بازگشت

ايديولوجية تنقل الامام بين عدة سجون


كان الهدف الاستراتيجي من عملية سجن الامام - فيما يحسب الرشيد - هو تضييع خبر الامام، و ايقاف زحفه الهادر، عسي أن يتناساه الناس، و تمحي صورته عن الذاكرة، و من ثم يتم تنفيذ المخطط اللا انساني باغتياله مع سبق الاصرار، دون أدني ريب.

و لم يكن الامام بالشخص الذي يتجاهل تأثيره الحكام و لا الطغاة، و لا هو بالرجل الاعتيادي الذي ان حضر لا يعد، و ان غاب لا يفتقد، فالصورة علي العكس تماما، فهو في ضمير الناس أمثولة تقتدي، و هو في حياة الناس الامام البر التقي النقي، و هو في الميدان العام سيد الموقف و رائد الحق الصريح، و السجن في مثل هذا الواقع الشاخص لا يغير شيئا من منزلة الامام، و لا يطوي صفحة لذكر الامام، و لا يحقق غاية يسعي لها النظام، فآثار الامام في حياة المجتمع المسلم لا تختفي بحال من الأحوال.

و لم يكن الاستعجال بقتل الامام يمثل خطة سليمة في نظر الرشيد، فكان السجن هو الاختيار الأمثل عنده، عسي أن يكون السجن بديلا يستطيع فيه القضاء علي ذيوع شهرته، و عسي أن يقال: مرض، و اعتل، أو مات حتف أنفه، ليتخلص من أية مسؤولية.



[ صفحه 230]



هكذا أراد الرشيد، و هكذا خطط الرشيد.

و ذهبت مصادر دراسة حياة الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) الي أن سجونه قد تعددت و تكررت، و أن مواضعها قد تنوعت و توزعت، و أنه سجن في البصرة مرة، و سجن في بغداد مرات. و كان في البصرة في سجن عيسي بن جعفر بن المنصور الدوانيقي، و هو والي البصرة من قبل الرشيد، و قد نظر في شأن الامام و أمره، فذهل الرجل بعبادته و انابته، و أعجب بصبره و خلقه الرفيع، و استمع الي الامام في دعائه، و اذا به يقول:

«اللهم، انك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم و قد فعلت، فلك الحمد» [1] .

و كان عيسي بن جعفر - فيما يبدو - عاقلا متأنيا، فما أراد أن يتورط في شي ء من أمر الامام، و يبدو أن الامام كان عنده موسعا عليه في سجنه، و قد أتيحت له فيه الحرية بعض الشي ء، اذ تمكن جملة من رواة الحديث من الاتصال بالامام و الاستماع اليه، و كان منهم ياسين الزياتي، فقد روي عن الامام بعض الأحكام و هو في سجن البصرة.

و مكث الامام في سجن البصرة سنة، فتململ عيسي بن جعفر بذلك، ثم كتب الي الرشيد: أن خذه مني، و سلمه الي من شئت، و الا خليت سبيله، فقد اجتهدت بأن أجد عليه حجة فما أقدر علي ذلك، حتي اني لأتسمع عليه اذا دعا، لعله يدعو علي أو عليك، فما أسمعه يدعو الا لنفسه، يسأل الرحمة و المغفرة. فوجه الرشيد من تسلمه منه [2] .

و يبدو أن هذه الرسالة من عيسي الي الرشيد قد كتبت بعد أن اضطرب الوضع بالبصرة احتجاجا علي سجن الامام، و قد بلغ الرشيد ذلك، فبادر



[ صفحه 231]



بالطلب الي عيسي أن يقوم باغتيال الامام (عليه السلام) فجمع عيسي مستشاريه و عرض عليهم أمر الرشيد، فحذروه من قتل الامام فاستجاب لهم، و قد كان كارها لذلك، و كتب الي الرشيد يستعفيه من هذه المهمة، و يدل علي هذا الرسالة المفصلة التي بعث بها عيسي الي الرشيد، يقول فيها:

يا أميرالمؤمنين، كتبت الي في هذا المجال، و قد اختبرته طول مقامه بمن حبسته معه عينا عليه، لينظروا حيلته و أمره و طويته ممن له المعرفة و الدراية، و يجري من الانسان مجري الدم، فلم يكن منه سوء قط، و لم يذكر أميرالمؤمنين الا بخير، و لم يكن عنده تطلع الي ولاية، و لا خروج، و لا شي ء من أمر الدنيا، و لا دعا قط علي أميرالمؤمنين، و لا علي أحد من الناس، و لا يدعو الا بالمغفرة و الرحمة له و لجميع المسلمين، مع ملازمته للصيام و الصلاة و العبادة، فان رأي أميرالمؤمنين أن يعفيني من أمره، أو ينفذ من يتسلمه مني، و الا سرحت سبيله، فاني منه في غاية الحرج [3] .

