بازگشت

رؤية مجهرية لأسباب سجن الامام


رأيت فيما سبق بيانه في الفصول المتقدمة، ما كان عليه الامام من عظيم المنزلة و سمو الذات، و ما احتل من شعبية عند الجماهير، و ما هو عليه من كيان رفيع لدي العلماء وقادة الفكر و حملة القرآن و رجال الحديث، و ما امتاز به من الخلق العظيم و كريم الشمائل، و ما جبل عليه نفسه من كظم الغيظ و ضبط النفس و سخاء اليد، و ما عرف به من الحلم و الصبر الجميل. و فوق هذا كله توجه النظر العقلي الي قيادته الدينية و امامته الشرعية، يضاف الي ذلك اندماجه الكلي في ذات الله، و نفاذ بصيرته بأمر الله، و تمتعه بتلك القابليات الفذة من العلم الفياض بشقيه الكسبي و اللدني، و كونه الامام الماثل الذي تشخص نحوه الأبصار عند الأزمات و الملمات.



[ صفحه 224]



و قد رأيت فيما مضي آراء الأساطين و الفحول و هي تقوم فضله و تشيد بمكارم أخلاقه و تنص علي خصائصه و مميزاته.

كل أولئك مؤشرات بارزة السمات في حياة الامام، و قيادة الامام، و مكونات شخصية الامام.

و الرشيد في تركيبه النفسي المعقد، و في طبيعة ما جبلت عليه ذاته من الأنانية، و ما اشتملت عليه تصرفاته الدالة علي حقده الدفين لأهل البيت (عليهم السلام)، و هو في قرارة نفسه يعلم من هو الامام، و يقر بما للامام من مثل و قيم لا تتوفر في سواه، و هو يري تدافع الفقهاء و المحدثين و أهل العلم علي جامعة الامام، و هو يري مدرسة الامام تشق طريقها في التشريع و الحياة و الاجتماع، و هو يري شطر المسلمين يقولون بامامة موسي بن جعفر (عليه السلام)، حتي عاد الامام حديث المجالس و الأندية، و شغل المحافل و الدواوين.

و هذا كله من أبرز العوامل المساعدة علي استفزاز الرشيد. و الرشيد أحرص الناس علي الحياة، و أحب الناس للسلطان، و أشد الناس طلبا للملك، فقد تسلمه بعد هن و هن، فهو لهذا لا يتورع عن اقتراف أية جريمة مهما كان نوعها، للابقاء - فيما زعم - علي الحكم، و قد هاله هذا الزخم الهائل من فضائل الامام، و قد روعه ذلك الرصيد الشعبي للامام، فهو يحمي ملكه، و يبقي علي نفسه، فيما يعتقده عندما يقدم علي اعتقال الامام.

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي:

«لقد كان هارون يقظا، فكان يخرج بغير زيه متنكرا ليسمع أحاديث العامة، و يقف علي اتجاهاتهم و رغباتهم، فكان لا يسمع الا الذكر العاطر للامام و الثناء عليه، و حب الناس له، و رغبتهم في أن يتولي شؤونهم، فلذلك أقدم علي ارتكاب الموبقة» [1] .



[ صفحه 225]



و كانت البنية الخلفية للرشيد تتكي ء علي تركيب متدهور مريض، يفيض لؤما و حساسية من أهل هذا البيت الكريم، و هذا موسي بن جعفر زعيم العلويين و كبير الطالبيين، و هذا هو موقعه من الأمة و تلك مآثره في الآفاق، و أولاء شيعته في الحياة، فلماذا يبقي طليقا؟ و هو مصدر قلق و هلع، و لماذا لا يسجن؟ عسي أن تتفرق الجموع، و تتلاشي المخاوف، و يثبت السلطان.

علي حين رأينا الامام في سيرته و مسيرته: صاحب دين لا صاحب دنيا، و رائد ايمان لا رائد سلطان، و رجل رسالة لا رجل سلطة. و لم تكن هذه الحقائق لتثني الرشيد عن عزمه في القضاء علي الامام.

