الامام في مرآة التأريخ
كان اللمعان الفكري المتألق في ذهنية الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) يضفي بأشعته الغامرة في نقلة للانسانية عبر مواصفات مثالية في السلوك و الأخلاق و الحياة و الاجتماع، و لم تكن أفكار الامام في هذا المنحني الفسيح غارقة في دنيا من المآثر الخارقة علي سبيل التحدي، و انما هي امتداد موضوعي للعقل المفكر الواهب، و ثمرة فعلية للحس العملي الذي نهد به الفكر الامامي من عهد أميرالمؤمنين (عليه السلام) حتي قيادة موسي بن جعفر نفسه.
و كان هذا التخطيط المنهجي في ذلك المناخ المتفجر الرهيب، قد أعطي نتائج مدهشة في الثبات الذي كاد أن يتلاشي و يذهب ضوؤه الخافت من الأعماق، و كان هذا الثبات مرتكزا في الاتكاء علي قاعدة صلبة تعني بعودة
[ صفحه 28]
الاستقرار النفسي بعد أن مني بالقلق و التمزق و الانفراط، و بذلك تحول المجتمع - رغم كل المعوقات - الي صورته الجديدة في الاعتداد بالشخصية بعد فقدان الأمل بالاصلاح و التوازن.
لقد كان الشعب المسلم يعاني من الغربة القاتلة في ظل الحكم العباسي الجاثم بثقله علي النفوس، و قد ينتابه شعور عارم رقيق أو كثيف بالكآبة المطبقة لما يشاهده من التدارك السفلي في القيم و الاعتبارات و التعامل العام، و هي صفحات تحكي عن اللون القاتم المميز للعصر بما أبقته لنا الوثائق المعتمدة، و ما أملته النصوص التأريخية المفعمة بالمآسي كصورة حقيقية تتحدث عن انحلال و انحطاط تلك الحقبة من الزمن الصعب، حتي لم يعد مسلم متحفز جاد ليتذوق طعم الحياة.
و بالرغم من أن التأريخ - و هو يكتب بلغة رسمية - قد ناصب العداء لأئمة أهل البيت عن قصد و عمد، لأنه بسبيل من ارضاء شهوة خلفاء الجور و ولاة السوء الذين يضطربون اضطرابا عنيفا لأية بادرة تؤكد التماع ذلك الأفق الرفيع في حياة أئمة أهل البيت، الا أن النصاعة لهذه الحياة في السيرة و السمت و العطاء قد أرغمت التأريخ علي الاقرار بالنتائج المذهلة التي حققتها في الميدان الاجتماعي حين فضحت أساليب الزيف و الدجل السياسي، و حين عصفت بتلك الكيانات الهزيلة و كشفت الأقنعة عن تلك الممارسات اللاانسانية، و ظهر من بين هذين ذلك الوجه المشرق للامام موسي بن جعفر (عليه السلام) و هو يتزعم تلك المهمة الصعبة، في حين تمتنع مصادر الهوس الديني من التفوه باسمه، فقد جذت الألسن عن الحديث حوله أو الاشارة اليه، فذلك من المحظور الذي لا يباح، و رغم هذه الضبابية و ذلك التعتيم، رأينا الامام موسي ابن جعفر (عليه السلام) يمثل الألق الهادي لسنن الطريق، فكان النجم المتألق شعاعا و نورا و قد عصف بالشبهات و الانحرافات، في صراع مرير.
[ صفحه 29]
و كانت ألسنة الخطف هي أقلام الحق فيما وصف به الامام، و كان التأريخ مع تجهمه العابس للامام قد أفلت منه كثير من الاعتراف و الاقرار بالواقع المشهود، و تلك سمة خاصة بأئمة أهل البيت، فهم و ان كتم التأريخ جل فضائلهم و مآثرهم، الا أنه ما استطاع أن يلوح بمنقصة واحدة في أي معلم من معالم أي امام، و ما ذاك الا لقرب الصلة مع الله (تعالي)، دون الاغترار بملحظ الرضا و الغضب في المشاعر القابلة لخيانة الذمم و اتباع العاطفة أو المصلحة في كتابة التأريخ.
و تأسيسا علي ما تقدم، فقد وجدنا العزل السياسي للامام موسي بن جعفر (عليه السلام) متقاطعا مع الأضواء المتلألئة ليقظة التأريخ في التحدث عنه، و هذا ما يفسر تلك الاشارات الرائعة عن شخصية الامام في سجل الخالدين، مما يعني أن التخطيط المتواصل لاقصاء أهل البيت سياسيا، لم يوفق لاقصائهم فكرا، و أن البعد عن السلطة و الحكم لم ينسحب طردا ليعزلهم عن القيادة و التشريع، و أن السلطان الدنيوي لم يستطع ان يطوح بالسلطان الديني الماثل.
