بازگشت

نموذج تاريخي امامي للاستخدام الفعال للتاريخ


استخدم الامام الكاظم عليه السلام عنصر التاريخ و المادة التاريخية السابقة لعهده في مجال السياسة و الفكر، و مجال الوعظ و الارشاد (التبليغ)، ولكن قبل أن ندخل الي طبيعة هذا الاستخدام نتساءل: لماذا أدخل الأئمة عليه السلام، بشكل عام، عنصر التاريخ في أحاديثهم الوعظية و خطبهم أو كتبهم السياسة و الفكرية؟ في الحقيقة. لقد حاول الأئمة عليهم السلام النفاذ الي أعماق التجارب التاريخية التي مرت بها أمتنا لا سيما علي صعيد الحكم و السياسة و الوعي الثقافي التغييري، و وضعوا عليهم السلام علامات استفهام عميقة أمام كل المراحل التاريخية السابقة لهم من حيث مدي علاقتها أو عدم علاقتها بالانتماء الاسلامي الأصيل من الجو الذي نشأت و نمت في أرضه، و عن نوعية النتائج التي حصلت من جراء حدوث هذه الواقعة أو انطلاقة تلك الحركة من حيث اتصالها بالمفاهيم و القيم الاسلامية أو ابتعادها عنها، كل ذلك يندرج تحت عنوان واحد هو وعي التاريخ الذي عاشته التجربة الاسلامية في طريق التعرف علي مشاكل و تحديات الاسلام الحاضرة بهدف تأسيس الواقع علي أطروحة قيادية عقلانية تأخذ بعين الاعتبار المصلحة الاسلامية العليا فقط، و ربما يمكن أن نفهم ذلك بشكل أكبر من خلال استعراضنا - في سياق بحثنا و متابعتنا لطبيعة الوعي التاريخي عند امامنا الكاظم عليه السلام للمثالين التاليين:

المثال الأول: في دعوته عليه السلام الي ترسيخ الثورة في وعي الأمة



[ صفحه 34]



الاسلامية و في وجدانها و ذهنيتها العامة من خلال استحباب زيارة الامام الحسين عليه السلام يقول الكاظم عليه السلام: «أدني ما يصاب به زائر الحسين بشط الفرات، اذا عرف حقه و حرمته و ولايته، أن يغفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر» [1] .

يؤكد الامام الكاظم عليه السلام، في هذا الحديث، علي ضرورة زيارة الامام الحسين عليه السلام الذي عاش و استشهد قبله بعدة عقود، و ذلك من أجل ترسيخ الحالة التفاعلية و التواصلية الايجابية مع الثورة الحسينية ليكون لها حضور تاريخي مكثف بأهدافها و تطلعاتها الانسانية العادلة في كل المواقع الفكرية و النفسية للأمة المؤمنة بخط الثورة و أهدافها المشروعة.

ان حض الكاظم عليه السلام الناس علي زيارة الحسين عليه السلام، كبعد تاريخي فعال، يراد - من خلاله - تأصيل الوعي الثوري للتاريخ، و تعميق الروح الاستشهادي الجهادية في نفوس الكتلة المؤمنة.

المثال الثاني [2] : حينما سأل هارون [3] الامام الكاظم عليه السلام عن فدك و حدودها لكي يرجعها اليه، فأبي عليه السلام أن يأخذها الا بحدودها، فقال هارون: ما حدودها؟ فقال عليه السلام: «ان حددتها لم تردها»، فأصر هارون عليه أن يبينها له، و لم يجد الامام عليه السلام بدا من اجابته، فقال له: «أما الحد الأول فعدن» فلما سمع هارون ذلك تغير وجهه، و استمر الامام عليه السلام في بيانه قائلا: «و الحد الثاني سمرقند» فأربد وجه هارون، و استولت عليه موجة من الغضب الهائل، ولكن الامام عليه السلام استمر قائلا: «و الحد الثالث أفريقيا» فاسود هارون و قال بنبرات تقطر غيظا «هيه» و انطلق الامام يبني الحد الأخير قائلا «و الحد الرابع فسيف البحر ما يلي الجزر و أرمينية»، فثار الرشيد، و لم يملك أعصابه



[ صفحه 35]



قائلا: و لم يبق لنا شي ء، فأجابه الامام: «قد علمت أنك لا تردها» [4] .