و كان للسعاية و الوشاية أثرهما في حنق الرشيد علي الامام، فبعض الأخبار تعزو سبب ذلك ليحيي بن خالد البرمكي، فقد سعي بالامام لدي الرشيد، لأن الرشيد جعل ابنه الأمين في حجر جعفر بن محمد بن الأشعث و هو امامي، فساء ذلك يحيي، و اعتقد أن دولته و دولة أبنائه ستنتهي لدي تولي الأمين الخلافة، فهو سيستوزر ابن الأشعث باعتباره أستاذه، فسعي به الي الرشيد بحجة: أنه لا يصل اليه مال الا أخرج خمسه و وجه به الي موسي بن جعفر... فبعث الرشيد من يكتشف له أمر هبة أعطاها لابن الاشعث و هي عشرون ألف دينار، فأدخل عليه بعد الترويع ليلا... قال له: انك تبعث الي موسي بن جعفر من كل ما يصير اليك بخمسه، و انك قد فعلت ذلك في العشرين ألفا، فأمر باحضارها علي حالها.

و جعل يحيي يحتال في اسقاط جعفر، فأرسل الي علي بن اسماعيل بن جعفر (و قيل محمد بن جعفر) و قال له: أخبرني عن عمك، و عن شيعته، و عن المال الذي يحمل اليه... فقال: ان من كثرة ماله أنه اشتري ضيعة بثلاثين ألف دينار، فقال البائع: لا أريد هذا المال، و أريد نقدا آخر، فأمر بها الامام فصبت ببيت ماله، و أعطاه ذلك النقد الآخر... فلما أراد الرشيد



[ صفحه 226]



الرحلة الي العراق، بلغ الامام أن عليا ابن أخيه يريد الخروج مع السلطان، فأرسل اليه: مالك و الخروج مع السلطان؟ قال: لأن علي دينا.

قال الامام: دينك علي. قال: و تدبير العيال؟

قال: أنا أكفيهم.

فأبي الا الخروج، فأرسل اليه الامام بيد أخيه محمد بن جعفر بثلاثمائة دينار، و أربعة آلاف درهم، فقال:

اجعل هذا في جهازك و لا توتم ولدي [2] .

و في رواية أخري أن محمد بن جعفر دخل علي الرشيد ثم قال له:

ما ظننت أن في الأرض خليفتين حتي رأيت أخي موسي بن جعفر يسلم عليه بالخلافة. و كان ممن سعي بالامام يعقوب بن داود و كان يري رأي الزيدية [3] .

و قيل: ان الواشي بالامام عند الرشيد: محمد بن اسماعيل بن جعفر [4] .

و قد تعتبر هذه الوشاية أو تلك بداية المبررات لسجن الامام من قبل الرشيد، أو في الأقل من المشجعات عليه.

بينما يري الأستاذ محمدحسن آل ياسين أن سبب سجن الامام كان مرتبطا بحج الرشيد أول مرة بعد استخلافه، و زيارته قبر النبي، و قوله: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا بن العم.

فتقدم الامام الي القبر، فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبه.

فتغير وجه الرشيد، و تبين الغيظ فيه فكتمه، و قال: هذا هو الفخر يا أباالحسن.



[ صفحه 227]



و المستنبط من مجموع روايات هذه الحادثة، و قد وردت في عدد غير قليل من المصادر المعتمدة [5] أن الرشيد قد صدمته هذه المفاخرة الصريحة أو المباهلة الجريئة، فأفسدت عليه مشاعر التعالي و لذة المباهلة، و حرمته من توهم قدرته علي خداع السامعين و المشاهدين بأنه أقرب الناس الي رسول الله (صلي الله عليه و آله) و يكون الأحق بالخلافة بحكم هذه القربي المتصلة الوشائج.

و يبدو أن الامام قد أحس بهدف الرشيد من هذا الاعلان، فبادر الي اعلام جماهير الحاضرين: بأنه الأقرب رحما و نسبا، و الألصق لحمة و سببا، و أنه ابن رسول الله (صلي الله عليه و آله) حقا علي رغم زيف المزيفين، و تضبيب المضببين. و تدلنا الأخبار المعنية بهذا الموضوع أن الرشيد بعد أن كتم غضبه و غيظه، لم يستطع نسيان ذلك أو اغفال أمره، بل يظهر بجلاء أن تلك المجابهة العنيفة المؤدبة من الامام موسي بن جعفر، قد هيمنت علي نفس الخليفة و أفكاره فأصبحت شغله الذهني الشاغل [6] .

