حلم الامام و كظمه للغيظ
و هذه مميزة أخري اتسم بها الامام، و هي مرتبة في ترويض النفس لا ينالها الا ذو حظ عظيم، و قد كان حظ الامام منها الأوفر، ألا و هي الحلم و كظم الغيظ، و ليس هذا شيئا جديدا علي الامام فقد عرف به في أدوار حياته كلها، حتي أصبح ذلك شعارا لاصقا به، و لقبا يتسابق مع اسمه الشريف في العلمية عليه، حتي قال ابن أبي الحديد عنه «موسي بن جعفر بن محمد، هو العبد الصالح، جمع بين الفقه و الدين و النسك و الحلم و الصبر» [1] .
و للامام في المشهد شواهد و أمثال و أحداث، ذكرها التأريخ في طياته، حتي عرف عنه أنه يحسن لمن يسي ء اليه، فقد ذكر السيد الأمين عن الخطيب البغدادي: «أن الامام موسي بن جعفر كان يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه فيبعث اليه بصرة فيها ألف دينار» [2] .
و حديث صراره في هذا الملحظ متواترة، حتي روي أبوالفرج بسنده عن يحيي بن الحسن، قال: (كان موسي بن جعفر اذا بلغه عن الرجل ما يكره، بعث اليه بصرة دنانير، و كانت صراره ما بين الثلثمائة الي المائتين الي المائة دينار، و كانت صرار موسي مثلا» [3] .
و الامام (عليه السلام) يكظم غيظه عن أعدائه حتي يعودوا أولياءه، و عن مبغضيه حتي يكونوا أحباءه، و له في ذلك أخبار حسان.
[ صفحه 40]
قال الشيخ المفيد بسنده، و كذلك الخطيب البغدادي عن جده عن أصحابه: «أن رجلا من ولد عمر بن الخطاب (رض) كان بالمدينة يؤذي أباالحسن موسي بن جعفر (عليه السلام)، و يسبه اذا رآه، و يشتم عليا (عليه السلام)، فقال للامام بعض جلسائه: دعنا نقتله، فنهاهم عن ذلك أشد النهي، و زجرهم أشد الزجر، و سأل عن العمري، فذكر له أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة. فركب اليه في مزرعته فوجده فيها، فدخل المزرعة بحماره... و نزل فجلس عنده، و ضاحكه و قال له:
كم غرمت في زرعك هذا؟
قال: مائة دينار.
قال الامام: فكم ترجو أن تصيب؟
قال: أنا لا أعلم الغيب.
قال الامام: انما قلت لك كم ترجو أن يجيئك فيه؟
قال: أرجو أن يجيئني مائتا دينار.
فأعطاه الامام ثلاثمائة دينار، و قال: هذا زرعك علي حاله، فقام العمري فقبل رأسه، و سأله أن يصفح عن فارطه، فتبسم اليه أبوالحسن (عليه السلام) و انصرف.
و ذهب الامام الكاظم الي المسجد فوجد العمري جالسا، فلما نظر الي الامام، قال: «الله أعلم حيث يجعل رسالته».
فوثب أصحابه فقالوا له: ما قصتك؟ قد كنت تقول خلاف هذا، قال: فخاصمهم و شاتمهم، و جعل يدعو لأبي الحسن موسي كلما دخل و خرج» [4] .
[ صفحه 41]
و من برامج حلم الامام و كظمه الغيظ: مداراته للناس، و ذلك ما يحتاج الي رحابة صدر، وسعة أفق، و انفتاح نفس، و له في ذلك أمثلة نابضة، و لعل من أطرفها: «أنه اجتاز بشر ذمة و فيهم ابن هياج فأمر بعض اتباعه أن يتعلق بلجام بغلة الامام و يدعيها، فمضي الرجل الي الأمام، و تعلق بلجام بغلته و ادعاها، فعرف الامام غايته، فنزل عن بغلته، و أعطاها له [5] .
و من أمثلة حلمه الرائعة ضم الحلم الي الكرم، و التجاوز عن أصحاب السيئات، و قد روي الكليني عن معتب قال:
«كان أبوالحسن موسي (عليه السلام) في حائط له يصرم، فنظرت الي غلام له قد أخذ كارة من تمر فرمي بها وراء الحائط، فأتيته فأخذته و ذهبت به اليه، فقلت: جعلت فداك؛ اني وجدت هذا و هذه الكارة، فقال للغلام: فلان، قال: لبيك، قال: أتجوع؟ قال: لا يا سيدي، قال: فتعري؟ قال: لا يا سيدي، قال: فلأي شي ء أخذت هذه؟ قال: اشتهيت ذلك. قال: اذهب فهي لك، و قال: خلوا عنه» [6] .
