بازگشت

تجهيز الامام و تشييعه الي مقره الأخير


و انتخي سليمان بن أبي جعفر المنصور، و هو عم الرشيد، فتولي بنفسه الاشراف علي تجهيز الامام و تشييعه، بعد أن استمع الي شرطة الرشيد تنادي علي جثمان الامام بما لا نستطيع ذكره.

سمع سليمان - اذن - الضوضاء في النداء، و رأي تجمعا غير معهود علي الجسر، فقال لولده و غلمانه: ما هذا؟ قالوا:

السندي بن شاهك ينادي علي موسي بن جعفر علي نعش.

فقال لولده و غلمانه: يوشك أن يفعل هذه به في الجانب الغربي، فاذا عبر به، فانزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم، فان مانعوكم فاضربوهم، و خرقوا ما عليهم من السواد...



[ صفحه 255]



فامتثل الغلمان ذلك... و وضعوا الجثمان في مفترق أربعة طرق، و نادوا: ألا من أراد أن يحضر الطيب ابن الطيب موسي بن جعفر فليخرج، و حضر الخلق، فكان التشييع الجماهيري.

و كان هذا الموقف المشرف من سليمان؛ اما بدافع الغيرة و الحمية، و اما بدافع الرحم الماسة، و اما بدافع سياسي، أو بشعور انساني، أو بذلك بعضه أو كله.

و مهما يكن من أمر، فقد كان ذلك بتقدير من الله عزوجل لرفع الظلامة عن الامام في حرمة جثمانه الطاهر، فأتاح لذلك سليمان، فقام بما قام.

و جهز الامام علي خير ما يكون غسلا و تحنيطا و كفنه سليمان بكفن فيه حبرة استعملت له بألفين و خمسمائة دينار، عليها القرآن كله، و مشي في جنازته مستلبا مشقوق الجيب الي مقابر قريش [1] .

و تناهي الاعلام بوفاة الامام الي الناس فتنادوا بذلك، و سارت المواكب الكبري تشق طريقها في بغداد الي مثواه الأخير في مقابر قريش حيث ضريحه المقدس اليوم في الكاظمية زادها الله شرفا ببركته و بركة حفيده الامام محمد الجواد بن الرضا (عليهماالسلام).

و كانت وفاة الامام (عليه السلام) في يوم الجمعة الخامس و العشرين من شهر رجب عام 183 ه كما هو المشهور عند الامامية، و عليه العمل، و عند أغلب المؤرخين [2] .

و قيل كان ذلك عام 186 ه، و قيل كان ذلك عام 181 ه [3] .



[ صفحه 256]



و دفن الامام في «مقابر قريش» غربي بغداد، بما يسمي اليوم ب «الكاظمية» المقدسة، و ضريحه و ضريح حفيده محمد الجواد من المشاهد المنورة في تلك الروضة البهية التي ضمت الجثمانين الطاهرين، و يعتمر فيه يوميا عشرات الآلاف من الزائرين و الوفاد من مختلف الأقاليم، و عليه قبتان ذهبيتان، الي جانبهما أربع منائر ذهبية تطلان علي بهوين عظيمين، يشرفان عليهما و علي الصحن الشريف، و داخل الحرم مزين بالكاشاني المعرق، و الفسيفساء و الأحجار الكريمة، و استنارته تتمثل بمئات الشموع و المصابيح الكهربائية، و أرضه ذات بلاط مرمري جذاب يرتفع تدريجيا الي الحيطان من كل جوانب الحرم الشريف بما يقارب ثلاثة أذرع، حيث تتبع ذلك الزخارف و المرايا و قطع الزجاج الملون حتي يتصل بسقف الحرم الشريف، فاذا أنير بالكهرباء و قناديل الانارة، التمست الشعاع يصطدم بالشعاع، و النور يقترن بالنور، بما يسر الناظر، و تدخل روعته في الضمائر، و هذا الحرم الشامخ يحتضن في وسطه مشبكا فضيا دقيق الصنع، ينتهي في أعلاه الي زخارف فضية و ذهبية بأشكال متنوعة، و في داخله صندوقان ثمينان صنعا من الخشب الثمين الموصل بالعاج علي شكل مثلثات و مربعات و مخمسات، هذان الصندوقان وضعا علي قبري الامامين (عليهماالسلام) و قد وصف هذا المشهد قبل ثمانية قرون ابن خلكان فقال: «و عليه مشهد عظيم فيه من قناديل الذهب و الفضة، و أنواع الآلات و الفرش ما لا يحد» [4] .