و يبدو من عرض هذه الرسالة و أسلوبها الرقيق أن عيسي بن جعفر أراد أن يخفف ما في نفس الرشيد عن الامام، فأنبأه بأنه في ظل رقابة صارمة، و أن عينا عليه في السجن يلحظه بدقة متناهية، ينظر في أمره و يوافيه بأخباره، و أنه لم يذكر الرشيد الا بخير، و أنه اختبره فوجده عازفا عن السلطان، لا يتطلع الي ولاية، و ليس من رأيه الخروج علي الرشيد، و طلب اليه تخلية سبيله، و اطلاقه من سجنه، و الا أطلق سراحه.

و كان الامام قد قضي سنة كاملة في سجن عيسي، و استجاب الرشيد لطلب عيسي فنقله الي الفضل بن الربيع في بغداد [4] .



[ صفحه 232]



و لكن الذي يبدو من الأخبار، و يظهر للبحث أن الرشيد أودع الامام معه في قصره لدي جلبه الي بغداد، و من ثم سلمه لمدير شرطته عبدالله بن مالك الخزاعي، و هو ما رواه المسعودي، و أكده ابن طاووس، و نقله ابن خلكان، و ذكر عند القندوزي، و ابن حجر، و أورده المجلسي، و في هذا السجن لدي مدير الشرطة تم اطلاق سراح الامام، و يبدو أنه الاطلاق، ثم قبض عليه، و أودع سجن الفضل بن الربيع.

هذا ما توصل اليه البحث، فقد حدث عبدالله الخزاعي بسند صحيح قال: دعاني هارون... فقال امض الي تلك الحجرة و خذ من فيها، و احتفظ به الي أن أسألك عنه، فدخلت و اذا هو موسي بن جعفر، فحملته و أدخلته داري، و كنت أتولي خدمته بنفسي، و مضت الأيام فلم أشعر الا برسول الرشيد يقول:

أجب أميرالمؤمنين، فذهبت الي الرشيد، و أذن لي بالدخول، فوجدته قاعدا علي فراشه، فسلمت، فسكت ساعة، ثم قال لي:

يا عبدالله أتدري لم طلبتك في هذا الوقت؟ اني رأيت الساعة حبشيا قد أتاني و معه حربة، فقال: ان لم تخل عن موسي بن جعفر الساعة، نحرتك بهذه الحربة.

فاذهب فخل سبيله. فقلت: أطلق موسي بن جعفر؟ ثلاثا، قال: نعم؛ امض الساعة حتي تطلق موسي بن جعفر، و أعطه ثلاثين ألف درهم، و قل له: ان أحببت المقام قبلنا فلك عندي ما تحب. و ان أحببت المضي الي المدينة فالأذن في ذلك اليك. قال: فمضيت الي الحبس... و خليت سبيله [5] .

و اذا صحت هذه الرواية باطلاق سراح الامام فانه قد أبقي في بغداد في ظل اقامة جبرية، حتي استثني الرشيد من قراره فاعتقله عند الفضل بن



[ صفحه 233]



الربيع أحد وزرائه، فصيره في داره، و يبدو أن الفضل كان متحرجا من سجن الامام، أو في الأقل كان مرفها عليه في سجنه، فقد أعجب الفضل بعبادة الامام، و أطلع علي ذلك عبدالله الشزويني (القروي) و هو علي سطح داره، و حدثه عنه بقوله: «اني أتفقده الليل و النهار، فلم أجده الا علي الحال التي أخبرك بها: انه يصلي الفجر، و يعقب ساعة، و يسجد سجدة لا يزال بها حتي تزول الشمس... ثم يثب لصلاة الظهر... الي أن يفرغ من صلاة العصر... فاذا غابت الشمس و ثب فصلي المغرب... و لا يزال في صلاته و تعقيبه الي صلاة العتمة، ثم يفطر علي شوي... ثم يقوم فلا يزال يصلي في جوف الليل حتي يطلع الفجر... فاذا طلع وثب لصلاة الفجر [6] و أراده الرشيد علي قتل الامام فأبي ذلك [7] .