و قد يكون الحلم و كرم الأخلاق عسيرا في اللحظات الحاسمة، و قد يخرج المرء عن طوره في الاتزان عند الحرج، و لكن الامام في مثل هذا الموقع كان سيد الموقف، فقد روي ابن أبي الحديد المعتزلي:
«أن عبدا لموسي بن جعفر (عليه السلام) قدم له صحفة فيها طعام حار، فعجل فصبها علي رأسه و وجهه، فغضب فقال له:
«و الكاظمين الغيظ» قال الامام: قد كظمت.
قال: «و العافين عن الناس» قال: قد عفوت.
[ صفحه 42]
قال: «و الله يحب المحسنين» قال: «انت حر لوجه الله، و قد نحلتك ضيعتي الفلانية» [7] .
و أنت تري الامام في هذه الشواهد يصدر عن نفس مندمجة في معايير جديدة من الحلم و الكظم، فهو لا يكظم الغيظ فحسب، بل يتفضل و يعفو و يجود، فيخلق جوا نديا من المحبة و الألفة و السلام.
و الامام يقصد عامدا الي هذا المنهج، فقد جمع أولاده و أوصاهم:
«يا بني؛ اني أوصيكم بوصية من حفظها انفتح بها، اذا أتاكم آت، فأسمع أحدكم في الأذن اليمني مكروها، ثم تحول الي اليسري فاعتذر لكم، و قال: اني لم أقل شيئا فاقبلوا منه» [8] .
و الامام في هذا كله ينطلق من مفهوم قرآني بعيد النظر، قوي الأسر، و هو يطبقه فعلا، ليدعم القول بالعمل.
قال تعالي: (خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين) [9] .
و قال تعالي: (ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم) [10] .
و من أولي من عدل القرآن بتطبيق مبادي ء القرآن.
يضاف الي هذا كله؛ أن الامام يزين حلمه بالتواضع، و سيرته هذه بمكارم الأخلاق، و ذلك مسلك عرفاني له شواهده عند الامام.
أورد السيد الأمين عن تحف العقول: ان الامام مر برجل من أهل السواد، دميم المنظر، فسلم عليه و نزل عنده، و حادثه طويلا، ثم عرض
[ صفحه 43]
عليه نفسه في القيام بحاجته... فقيل الامام: يابن رسول الله، أتنزل الي هذا؟ ثم تسأله عن حوائجه، و هو أحوج اليك؟
فقال: «عبد من عبيدالله، و أخ في كتاب الله، و جار في بلاد الله، يجمعنا و اياه خير الآباء آدم، و أفضل الأديان الاسلام، و لعل الدهر يرد من حاجتنا اليه، فيرانا بعد الزهو عليه متواضعين بين يديه» [11] .
و هذا النحو من التواضع فيه نظرة فاحصة لأصول الأخوة البشرية في ضوء انسانية الاسلام، و فيه تلويح بأن بقاء الحال من المحال، فهذا الرجل المحتاج اليوم، قد يضطر الآخرون لاحتياجه يوما ما، و تلك نظرات قل من يدقق فيها منفتحا عليها كما صنع الامام (عليه السلام).
پاورقي
[1] ابن أبي الحديد / شرح نهج البلاغة 5 / 291.
[2] الأمين الحسيني العاملي / أعيان الشيعة 4 / ق 3 / 39.
[3] الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / 499.
[4] المفيد / الارشاد / 333، الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد 13 / 28.
[5] ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 /.
[6] الكليني / الكافي 2 / 108.
[7] محمدحسن آل ياسين / الامام موسي بن جعفر / 48 عن شرح النهج 18 / 46.
[8] ابن الصباغ / الفصول المهمة / 220، و قريب منه في كشف الغمة للاربلي 3 / 9.
[9] سورة الأعراف / 199.
[10] سورة فصلت / 34.
[11] الأمين الحسيني العاملي / أعيان الشيعة 4 / ق 3 / 41.