و قد فرش الحرم الشريف بأنواع السجاد الايراني المعروف بنفاسته و دقته، و تحوط بالحرم أربعة أروقة من الجهات الأربع، تتصل بالشمال بالمسجد الصفوي، و علي يمين الداخل لها من الشرق ضريح صغير عليه مشبك فضي للشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان العكبري اشتمل علي



[ صفحه 257]



قبره و قبر أستاذه أبي جعفر بن قولويه. و علي يسار الداخل مما يلي الرأس الشريف ضريح في الرواق الغربي لنصيرالدين الطوسي، و هنالك في الأروقة حجر صغيرة في بناء هندسي جميل ضمت أضرحة العلماء و الأولياء و الأسر الكاظمية العريقة.

و المشهد يتوسط الصحن الكاظمي في سعته و روعته و فضائه الرحب، و تحيط به الغرف و الحجر من جوانبه الأربعة، و هي تتقلص من الجانب الشمالي بحسب هندسة البناء، و هذه الغرف كانت قد أعدت للزائرين، و من ثم كانت لطلاب العلم من الوافدين، و هي اليوم مقر لقبور العلماء و مشاهير الناس.

و للصحن الشريف أبواب متعددة، أهمها: ثلاثة أبواب من جهة القبلة، و بابان من الجهة الشرقية، و بابان من الغرب. أما الجانب الشمالي فقد التصق بعمارة الحرم الطاهر.

و حسبك في مشهد الكاظمين (عليهماالسلام)، أنه ملاذ الأمة، و كعبة الوفاد، و مجتمع المبتهلين و أهل الدعاء، حتي قال شيخ الحنابلة: أبوعلي الحسن الخلال.

«ما همني أمر فقصدت موسي بن جعفر فتوسلت به الا سهل الله تعالي لي ما أحب» [5] و قال الامام الشافعي: «قبر موسي الكاظم الترياق المجرب» [6] .

و قال عبدالباقي العمري:



لذ و استجر متوسلا

ان ضاق أمرك أو تعسر



بأبي الرضا... جد الجوا

د محمد... موسي بن جعفر [7] .





[ صفحه 258]



و قد وصف كاتب هذه السطور ضريح الامام وقبته الذهبية، كما أبان منزلة الامام و عظمته بقصيدة ستجدها بعد هذا البحث.

و عادة الاستجارة بمشهد الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) حقيقة روحية لدي المسلمين بعامة، لا يختلف بعائديتها اثنان مع تعدد المذاهب و المشارب حتي قال القائل في مدح يحيي بن جعفر [8] .



و في الجانب الشرقي يحيي بن جعفر

و في الجانب الغربي موسي بن جعفر



فذاك الي الله الكريم شفيعنا

و هذا الي المولي الامام المطهر



و ما هذا الا لتمكن حب الامام من قلوب العباد، و لتلك الكرامة الباهرة بقضاء حاجة من استجار به في الشدائد و الملمات.

و الحمد لله أولا و آخرا علي حسن توفيقه في اكمال هذا السفر، ذاكرا شاكرا مصليا علي النبي المصطفي و آله الطيبين الطاهرين.



[ صفحه 259]




پاورقي

[1] الشيخ الصدوق / كمال الدين 1 / 118، عيون أخبار الرضا 1 / 99.

[2] ظ: اليعقوبي / التأريخ 3 / 145، الطبري / التاريخ 8 / 271، الكليني / الكافي 1 / 186، المفيد / الارشاد / 339، الطوسي / التهذيب 6 / 81، الخطيب البغدادي / التأريخ 13 / 35، ابن خلكان / الوفيات 4 / 395.

[3] ظ: الكليني / الكافي 1 / 476، المفيد / الارشاد / 307، المناقب 3 / 437.

[4] ابن خلكان / وفيات الأعيان 4 / 395.

[5] الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد 1 / 120.

[6] بحرالعلوم / تحفة السالم 2 / 20.

[7] عبدالباقي العمري / الديوان / 133.

[8] ظ: باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 1 / 534.