و قال القروي للفضل: «اتق الله و لا تحدث في أمره حدثا يكون منه زوال النعمة... فقال الفضل: قد أرسلوا الي غير مرة يأمرونني بقتله فلم أجبهم لذلك، و أعلمتهم أني لا أفعل ذلك، و لو قتلوني ما أجبتهم الي ما سألوني»

[8] .

و يبدو أن الفضل بن الربيع أراد من الرشيد اطلاق الامام، و عاتبه علي التضييق عليه في الحبس، فأجابه هارون: هيهات لابد من ذلك.

و يبدو أن هارون قد أطلق الامام بما رواه حاجب الفضل بن الربيع عن الفضل نفسه، اذ دخل عليه مسرور الكبير، قائلا: أجب الأمير... فخرج معه الي الرشيد فقال له: تداخلك رعب؟ قلت: نعم، قال: صر الي حبسنا، فأخرج موسي بن جعفر بن محمد... و خيره بين المقام أو



[ صفحه 234]



الرحيل، فقلت: تأمر باطلاق موسي بن جعفر، قال: نعم؛ ويلك تريد أن أنكث بالعهد [9] .

و أطلق سراح الامام موقنا، و قبض عليه، فسجن عند الفضل بن يحيي. فوسع علي الامام و أكرمه - في رواية - فاتصل ذلك بالرشيد و هو في الرقة، فكتب اليه الرشيد ينكر عليه توسيعه علي الامام، و أمره بقتله، فتوقف الفضل، و لم يقدم علي ذلك [10] .

فأنفذ الرشيد مسرورا الخادم الي بغداد علي البريد، و أمره من فوره أن يدخل الي موسي بن جعفر فيعرف خبره، فان كان الأمر علي ما بلغه أوصل كتابا منه الي العباس بن محمد و أمره باعتقاله، و أوصل كتابا آخر الي السندي بن شاهك يأمره بطاعة العباس.

فقدم مسرور فنزل دار الفضل بن يحيي، و لا يدري أحد ما يريد، ثم دخل علي الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) فوجده علي ما بلغ الرشيد من السعة و الرفاهية، فأوصل لهما الكتابين، فلم يلبث الناس أن خرج الرسول يركض الي الفضل بن يحيي فركب معه، و خرج مشدوها دهشا حتي دخل علي العباس، فدعا بسياط و عقابين، فوجه ذلك الي السندي بالفضل فجرد، ثم ضربه مائة سوط، فخرج الفضل متغير اللون خلاف ما دخل، فأذهبت نخوته، فجعل يسلم علي الناس يمينا و شمالا.

و كتب مسرور بالخبر الي الرشيد فأمر بتسليم الامام الي السندي بن شاهك، و جلس مجلسا حافلا سب به الفضل بن يحيي و أمر بلعنه، حتي تدارك ذلك أبويحيي بن خالد، فساوي الأمر [11] .



[ صفحه 235]



و هذه المرويات تشير أن الفضل بن يحيي قد وسع علي الامام لما رآه من حسن سمته، و رفيع عبادته، و انقطاعه الي الله تعالي، و عزوفه عن الدنيا و الجاه و السلطان.

بينما تقول بعض الروايات: ان البرامكة بما فيهم الفضل و أبوه كانوا من أعداء الامام، حتي روي أن الفضل قدم للامام مائدة فيها السم، و استدعي له الطبيب، فأراه الامام راحته و كانت خضرة، تدل علي أنه قد سم، فانصرف الطبيب قائلا: و الله لهو أعلم بما فعلتم به منكم [12] .

و قد ورد عن الامام علي بن موسي الرضا تصديق ذلك، فقد قال لأحمد بن محمد بن أبي نصر من حديث:

«ان الله يدافع عن أوليائه، و ينتقم لأوليائه من أعدائه، أما رأيت ما صنع الله بآل برمك، و ما انتقم لأبي الحسن (عليه السلام)» [13] .

هذا ملخص تأريخي اجمالي بسجون الامام في عهد الرشيد، و قد تناوب عليها: في سجن عيسي بن جعفر بن المنصور في البصرة، و نقل الي بغداد فسجن فيها عدة مرات، فكان من سجونه قصر الرشيد، ثم سلمه الي مدير شرطته و الموكل بقصره: عبدالله بن مالك الخزاعي، ثم أطلق، و أبقي في بغداد، و قبض عليه و سجن عند الفضل بن الربيع مرفها عليه، ثم أطلق لكرامة له، و قبض عليه أخيرا، فسجن عند الفضل بن يحيي بن خالد البرمكي، فوسع علي الامام، و عاقبه الرشيد علي ذلك، و قيل علي العكس من هذا، ثم أمر به الي سجن السندي بن شاهك، و كان سجنه من أضيق السجون معاملة مع الامام، و من أشد المعتقلات عليه.



