بازگشت

ظاهرة السخاء و الكرم النفسي


نظر الامام الي سرف أبي جعفر المنصور، و سرف ولده المهدي، و تبذير موسي الهادي، و مجون هارون الرشيد، و هم يتناوبون علي احتجان أموال المسلمين، و يمعنون بمصادرة أملاكهم، و حقوق الناس بأيدي الطغمة الحاكمة تدار بها الكؤوس و موائد القمار، و مجالس العبث و اللهو، فكان الامام بظاهرة سخائه يمثل ردة فعل لاستبداد العباسيين في بخلهم علي الآخرين، و جشعهم المفرط في الاستيلاء علي مصادر الغني و الثروة، فعمد الي انعاش الضعفاء، و ارفاد المحرومين، و اجراء الرزق علي أهل الفاقة، فسارت الركبان بأنباء كرمه الفياض، و تحدث الشعب المسلم عن أفضال هذا السخاء و العطاء. قال الشيخ المفيد: «و كان أوصل الناس لأهله و رحمه، و كان يتفقد فقراء المدينة في الليل، فيحمل اليهم الزنبيل فيه العين و الورق، و الأدقة و التمور، فيوصل ذلك، و لا يعلمون من أي جهة هذا» [1] .



[ صفحه 44]



و هذا منهج جديد في الاسرار بهذه الأعطيات، لتكون خالصة لوجهه الكريم، و لئلا يزري بالفقير فقره، و قد كفاه الامام ذلك. و لم تكن بين الامام و الفقراء أية وساطة، و انما هو معهم في قضاء حوائجهم وجها لوجه. فقد أورد الأستاذ باقر شريف القرشي: ان بعض الفقراء دخل علي الامام يسأله العطاء، فقال له الامام: لو جعل لك التمني في الدنيا، ما كنت تتمني؟

قال: كنت أتمني أن أرزق التقية في ديني، و قضاء حقوق اخواني، فاستحسن الامام جوابه، و أمر أن يعطي ألف دينار [2] .

و كان الامام في كرمه يقابل الألطاف بالاحسان، و الهدية بالعطاء الوفير، فقد أهدي اليه أحد العبيد في بعض أسفاره شيئا من الألطاف فقبلها الامام بقبول حسن، و سأل عن اسم العبد و مولاه، فوقف عليه.

فقال الامام لمولاه: «غلامك فلان تبيعه؟ قال له: جعلت فداك؛ الغلام لك و الضيعة، فاشتري أبوالحسن الضيعة و الرقيق بألف دينار، و أعتق العبد، و وهب له الضيعة...» [3] .

و أمثلة كرم الامام عديدة، و هدفها البر و الاحسان، و طبيعتها اغاثة الملهوف، و امدادها ذلك الحلال الخالص الذي ينتقيه الامام من طيب ماله و غلات مزارعه، و أراضيه الموروثة، و تلك موارد سليمة الأصل، و ربما افتقرت أن يعمل الامام بنفسه علي انمائها، و أن يتفقدها بذاته من أجل اعمارها؛ و قد يستغرب هذا من الامام مع توفر مساعديه و غلمانه من جهة، و مع جلالة قدرة و عظيم منزلته من جهة أخري، و لكنه العمل الذي يوجهنا



[ صفحه 45]



نحوه، و ليكون به قدوة تحتذي لأتباعه و أوليائه، فالعمل شرف لا يدانيه شرف. و عمل الامام لا يقلل من قيمته القيادية علي الاطلاق، بل يقربه من النفوس الوادعة المطمئنة، و يعلي منزلته في أنظار ذوي الهمم العالية.

روي علي بن حمزة قال:

«رأيت أباالحسن (عليه السلام) يعمل في أرض له، قد استنقعت قدماه في العرق، فقلت: جعلت فداك؛ أين الرجال؟

قال (عليه السلام): يا علي؛ قد عمل باليد من خير مني في أرضه.

فقلت: و من هو؟

فقال (عليه السلام): رسول الله (صلي الله عليه و آله) و أميرالمؤمنين (عليه السلام) و آبائي كلهم كانوا قد عملوا بأيديهم، و هو من عمل النبيين و المرسلين و الأوصياء و الصالحين» [4] .

فاذا علمنا أن للامام ضياعا موروثة، و أن بعض المزارع كانت بحيازته بالاحياء لأراضيها، و أن قسما منها تملكها بالشراء، علمنا مصدر هذا الكرم، و مورد هذا السخاء الرهيف [5] .

يقول الأستاذ الشيخ محمدحسن آل ياسين:

«و كلمة يجب أن تسجل هنا... تلك هي أن هذا الكرم الواسع الذي أصبحت صرره مضرب المثل، لم يكن بفضل ما يصل الامام من الأموال الشرعية من أتباعه و شيعته في شرق الأرض و غربها، لأن ايصال تلك الأموال لمستحقيها لا يعد كرما و جودا. و انما تجسد ذلك السخاء الثر و العطاء المغدق بسبب ما كان يصله من حاصل ضياعه و مزارعه التي دخلت في ملكه شراء أو ارثا من أسلافه» [6] .



[ صفحه 46]



و هنا نسجل ظاهرة يرددها المعنيون بسيرة الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) و هي ظاهرة صراره التي يضرب بها المثل حتي قيل:

«عجبا لمن جاءته صرة موسي فشكا القلة» [7] .