و لقد كان ما منح به التأريخ الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) من السمات في المستوي الفكري و العلمي و العقلي و المعرفي و النفسي يفوق في مفرداته ما وصف به أساطين الاسلام وقادة الأمة، و معني هذا أن الامام قد اقتطع هذا المنح اقتطاعا عن ذمة التأريخ بين كل الدواعي القاضية باقصاء شبح الامام عن الأفق سياسيا و مذهبيا.
لقد قال التأريخ بمل ء فيه أن الامام (عليه السلام):
«كان أجل الناس شأنا، و أعلاهم في الدين مكانا، و أسخاهم بنانا، و أفصحهم لسانا، و أشجعهم جنانا، قد خص بشرف الولاية، و حاز ارث النبوة، و بوأ محل الخلافة، سليل النبوة، و عقيد الخلافة» [1] .
[ صفحه 30]
و النظرة التحليلية لهذا النص تقضي باختفاء الأجواء الضبابية المحيطة بتأريخ الامام، فهي تنتزع الصورة الحقيقية للامام انتزاعا، و هي تعني بالمنظور الصادق في الأداء و التعبير.
و ليس بالامكان التفرغ لتدوين ما كتبه التأريخ عن الامام بهذا الملحظ، فهو كثير جدا، و سبق اليه من تناول الموضوع، و لكني أقف منه موقفا وسطا، لا أتغافله و لا أستوعبه، و انما هو شي ء بين ذلك.
فقد قال ابن الصباغ أنه: «الامام الكبير القدر، و الأوحد الحجة الحبر» [2] و قال أيضا: «و أما مناقبه و كراماته الظاهرة، و فضائله و صفاته الباهرة، فتشهد له بأنه: افترع قبة الشرف و علاها، و سما الي أوج المزايا فبلغ أعلاها، و ذللت له كواهل السيادة فامتطاها، و حكم في غنائم المجد فاختار صفاياها، فاصطفاها» [3] .
و قال أبوحاتم - واصفا الامام - بأنه: «ثقة أمين صدوق» [4] و أضاف ابن تغري بردي أنه: «كان سيدا، عالما، فاضلا، سنيا، جوادا، ممدحا، مجاب الدعوة» [5] .
و قال ابن تيمية: «موسي بن جعفر مشهور بالعبادة و النسك» [6] .
و قال الشيخ المفيد: «و كان أبوالحسن موسي (عليه السلام) أعبد أهل زمانه، و أفقههم، و أسخاهم كفا، و أكرمهم نفسا» [7] .
و وصفه ابن طلحة الشافعي بأنه: «الامام الكبير القدر العظيم الشأن، المشهور بالكرامات» [8] أما الذهبي فقد أجمل القول - تارة - بأنه «الامام
[ صفحه 31]
القدوة» [9] و فصل القول شيئا ما بقوله: «كان موسي بن جعفر من أجواد الحكماء، و من العباد الأتقياء، و له مشهد معروف ببغداد» [10] .
و هنالك عشرات الشهادات في حق الامام (عليه السلام)، سردها الأستاذ باقر شريف القرشي، و تطلب من مظانها للباحثين عن المزيد [11] .
و التأريخ حينما يصور هذه اللقطات، فانما ينزع الي الموضوعية المحدودة بأقلام هؤلاء العلماء، و الا ففضائله أسمي رفعة، و أكثر عائدية، و أجل منزلة مما دونوه و أفادوه.
و الذي بهرني حقا أن أجد هارون الرشيد يغتصب نفسه اغتصابا، فيدلي برأيه في الامام - مضطرا - لولده المأمون، و قد دهش المأمون باحترام الرشيد للامام و تقديمه و تعظيمه، قال هارون: «يا بني: هذا امام الناس و حجة الله علي خلقه، و خليفته في عباده، أنا امام الجماعة في الظاهر و الغلبة و القهر، و انه و الله لأحق بمقام رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) مني و من الخلق جميعا، و الله لو نازعني في هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناه، فان الملك عقيم...
يا بني: هذا وارث علم النبيين، هذا موسي بن جعفر، ان أردت العلم الصحيح تجده عند هذا» [12] .
و لئن ذكر القدامي جزءا يسيرا من ملامح الامام القيادية و المرجعية. فقد أورد المحدثون شيئا من ذلك. و قد أورده أغلبهم اقتضابا، و مهما يكن من أمر، فان ما ذكره القدامي و المحدثون يعتبر تبلورا محدودا التصق بمرآة التأريخ فحكي توهجا لامعا في سيرة الامام و آثاره.
[ صفحه 32]
قال الدكتور زكي مبارك من رواد النهضة الحديثة في مصر: «كان موسي بن جعفر سيدا من سادات بني هاشم، و اماما مقدما في العلم و الدين» [13] .
