر الدر 1 / 359.
[4] سورة الأنعام / 84 - 85.
[5] سورة آل عمران / 61.
[6] الصدوق / عيون أخبار الرضا 1 / 81، البحار 48 / 128.
[7] ظ: الأصبهاني / الأغاني 10 / 94 و ما بعدها.
[8] سورة الأنفال / 72.
[9] ابن شعبة / تحف العقول / 302.
[10] المجلسي / بحارالأنوار 48 / 127.
[11] المصدر نفسه 48 / 126.
[12] الشيخ المفيد / الارشاد / 334 - 335.
[13] ظ: الراوندي / الخرائج و الجرائح / 202، البحار 48 / 64 - 65.
[14] الصفار / بصائر الدرجات 6 / 73.
[15] المجلسي / البحار 48 / 54 عن المصدر السابق 6 / 73.