و معني هذا أن في صراره الغني و الاغناء، و في صلاته بها الكفاية و الثراء، و اذا دققنا النظر في قيمة الدينار الذهبي في عصره عرفنا مدي قيمة صراره بالصلات بالمائة و المائتين و الثلاث و الأربع حتي الألف من الدنانير، فهي تسبب لمن تصل اليه الغني بحدود معينة، و للامام في ذلك أخبار طريفة تقدم بعضها في موقعها من الرسالة شاهدا أو نموذجا.

قال الاربلي: «و ذكر جماعة من أهل العلم أن أباالحسن (عليه السلام) كان يصل بالمائتي دينار الي الثلاثمائة دينار، و كانت صرار موسي (عليه السلام) مثلا» [8] .

و روي عن محمد بن عبدالله البكري قال: «قدمت الي المدينة أطلب دينا فأعياني، فقلت: لو ذهبت الي أبي الحسن (عليه السلام) فشكوت اليه، فأتيته... و سألني عن حاجتي فذكرت له قصتي، فدخل و لم يقم الا يسيرا حتي خرج الي، فقال لغلامه: اذهب، ثم مد يده الي فدفع الي صرة فيها ثلاثمائة دينار...»

[9] .

فاذا علمنا أن ثمن الدار في عصر الامام أربعون دينارا كما يقول المؤرخون، عرفنا أن هذا المبلغ ضخم في حينه.

و من النماذج الراقية لكرمه الفياض ما حدث به عيسي بن محمد بن مغيث القرظي- و كان قد بلغ تسعين سنة حينما حدث بهذا الحديث -



[ صفحه 47]



قال: «زرعت بطيخا و قثاء و قرعا في موضع بالجوانية علي بئر يقال لها: «أم عظام» فلما بلغ الخير و استوي الزرع، بغتني الجراد فأتي علي الزرع كله، و كنت قد غرمت علي الزرع و في ثمن جملين: مائة و عشرين دينارا. فبينما أنا جالس طلع موسي بن جعفر بن محمد، فسلم ثم قال: ايش حالك؟ فقلت أصبحت كالصريم، بغتني الجراد فأكل زرعي، قال: و كم غرمت فيه؟ قلت: مائة و عشرين دينارا مع ثمن الجملين، فقال: يا عرفة؛ زن لأبي المغيث مائة و خمسين دينارا...

فقلت: يا مبارك، ادخل و ادع لي فيها، فدخل و دعا...

ثم علفت عليه الجملين و شيعته، فجعل الله فيها البركة، زكت فبعث منها بعشرة آلاف» [10] .

و كان الامام (عليه السلام) يتصدق بالمزارع و الضياع و البساتين، و يوقف بعضها علي ذريته من بعده، و قد جمع روايات ذلك و أشار اليه الأستاذ محمدحسن آل ياسين [11] .

و هذا أيضا يضاف الي قاموس كرم الامام و فيضه الزاخر. و لنا أن نتساءل عن هذه النفس الكريمة في العطاء و الايثار، كيف اندفعت هذا الاندفاع لاحياء النفوس، و بعث الأمل في القلوب البائسة و المنكوبة؟ و الاجابة عن هذا لا تحتاج كثير تأمل أو طول تفكير، فما يصدر عن الامام في هذا الصدد نابع من مفاهيم انسانية عليا سبق لها آباؤه و أجداده، و لا حاجة بنا أن نذكر أن الامام الحسن بن علي أميرالمؤمنين (عليه السلام) كان يوصف بأنه (كريم أهل البيت) و هذا أشهر من أن يذكر، و لا كبير جهد لدينا أن نعتبر هذا الجود الغامر من صميم المفردات



[ صفحه 48]



الانسانية التي طرحها الامام بحيث اعتبر ذلك مثالا لشجرة في الجنة فقال: (السخاء شجرة في الجنة، و أغصانها في الدنيا، فمن تعلق بغصين منها أدته الي الجنة. و البخل شجرة في النار، و أغصانها في الدنيا، من تعلق بغصن منها أدته الي النار) [12] .



[ صفحه 49]




پاورقي

[1] الشيخ المفيد / الارشاد / 333.

[2] باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر 1 / 154 و انظر مصدره.

[3] ظ: الخطيب البغدادي / تاريخ بغداد / 13 / 29 - 30، محمدحسن آل ياسين / الامام موسي بن جعفر / 51.

[4] الكليني / الكافي 5 / 75، المجلسي / البحار 48 / 115.

[5] ظ: الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد 13 / 28، ياقوت / معجم البلدان 5 / 23.

[6] محمدحسن آل ياسين / الامام موسي بن جعفر / 51.

[7] ظ: المجلسي / بحارالأنوار / 48 / 104 و 108.

[8] الاربلي / كشف الغمة 3 / 21.

[9] المصدر نفسه 3 / 20.

[10] الخطيب البغدادي / تاريخ بغداد 13 / 29، الذهبي / سير أعلام النبلاء 6 / 272.

[11] ظ: محمدحسن آل ياسين / الامام موسي بن جعفر / 51 - 52.

[12] الشيخ المفيد / الاختصاص / 252 - 253.