بازگشت

المنزلة العليا


لم يكن حب الامام الصادق (عليه السلام) لولده الامام الكاظم (عليه السلام) عاطفيا، و لا تقييمه لمكانته أبويا، و التأكيد عليه اعتباطيا، و ان كانت العاطفة و الأبوة أمرا طبيعيا، و لكن الامام لا يصدر عنهما في النص أو الاشادة أو التقييم، و انما ينطلق فيما يفيض به من خلال التكليف الشرعي و الأداء الالهي ليس غير.

و هذه الظاهرة في السلوك لدي الامام الصادق ايديولوجية رسالية لا يحيد عنها في قول أو عمل أو اقرار، فهو حينما يصرح باستيلاء حب ولده الكاظم عليه بقوله:



[ صفحه 21]



«وددت أن ليس لي ولد غيره لئلا يشركه في حبه أحد...» [1] .

انما يعبر عن هدف آخر هو الاعلان بأنه الامام من بعده، و القائم بالأمر في الناس، و الحجة علي الخلائق، بدليل قوله لأوليائه: «قد وهب الله لي غلاما، و هو خير من برأ الله...» و قال لهم: «فدونكم، فوالله هو صاحبكم» [2] .

و روي المفيد أن الامام الصادق دعا ولده الامام الكاظم، و قال لمن عنده:

«عليكم بهذا بعدي، فهو و الله صاحبكم بعدي» [3] .

و هناك ما هو أكثر تفصيلا، و أقدم رواية، فعن علي بن جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد (عليهماالسلام) يقول لجماعة من خاصته و أصحابه: «استوصوا بابني موسي (عليه السلام) خيرا، فانه أفضل ولدي، و من أخلف بعدي، و هو القائم مقامي، و الحجة لله (تعالي) علي كافة خلقه من بعدي» [4] .

و هذه الابانة من الامام الصادق بحق ولده الامام انما تعني النص عليه، و اشهاد من يسمع علي ذلك، و تبليغ أوليائه به، و قد جمع الامام الصادق ولده، و قال لهم: «هذا وصي الأوصياء، و عالم علم العلماء، و شهيد علي الأموات و الأحياء» ثم قال: يا يزيد «ستكتب شهادتهم و يسألون» [5] .

و قول الامام للفيض بن المختار مشهور، و قد سأله عن الامام فأشار الي موسي بن جعفر و قال: «هذا صاحبكم فتمسك به» [6] .



[ صفحه 22]



و لقد روي النص علي امامته جماعة من أعيان أصحاب أبيه، منهم: أخوه علي بن جعفر، و اسحاق بن جعفر، و المفضل بن عمر الجعفي، و معاذ بن كثير، و عبدالرحمن بن الحجاج، و الفيض بن المختار، و يعقوب السراج، و سليمان بن خالد، و صفوان بن مهران الجمال، و حمران بن أعين، و أبوبصير، و داود الرقي، و يزيد بن سليط، و يونس بن ظبيان [7] .

و هذا التواتر مما أجمع عليه الامامية، و نضيف الي هؤلاء: منصور بن حازم، و ابراهيم الكرخي، و يزيد بن أسباط، و سلمة بن محمد [8] و سوي هؤلاء من الأعلام، مما استقرت عليه الامامية. و كان المجلسي قد أوفي بأكثرها [9] .

و هي متوافرة في كل من عيون أخبار الرضا، و الكافي، و بصائر الدرجات، و اعلام الوري، و كمال الدين، و قرب الأسناد، و ارشاد المفيد، و الاختصاص، و غيبة النعماني، و المناقب، و رجال الكشي، و كشف الغمة، و الفصول المهمة، و سواها من كتب السير و التواريخ.

و كان ترشيح الامام له مدعاة اعتزاز أتباع أهل البيت من العلماء و الفقهاء و المتكلمين و شرائح المجتمع كافة، لأنه صادر عن صادق القول، و كان جماع قوله في حق ولده علي وجه الاجمال ما تحدث به الصادق (عليه السلام) الي عيسي بن شلقان:

«يا عيسي ان ابني هذا الذي رأيت، لو سألته عما بين دفتي المصحف لأجابك فيه بعلم، ثم أخرجه ذلك اليوم بكتاب» [10] .



[ صفحه 23]



و مع كل هذا فقد اختلف سواد الناس بعد الامام الصادق (عليه السلام)، و رجع قسم منهم الي ولده عبدالله دون دليل نصي أو استقرائي أو شرعي.