اننا نلاحظ - من خلال هذا النص - أن الامام الكاظم استعان بعنصر التاريخ لا كمؤرخ لأحداث و انما باعتباره صاحب رسالة و عقيدة و فكر، و لم يكن يستخدم التاريخ كمادة و عظية فقط، و انما كان يستهدف منه النقد السياسي و التربية السياسية لمجتمعه و التوجيه الحضاري لأمته، ليعطي لقضية الاسلام الفكرية حرارة و حياة، و ليجعل لأطروحة أهل البيت عليهم السلام حركة و معني فاعلا في مدي الزمان و في عمق الانسان نفسه، و من خلال رفضه اغتصاب حق التاريخ و الفكر و الرسالة لصالح نزعات و أهواء و مصالح شخصية.

لقد اعتبر الامام عليه السلام، من خلال وعيه لحركة التاريخ، أن هارون و أسلافه غاصبون للخلافة و مختلسون للسلطة و الحكم، الأمر الذي أثار غضب هارون عليه و أغلظ في كلامه علي الامام عليه السلام بعد أن سمعه يتحداه بموقف لا لين فيه، و هو عليه السلام يريدنا، نحن، أن ننفتح بوعي علي كل تلك المواقف و الأدوار و الحوادث التي انطلقت في ذلك العهد، لندرسها و نأخذ منها العبرة اللازمة و نستلهم، من خلالها، المعايير و الضوابط التي تساعدنا قي حل بعض تعقيداتنا المعاصرة. انها أسئلة و مواقف في التاريخ قد نطالع، في كثير من تفاصيل أجوبتها و أبعادها، الوجه الآخر الحقيقي لطبيعة مشاكلنا المثارة حاليا.

علي ضوء هذا الفهم الشمولي و الاستيعابي لحقيقة الجوهر و المضمون التاريخي المنتج و الفاعل، نتساءل: ما هي الأمور التي استطاع هذا الوعي أن يحققها علي صعيد الدور التاريخي الهام الذي لعبه امامنا الكاظم عليه السلام في عملية التغيير الاجتماعي علي مستوي وعي الأمة؟!.

يمكننا ايجاز الاجابة في النقاط التالية:

1- أعاد هذا الفهم للأمة حقها في ممارسة النقد الايجابي.



[ صفحه 36]



2- وعت الأمة حقيقة السلطة و الحكم في الاسلام من خلال معرفتها لحدود الدائرة الواسعة أو الضيقة التي يمكن للخليفة التحرك ضمنها.

3- تعميق الشعور و الاحساس بالمسؤولية لدي الأمة تجاه قيم و مبادي ء الاسلام.

4- محاولة (اعادة) تصحيح المفاهيم الخاطئة و الظالمة التي كانت تلف طبيعة الحكم و السلطة السياسية و توزيع الثروات و الأموال لتشمل أبوابا واسعة أخري.

5- احباط محاولات السيطرة علي عقل الأمة و تزييف وعيها و ارادتها، و تبيان حقائق الأمور في اطار رسالة الاسلام.

6- توضيح مبدأ أساسي و هو أن قيمة الخليفة في الاسلام مرهونة بمدي خدمته للناس و تمسكه بمبادي ء الاسلام الصحيحة.



[ صفحه 37]




پاورقي

[1] كامل الزيارات (ص: 50 باب: 43).. ثورة الحسين في الوجدان الشعبي للعلامة الشيخ: محمد مهدي شمس الدين (ص: 66 - 65).

[2] المناقب، ج: 2، (ص: 381).

[3] جاء في بعض المرويات أنه المهدي العباسي. و لا فرق - في نظرنا - بينهما لأن هذا العمل يمكن أن يصدر عن كليهما.

[4] نفهم من كلمة الكاظم عليه السلام في هذا المجال أن السيدة الزهراء (ع) عليهاالسلام عندما طالبت باعادة فدك، فلأنها كانت (و لا تزال) تمثل رمز و عنوان المطالبة بحق علي (ع) في الولاية، و لم تكن تمثل بالنسبة اليه قطعة أرض فقط.