و مهما يكن من أمر، فقد يكون هذا هو السبب الرئيسي في اعتقال الامام، و يضاف اليه: أن لشخصية الامام القيادية أثرا كبيرا في اعتقاله، لأنه صاحب الكيان المتميز في الشعب المسلم.

و لحقد الرشيد أثره الفاعل في اعتقال الامام، و للسعايات أثرها في التعجيل باعتقال الامام، و لحاشية السوء و بطانة الشر الأثر الكبير في تهييج الأحاسيس المضادة للامام، كما أن للأطماع سبيلها الي ذلك كله، فقد أجيز علي بن اسماعيل بمائتي ألف درهم، فجي ء بها اليه و هو في النزع الأخير، اذ زحر زحرة خرجت بها حشوته و أمعاؤه، فقال: ما أصنع بالمال و أنا في الموت

[7] .



[ صفحه 228]



و قد اعتبر الأستاذ باقر شريف القرشي أن أهم أسباب اعتقال الرشيد للامام: سمو شخصية الامام - حقد هارون علي الامام - حرص الرشيد علي الملك - بغضه للعلويين - الوشاية بالامام - احتجاج الامام علي الرشيد - تعيين الامام لحدود فدك - صلابة موقف الامام موسي بن جعفر [8] .

و أخيرا أقدم الرشيد علي فعلته النكراء فكان سفيها حقا، فحج البيت مبتدئا بقبر النبي (صلي الله عليه و آله) مخاطبا له:

«يا رسول الله؛ اني أعتذر اليك من شي ء أريد أن أفعله، أريد أن أحبس موسي بن جعفر، فانه يريد التشتت بين أمتك و سفك دمائها» [9] .

و لست أدري كيف يقبل عذره؟ أو يقبل رسول الله عذره؟ و هو يريد اعتقال بضعة منه، و من ذا الذي يصدق هذا السفه اللا مسؤول الذي أطلقه الرشيد علي عواهنه؟ و متي أراد الامام تشتيت الأمة و هو الداعي الي وحدتها، و متي أراد سفك دمائها؟ و الحل و العقد بيد أبناء الطلقاء من العباسيين.

ان هذا الاعتداء السافر علي حرمة رسول الله (صلي الله عليه و آله) كان علي مسمع و مشهد من المسلمين، و هم يستمعون ذلك و يسخرون منه، و الرشيد ينتهك الحرمة و مقاييس الأدب بحضرة الرسول الأعظم، و الامام تقطع عليه صلاته و لا يمهل لاتمامها، و يؤخذ مكبلا بالحديد من مسجد جده، و هناك قبتان ضربت من دونهما الأشعار، لا يعلم الامام بأيهما هو، و تؤخذ واحدة بطريقها الي البصرة، و الأخري نحو الكوفة، ليعمي علي الناس خبره، و كان الامام في التي مضت الي البصرة [10] .



[ صفحه 229]



و هكذا ينتزع الامام جهارا من مدينة جده، و يتولي شؤونه في مسيرة هذا زمرة من الغلاظ الشداد، حيث تنتظره معتقلات الطاغية.

و كان الامام قد استدعي الي بغداد في عهد المهدي و سجن في بغداد، فليس السجن علي الامام بجديد [11] .


پاورقي

[1] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 450.

[2] ظ: الصدوق / عيون أخبار الرضا 1 / 69 باختصار.

[3] المصدر نفسه 1 / 72.

[4] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 436.

[5] رويت هذه الحادثة في أكثر من عشرين مصدرا معتمدا.

[6] محمدحسن آل ياسين / الامام موسي بن جعفر / 70 - 71.

[7] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 232.

[8] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 443 - 460.

[9] المجلسي / البحار 48 / 232.

[10] ظ: تفصيلات ذلك؛ المجلسي / بحارالأنوار 48 / 232.

[11] ظ: الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد 13 / 27، ابن كثير / البداية و النهاية 10 / 153، القندوزي / ينابيع المودة / 382.