و قد اختبر جماعة من أصحاب الصادق (عليه السلام) فيهم هشام بن سالم، و محمد بن النعمان حال عبدالله فلم يجدوه شيئا، طبق المواصفات الدقيقة للامام، فقالوا في بعض أزقة المدينة بعد خيبتهم: الي أين نتوجه؟ الي المرجئة؟ الي القدرية؟ الي المعتزلة؟ الي الزيدية؟ و اذا بمن يشير علي هشام باتباعه، فيوقفه عند منزل الامام الكاظم (عليه السلام)، و يشير عليه بالدخول، فيدخل، و يقول: «فدخلت فاذا أبوالحسن موسي (عليه السلام)، فقال لي ابتداء: الي الي، لا الي المرجئة و لا الي القدرية و لا الي المعتزلة و لا الي الزيدية، و لا الي الخوارج.

قلت: جعلت فداك؛ مضي أبوك؟ قال: نعم؛ قلت: مضي موتا؟ قال نعم؛ فقلت: فمن لنا بعده؟ قال: ان شاء الله أن يهديك هداك.

قلت: جعلت فداك، ان أخاك عبدالله يزعم أنه الامام بعد أبيه!!

فقال: عبدالله يريد أن لا يعبد الله.

قلت: جعلت فداك، فمن لنا من بعده؟ فقال: ان شاء الله أن يهديك هداك.

قلت: جعلت فداك، فأنت هو؟ قال: لا أقول ذلك.

فقلت في نفسي: اني لم أصب طريق المسألة.

ثم قلت له: جعلت فداك؛ أعليك امام؟ قال: لا.

قال هشام: فدخلني شي ء لا يعلمه الا الله (تعالي) اعظاما له و هيبة.

ثم قلت له: جعلت فداك؛ أسألك كما كنت أسأل أباك؟

قال: سل تخبر، و لا تذع، فان أذعت فهو الذبح.



[ صفحه 24]



قال هشام: فسألته، فاذا هو بحر لا ينزف.

قلت: جعلت فداك؟ شيعة أبيك ضلال، فألقي اليهم هذا الأمر؟ و أدعوهم اليك؟ فقد أخذت علي الكتمان.

قال (عليه السلام): من آنست منه رشدا، فألق اليه، و خذ عليه الكتمان، فان أذاع فهو الذبح، و أشار بيده الي حلقه.

قال هشام: فخرجت من عنده فلقيت أباجعفر الأحول. فقال لي: ما وراءك؟ قلت: الهدي، و حدثته بالقصة.

قال: ثم لقينا زرارة و أبابصير، فدخلا عليه، و سمعا كلامه، و سايلاه، و قطعا عليه، ثم لقينا الناس أفواجا، فكل من دخل عليه قطع بالامامة...» [11] .

و كان لا مناص للمسيرة الاسلامية - كما ألزم قائدها الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آله و سلم) - من جواد امام مفترض الطاعة في كل عصر و زمان حتي قيام الساعة، يكون هو الحجة علي الخلق، و يقتدي الناس به و يهتدون بهديه، و يستضيئون بنور علمه، و يتقربون الي الله بمعرفته المطلقة.

و تلفت المسلمون الملتزمون بأحكام دينهم - يمينا و يسارا - بحثا عن الامام الجامع الشرائط الشرعية المقررة في مواصفات الامامة و ضوابطها العامة و الخاصة، فلم يجدوا من تجتمع فيه تلك الضوابط و المواصفات الا الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) بل لم يكن من هو أهل لها غيره علي وجه الحصر و التعيين..» [12] .

و هذا الحصر و ذلك التعيين قد نبه اليه الامام الصادق (عليه السلام) كما رأيت، فهو الحجة علي أهل الأرض، بما انضمت عليه جوانحه من مآثر و معارف أشار اليها الامام الصادق بقوله:



[ صفحه 25]



«فيه علم الحكم، و الفهم، و السخاء، و المعرفة بما يحتاج الناس اليه فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم، و فيه حسن الخلق، و حسن الجوار، و هو باب من أبواب الله (عزوجل)...» [13] .

و هذ جماع ما عليه اشتراط الامام من سمات و مميزات.

و قد أجمع أصحاب السنن و الصحاح علي افتراض وجود امام باللازم من هذا الحديث الشريف:

«من مات و لم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية».

و قد قامت الدلائل علي امامة موسي بن جعفر من مصادرها كافة، و لم تكن مقتصرة علي أولياء أهل البيت، و انما نص عليه المعتدلون كافة.

فقد روي القندوزي - علي سبيل المثال - أن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) قد نص في تسميته للأئمة، و فيهم موسي بن جعفر، و ما نص عليه من الأوصياء من بعده، و منهم موسي بن جعفر الذي يدعي بالكاظم [14] .

هذا بالاضافة الي عشرات الأحاديث المستفيضة في النصوص المتوافرة علي تعيين أئمة أهل البيت حصرا، و ما سارت به الركبان من بشارته بذلك، و منها ما أخرجه الحافظ أبونعيم بسنده عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم): «من سره أن يحيا حياتي، و يموت مماتي، و يسكن جنة عدن غرسها ربي، فليوال عليا من بعدي، و ليوال وليه، و ليقتد بالأئمة من بعدي، فانهم عترتي، خلقوا من طينتي، و رزقوا فهما و علما، و ويل للمكذبين بفضلهم من أمتي، للقاطعين صلتي، لا أنالهم الله شفاعتي» [15] .