و قال الأستاذ خيرالدين الزركلي: «موسي بن جعفر الصادق بن الباقر، أبوالحسن، سابع الأئمة الاثني عشر عند الامامية، كان من سادات بني هاشم، و من أعبد أهل زمانه، و أحد كبار العلماء الأجواد» [14] .
و قال الدكتور عبدالجبار الجومرد وزير الخارجية العراقية الأسبق:
«الامام الكاظم... كان ذا تأريخ حافل بالزهد و الورع و الكرم و دماثة الخلق، و قد لقب بالكاظم لأنه كان يحسن الي من يسي ء اليه» [15] .
و قال العلامة محمد أمين السويدي البغدادي:
«موسي الكاظم هو الامام الكبير القدر، الكثير الخير، كان يقوم ليله و يصوم نهاره، و سمي الكاظم لكثرة تجاوزه عن المعتدين» [16] .
و قال سيدنا الأستاذ السيد أبوالقاسم الموسوي الخوئي:
«موسي بن جعفر بن محمد: هو الامام السابع المنصوص علي امامته من قبل أبيه و أجداده الطاهرين، سلام الله عليهم أجمعين» [17] .
و قال السيد محسن الأمين الحسيني العاملي:
«الامام موسي الكاظم: روي عنه العلماء في فنون العلم من علم الدين و غيره، حاملا بطون الدفاتر، و ألفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة المروية عنه بالأسانيد المتصلة: و كان يعرف بين الرواة بالعالم» [18] .
[ صفحه 33]
و قال السيد هاشم معروف الحسني:
«كان أبوالحسن موسي بن جعفر يتابع رسالة آبائه في نشر العلم و الحديث و الأخلاق و الدفاع عن الاسلام، و روي عنه أصحابه آلاف الأحاديث في مختلف المواضيع... و قد روي عنه المحدثون في مختلف أبواب الفقه و غيره من المواضيع الاسلامية أكثر مما رووه عن غيره ممن جاء بعده من أئمة أهل البيت»
[19] .
و قال الشيخ باقر شريف القرشي:
«الامام موسي بن جعفر (عليه السلام)، فذ من أفذاذ العقل الانساني، و من كبار أئمة المسلمين، و أحد شموع ذلك الثقل الأكبر الذي أضاء الحياة الفكرية في الاسلام» [20] .
و قال الشيخ محمدحسن آل ياسين:
«نشأ الامام موسي بن جعفر في حجر هذا الأب العظيم (الامام الصادق) متفيئا ظلال شجرة النبوة و دوحة الامامة، حيث اختار الله موضع الرسالة و مختلف الملائكة و مهبط الوحي، و حيث استقر ملتقي رافدي السماء و الأرض، و اجتمع الثقلان اللذان لن يفترقا حتي يردا الحوض: كتاب الله و عترة الرسول. فكانت نشأة متميزة فذة لا يتسني مثلها الا لنظرائه من ذرية النبيين و سلالة المرسلين، فاذا هو منذ صباه: بحر مواج بالعلم، دفاق بالمعرفة، زخار بفقه الكتاب و حقائق الدين و أسرار الشريعة» [21] .
و بعد هذه الاضمامة من الأقوال العطرة الندية، أحسبني في غني عن القول: ان الامام موسي بن جعفر، أحد عمالقة الفكر الانساني، و النموذج الأرقي
[ صفحه 34]
لحضارة العقل البشري، شأنه بذلك شأن الأئمة المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.
پاورقي
[1] ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 437.
[2] ابن الصباغ المالكي / الفصول المهمة / 213.
[3] المصدر نفسه / 214.
[4] الذهبي / سير أعلام النبلاء 6 / 270.
[5] ابن تغري بردي / النجوم الزاهرة 2 / 112.
[6] ابن تيمية / منهاج السنة 2 / 124.
[7] الشيخ المفيد / الارشاد / 332.
[8] ابن طلحة / مطالب السؤول 2 / 61.
[9] الذهبي / سير اعلام النبلاء 6 / 270.
[10] الذهبي / ميزان الاعتدال 3 / 209.
[11] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 1 / 165 - 176.
[12] القندوزي / ينابيع المودة 3 / 32.
[13] زكي مبارك / شرح زهر الآداب 1 / 132.
[14] خيرالدين الزركلي / الأعلام 3 / 108.
[15] عبدالجبار الجومرد / هارون الرشيد 1 / 177.
[16] السويدي / سبائك الذهب / 73.
[17] السيد الخوئي / معجم رجال الحديث 19 / 44.
[18] الأمين الحسيني العاملي / أعيان الشيعة 4 / ق 3 / 37.
[19] هاشم معروف / سيرة الأئمة الاثني عشر 2 / 323.
[20] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 1 / 28.
[21] محمدحسن آل ياسين / الامام موسي بن جعفر / 18 - 19.