[ صفحه 236]



و كان موقع هذا السجن في دار المسيب قرب باب الكوفة، و باب الكوفة يقع اليوم - كما في خارطة بغداد - في منطقة «الوشاش» و هي احدي أحياء محلة الكرخ ببغداد.

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي:

«و سمعت من الأفواه أن المحل الذي سجن به الامام معروف لدي الأوساط البغدادية، و هو أحد قصور آل الباججي» [14] .

و قيل: ان الامام سجن في دار السندي بن شاهك نفسه، و قد يدل علي ذلك أن أخت السندي سألت أخاها أن تتولي أمر هذا العبد الصالح في حبسه - و كانت من المتدينات - فوافق علي ذلك فكانت علي خدمته، و حكي أنها قالت:

«كان اذا صلي العتمة حمد الله و مجده و دعاه، فلم يزل كذلك حتي يزول الليل، فاذا زال الليل قام يصلي حتي يصلي الصبح، ثم يذكر حتي تطلع الشمس، ثم يقصد الي ارتفاع الضحي، ثم يتهيأ و يستاك، و يأكل، و يرقد الي الزوال، ثم يتوضأ و يصلي، ثم يذكر في القبلة حتي يصلي للمغرب، ثم يصلي ما بين المغرب الي العتمة، فكانت تقول: خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل» [15] .

و قد ضيق السندي علي الامام أشد التضييق بأمر مباشر من هارون الرشيد، و أوعز اليه أن يقيده بثلاثين رطلا من الحديد، و يقفل الباب في وجهه، و لا يدعه يخرج الا للوضوء، فامتثل السندي ذلك، و نفذ ما أراد الرشيد [16] .



[ صفحه 237]



و كان القبض علي الامام قد تم من قبل الرشيد لأول مرة لعشر ليال بقين من شهر شوال عام 179 ه، و ما انفك كما رأيت، ينقل بين السجون، حتي توفي مسموما في سجن السندي بن شاهك لخمس بقين من شهر رجب عام 183 ه علي المشهور [17] .

و علي هذا فقد قضي الامام في غياهب السجون خمس سنوات الا شهرين و نصف الشهر بالضبط.

و كانت هذه المدة حقبة انقطاع للامام عن شيعته الا لماما، و كانت حياته في السجن حياة ابتهال و تهجد و صلوات و دعاء، و لم تكن تقتصر علي ذلك من النشاط الروحي، فهناك أنشطة ذات بال ستراها في المبحث الآتي.


پاورقي

[1] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 432، البحار 48 / 107.

[2] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 233.

[3] ظ: الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / 502، الشيخ المفيد / الارشاد / 337، الاربلي / كشف الغمة 3 / 25.

[4] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 233.

[5] ظ: المسعودي / مروج الذهب 3 / 265 - 266، ابن طاووس / مهج الدعوات / 245، ابن خلكان / وفيات الأعيان 4 / 934، القندوزي / ينابيع المودة / 363، ابن حجر / الصواعق المحرقة / 122.

[6] المجلسي / بحارالأنوار 48 / 211.

[7] ظ: الاربلي / كشف الغمة 3 / 25.

[8] الصدوق / الأمالي / 146، البحار 48 / 211.

[9] ظ: المسعودي / مروج الذهب 3 / 265.

[10] ظ: الاربلي / كشف الغمة 3 / 26.

[11] ظ: الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / 503، الطوسي / الغيبة / 22.

[12] ظ: المجلسي / البحار 48 / 212 عن الصدوق / الأمالي / 146.

[13] ظ: المجلسي / البحار 48 / 249.

[14] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 487.

[15] ظ: الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد 13 / 31، ابن الأثير / الكامل 5 / 108، أبوالفداء / التأريخ 2 / 15، الذهبي / سير أعلام النبلاء 6 / 273.

[16] ظ: القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 2 / 487.

[17] ظ: الطبري / تأريخ الأمم و الملوك 1 / 70، ابن الأثير / الكامل 6 / 54، الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد 13 / 32، ابن خلكان / وفيات الأعيان 2 / 73، الكليني 1 / 476، المجلسي / البحار 48 / 206.