[ صفحه 26]



و هذه اللمحات العابرة تكفي للاستدلال علي ما نحن بصدده. أما التوسع في موضوع الامامة كلاميا، و موقعها من النظام الاسلامي، فقد تكفلت به بحوث سابقة أوردنا فيها رأي المسلمين [16] .

أما الامام موسي بن جعفر نفسه فقد قال لعلي بن صالح:

«ان الله لا يخلي أرضه من حجة طرفة عين أبدا، اما باطن و اما ظاهر، أنا حجة الله و حجته الباطنة... أنا المؤدي الناطق عن الرسول... أنا موسي بن جعفر» [17] .

و مهما يكن من أمر، فقد تسلم الامام قيادة الأمة، و هي قدره الالهي من الله (تعالي)، في ظروف سياسية غائمة، و حياة عقلية مضطربة، تمثل التقلب السياسي و العقائدي المرير، فقد انقسمت الأمة علي نفسها فئويا و مذهبيا نتيجة التخطيط السياسي الحاكم، و انقسم أتباع أهل البيت أنفسهم، فكان الأمر يدور بين الافراط و التفريط. و انقسم الحكام أنفسهم فيما بينهم، فبين قائل بابادة الأئمة و استئصالهم علنا، و بين من مهد لذلك بالسجن و الاستدعاء، و بين من فرض حدود الرقابة الصارمة، فكمت الأفواه، و خمدت الأنفاس، الا أن الثورات الدموية من هنا و هناك بددت مناخ الصمت حينا، و استبدلته بقعقعة اللجم و احتكاك الأسنة حينا آخر، فنتج عن هذا و ذاك ضبط و شماس، أدي الي الانكماش الاجتماعي من جهة، و الي الانهيار النفسي من جهة أخري.

و عاش الامام بين ذلك في رقابة و رصد و اعتقال، و لكن صفحته هي البيضاء في نظر التأريخ، و قد انجلت عن واقع مؤثر في الأحداث، فرغم



[ صفحه 27]



المنظور الضيق في التفكير و الارادة و التنفيذ لدي الطبقة الحاكمة، نجد الامام منفتحا في نظرته الشمولية الي الأمة، و الأمة في مناخ مرير لا تحسد عليه في البؤس و الحزن و الشقاء، حتي ليغيب الأمل المرتقب عن الميدان، و اذا بالامام يتقدم في خطواته المضادة للاتجاه السلطوي، فينقذ الأمة من التدهور و الضياع، و يرتفع بها تدريجيا الي مستوي الحياة المليئة بالأمل و التفاؤل، فيقضي علي التيار التشاؤمي العارم لدي كثير من الأحاسيس و العواطف المغالية بالانكماش و الكآبة، و هما داء قد استشري في عصر الامام حتي عاد داء العصر نتيجة افرازات مغرقة في الحيف و العسف و الاستبداد، فأدي الي التمزق الداخلي في صفوف الأمة، فتداركه الامام بقدراته الفائقة علي التغيير، فأعاد للأمة الاستقرار النفسي المفقود باذكائه الجذوة الكامنة في قرارة النفس الانسانية، فأفاقت مستيقظة علي هدير هذا الانبعاث الجديد الذي انتشلها من ذلك المستنقع الغارق بالتشاؤم و الخمول و الحزن السرمدي.


پاورقي

[1] الشبراوي الشافعي / الاتحاف بحب الأشراف / 54.

[2] الشيخ المفيد / الارشاد / 325.

[3] المجلسي / بحارالأنوار 48 /.

[4] المفيد / الارشاد / 326.

[5] المجلسي / البحار / 48 / 21.

[6] الاربلي / كشف الغمة / 3 / 11.

[7] ظ: ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 436.

[8] ظ: الكليني / الكافي 1 / 309، المجلسي / البحار / 48 / 12 - 28.

[9] ظ: المجلسي / البحار 48 / 12 - 28.

[10] المصدر نفسه 48 / 24 و انظر مصادره.

[11] الاربلي / كشف الغمة 3 / 14.

[12] محمدحسن آل ياسين / الامام موسي بن جعفر / 29 - 30 / بتصرف جزئي.

[13] المجلسي / بحارالأنوار 48 / 12 و انظر مصدره.

[14] القندوزي / ينابيع المودة / 441 - 443.

[15] أبونعيم / حلية الأولياء 1 / 86.

[16] ظ: المؤلف / موسوعة اهل البيت الحضارية / المجلد الخامس، الفكر الامامي من النص حتي المرجعية.

[17] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 419.