بازگشت

الزمر بين التقديس و الروح العلمية المجردة


نعلم جميعا أنه يوجد في تاريخ كل شعب من الشعوب أشخاص يحيطهم بهالة من التقديس، و الاجلال، و الاحترام، و الهيبة، و يجعلهم نماذج راقية يتطلع نحوها باستمرار، و ينسج حولهم الكثير من القصص و الروايات و الحكايا تختلط فيها أساطير الخيال بوقائع الأرض.

أما في تاريخنا الاسلامي فاننا نجد أن هناك كثيرا من تلك الشخصيات و الرموز المقدسة التي اختلطت وقائع حياتهم بما نسجته مخيلة الناس عنهم و حولهم من أساطير و خرافات، يصعب علي المرء أن يميز فيها الخيط الأبيض من الخيط الأسود (الواقع من الخيال) [1] ، كما و نجد، في الوقت ذاته، أشخاصا و رموزا مقدسة معروفة بوقائع حياتها، و بأفكارها، و مآثرها، و ابداعاتها.

و الباحث في مجال تاريخنا الاسلامي يلاحظ أن التقديس و التبجيل الذي تكنه الأمة لبعض رموزها و عناوينها الكبيرة يرتكز علي أحداث و وقائع تاريخية ملموسة، مارس فيها الشخص المقدس أدوارا معروفة، و التزم بمواقف حاسمة ساهمت في انتاج، و بلورة، و صياغة قيم الاسلام و مبادئه و أنساقه الحضارية، و حققت للأمة الكثير من نجاحاتها و انتصاراتها، و عملت علي انهاضها من كبواتها و سكناتها السياسية و الفكرية، و الامام موسي بن جعفر الكاظم عليه السلام أحد هؤلاء الأعلام و الرموز العظيمة التي جاءت قيمتها و قدسيتها و عظمتها انطلاقا من الدور التاريخي الحيوي و الهام الذي قام و مثلته الأحداث، و النصوص، و المواقف في تكوين عناصر شخصيته و بلورة معالم صورته.

ان اعتقاد بعض المسلمين بقدسية الامام عليه السلام ليس مانعا من انجاز



[ صفحه 10]



الدراسة العلمية و الموضوعية للتاريخ الذي مارسه و المواقف التي التزمها، لأنه عليه السلام كان يريد للناس أن يفهموا أنه انسان مثلهم يخضع، كما يخضعون، للسنن التاريخية الالهية في كل تصرفاته و أحواله، بما فيها تصرفاته و أفعاله المعرفية الاستدلالية.

ان احترامنا لشخصية الكاظم عليه السلام ينبني علي الحقيقة الموضوعية العميقة و الدقيقة و المجردة عن النزعات و الأهواء الذاتية، مع ضرورة الأخذ بمبدأي السببية و الحتمية [2] ، لفهم وقائعها و أحداثها و أعمالها التي قامت بها، و التوجه الي العقل و المنطق، بعيدا عن العاطفة و الخيال، و هذه الطريقة [3] في و عي الشخصية المقدسة، تستهدف أساسا المعرفة و التأسيس العقلاني لمستقبل الأمة في سعيها الحثيث لبناء حاضر أفضل و غد واعد مشرق من خلال تنقية أجوائها التاريخية و تأسيس هويتها العقائدية و الحضارية و الدفاع عنها و الحفاظ عليها.



[ صفحه 11]




پاورقي

[1] يمارس هذا الاتجاه، المتفشي بكثرة في واقعنا، أساليب و طقوس التقديس للنبي (ص) و للأئمة (ع) دون أي احترام للرسالة و قيمها و مبادئها... أي أنهم يقدسون الشخصية الي حد الغلو و التطرف، و بالمقابل يغيبون منهجها و دورها و رسالتها.

[2] نحن لا نريد، من خلال ذلك، أن نلغي الاحترام و التقديس للشخصيات التاريخية و ما له من فاعلية و تأثير في شحن النفوس و الهمم و اثارة العزائم و الارادات لدي الجماعات المختلفة في صناعة الحدث و المرغوب في حدوثه و انجازه، و هذا ما تأسست عليه المقاومة الاسلامية المباركة في لبنان التي استعادت بعض مقدسات التاريخ (بأحداثه و رموزه: كربلاء مثلا) لا للتعويض عن امكانات و اجتراح البطولة في مجتمع ساكن و خال من البطولات، ولكن لتهيئة التربة المناسبة لاحترام البطولة الفذة بالفعل في الظرف الصعب و القاهر و اتمام الحركة الفاعلة في خط البناء و التغيير، و قد نجحت هذه المقاومة الجهادية و الفكرية بجدارة حتي الآن، و أثبتت أنها أمل الأمة و رقمها الصعب المستصعب في زمن الاذعان و الهيمنة و الاستسلام.

[3] و هي طريقة «الثابت الموضوعي» التي تقوم علي أساس تحويل لغة التاريخ و أحواله العامة الي لغة حية متحركة، تستنبط من خلالها القواعد و السنن التاريخية المهيمنة علي مجريات الواقع و أحداث الحياة المتنوعة، علي صعيد ملاحظتها، و دراستها، و تحليلها، و تركيبها، و اكتشاف ضوابطها العلية و المعلولية كمرحلة من مراحل المسيرة الانسانية نحو أهدافها الكبيرة في الحياة.

انها باختصار طريقة علمية معرفية تدرس التاريخ، برموزه و أفكاره و شخصياته، دراسة استقرائية غائية من خلال ايمانها بضرورة تنقية أجوائنا التاريخية من التراكمات الذاتية و الشعاراتية في أطار التعامل معها بلغة المنطق و العقل (لكل ظاهرة سببها الطبيعي).