بازگشت

ممارسة الاصلاح الاجتماعي و محاولة رفع المعاناة و غائلة الظلم عن الناس


اتفق المؤرخون علي أن الامام الكاظم عليه السلام كان من أكرم و أجود أهل زمانه [1] ، و قد نذر حياته للدين و خدمة المجتمع و تربية الناس علي قيم و مبادي ء



[ صفحه 54]



الاسلام الخيرة، و بالنظر الي الحركة الاقتصادية في عصر الامام عليه السلام، فاننا نجد أنها كانت مضطربة و شبه مشلولة بالرغم من مظاهر الترف و الغني التي كانت مقتصرة، علي حد ما يروي المؤرخون، علي أفراد السلطة الحاكمة و أعوانهم و حاشيتهم.

لقد تفردت الفئة الحاكمة ليس بالسلطة السياسية فحسب، بل و استأثرت أيضا بالانفاق السخي من خزينة الدولة علي مظاهر البذخ و الترف، الأمر الذي قسم المجتمع الي مستويات طبقية متعددة بعضها غني يملك كل شي ء، و الآخر فقير لا يملك أي شي ء. كما و دخل المجتمع، علي أثر ذلك، في دهاليز مظلمة جديدة من القهر و المعاناة و البؤس و الحرمان.

و في سياق مواجهة هذا الواقع الاقتصادي الظالم و المنحرف؛ عمل الكاظم علي زرع روح التربية الاسلامية الصحيحة بين النفوس التي أضناها القلق و التعب و الارهاق النفسي الناتج عن التفكير المتواصل بسد رمق الحياة و العيش البسيط.

ان ممارسة الامام عليه السلام لهذا النمط من الحراك الاجتماعي يعكس وعيه العميق لأهمية الجانب الاقتصادي و الاجتماعي من مواقع الدعوة و العمل الرسالي، كما و يؤكد - في الوقت ذاته - مدي حرصه عليه السلام علي المسلمين كأمة لها وجودها و مشروعها الذي لا تهزه العواصف و لا تسقطه التحديات، لذلك كان عليه السلام يعمل باستمرار علي بث عوامل الاستقرار في المجتمع، من أجل تحصين الأمة من عناصر الاهتزاز الداخلي و الخارجي في ظل هذه الأجواء النفسية الضاغطة علي الفرد و الأمة، و ننقل هنا بعض الروايات التي تظهر الحرص الشديد للامام عليه السلام علي رفع غائلة الظلم الاقتصادي و الاجتماعي عن



[ صفحه 55]



الناس بحسب الامكانيات التي توافرت آنذاك.

- روي البغدادي في تاريخه [2] عن محمد بن عبدالله البكري، قال: قدمت المدينة أطلب بها دينا فأعياني، فقلت: لو ذهبت الي أبي الحسن موسي بن جعفر و شكوت اليه ذلك، فأتيته في ضيعته، فابتدأني بالسؤال عن حاجتي، فذكرت له قصتي، فدخل الي بيته و خرج منه مسرعا، و قال لغلامه: اذهب، فلما ذهب الغلام مد يده و دفع لي صرة فيها ثلاثمائة دينار فركبت دابتي و انصرفت.

اننا نلاحظ - في تحليلنا لحركية الامام الكاظم علي هذا المستوي - وجود اتجاه انساني عميق ممزوج بنفحات عرفانية متألقة [3] ، في معالجته لبعض الظواهر الاقتصادية يحاول، من خلاله توعيتنا بضرورة الانفتاح علي مبادي ء الاسلام، ليكون عندنا جيل اسلامي واع و مؤمن برسالته و دورها الحضاري الرائد في بناء حياة الانسان، في تعزيز قيمه المعنوية والأخلاقية في ممارسات و أفعال المسلمين [4] .

- قال عيسي بن محمد بن مغيث القرطبي: زرعت بطيخا و قثاء في موضع بالجوانية علي بئر يقال لها (أم عظام) فلما قرب الخير و استوي الزرع بغتني الجراد فأتي علي الزرع كله، و كنت غرمت علي الزرع في ثمن جملين مائة و عشرين دينارا، فبينما أنا جالس اذ طلع موسي بن جعفر بن محمد فسلم ثم قال: «أي شي ء حالك؟» فقلت: أصبحت كالصريم، بغتني الجراد فأكل زرعي، قال: «و كم غرمت فيه»؟ فقلت: مائة و عشرين دينارا مع ثمن الجملين، فقال: «يا عرفة زن لأبي المغيث مائة و خمسين دينارا، فربحك ثلاثون دينارا و الجملان»، فقلت: يا مبارك ادخل و ادع لي فيها بالبركة، فدخل و دعا و حدثني



[ صفحه 56]



عن رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم أنه قال: تمسكوا ببقايا المصائب، ثم علقت عليه الجملين و سقيت، فجعل الله فيها البركة و زكت، فبعت منها بعشرة آلاف [5] .

في الواقع، انني لا أجد مانعا من أن أقول: ان تلك المواساة للناس و المشاركة في مصائبهم، هي دأب الامام الكاظم عليه السلام و أخلاقه نهلها من جده اميرالمؤمنين علي عليه السلام عندما قال: «أأقنع من نفسي بأن يقال اميرالمؤمنين، و لا أشاركهم في مكاره الدهر؟ أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش» [6] .


پاورقي

[1] كان من خصائص أئمة أهل البيت (ع)، عموما، البر و الاحسان الي كافة الطبقات و الشرائح الاجتماعية، و كانوا يخصون الطبقة المستضعفة بجزيل فضلهم و عطاياهم، حتي اشتهروا عليهم السلام بالتطواف في الليالي علي بيوتات الفقراء و المساكين بالأغذية و النقود و هم لا يعرفونهم فكان ذلك من منهجهم الأخلاقي و الاصلاحي الرفيع. جاء في تاريخ بغداد للخطيب أن الكاظم عليه السلام كان سخيا كريما يصر ثلاثمائة دينار و أربعمائة دينار و يخرج بها ليلا علي بيوت المحتاجين و كان يضرب المثل بصراره، [راجع تاريخ بغداد: 13 / 28].

[2] تاريخ بغداد: 13 / 28، كشف الغمة: 247، أعيان الشيعة: 4 ق 3 / 42.

[3] و هذا النمط السلوكي الروحي الراقي ليس ببعيد عنه عليه السلام باعتباره معلما فريدا و أنموذجا حيا للزاهد و العارف و العابد.

[4] وجع الحرية، م. س. (ص: 37).

[5] أعيان الشيعة 4 ق / 2 / 44، كشف الغمة: 243، تاريخ بغداد: 13 / 29.

[6] نهج البلاغة 3 / 81.