بازگشت

في المجال الحضاري و الثقافي


من المعروف أن الغرب يلتزم ثقافته و نمطه السلوكي الحضاري كمعيار حقيقي في أي مجال من مجالات العمل و الابداع، و بذلك فهو يلغي دور الثقافات الأخري و منها الثقافة الاسلامية و لا يفسح لها المجال للانفتاح و التفاعل و التواصل مع الآخر [1] بثقافته و نظامه المعرفي علي قاعدة التماثل،



[ صفحه 69]



و وفقا لقوانين التكامل الخاصة بحضارة وثقافة الاسلام؛ الأمر الذي يمكن أن يفتح سبلا للتعاون مختلفة - اذا ما أثمرت جهود التفاعل و التلاقح الفكري - في مجال تصحيح الوضع الانساني و الأخلاقي، خاصة و أن الحضارة الغربية تنطلق من جذور مادية في ثقافتها و ليس من جذور مسيحية، و ذلك بالعودة الي الفطرة الانسانية النقية و الطاهرة في مسألة الايمان الديني، في اعادة الاعتبار للقيم الأخلاقية في مجال الأسرة و المجتمع و الاقتصاد و العلاقة مع الذات و مع الطبيعة.

و لا شك أن هناك صعوبات كبيرة تقف عائقا أمام البدء بحركة حوار حضاري مع الغرب خاصة علي الصعيدين التاريخي و الواقعي (العصري).

فعلي الصعيد الأول (التاريخي): نلاحظ أن هناك تاريخا تصادميا مروعا بيننا و بين العالم المسيحي لا سيما في أعقاب الحروب الصليبية. حيث نشأت، بعدها، و نمت حالة من الشك و عدم الثقة بين المسيحيين و المسلمين، تحولت عبر الزمن الي ترسبات و كتل جامدة سادت الأذهان في كلا العالمين (الاسلامي و المسيحي)، ساهم حشد كبير من المستشرقين في تعميقها و ترسيخها في حركة الواقع آنذاك.

أما المعوق الثاني (العصري الراهن): فيتمثل - كما ذكرنا - بالاستعمار الجديد نفسه، الذي انطلقت جحافله لتغزو العالم كله، تحقيقا لمصالحها الاقتصادية و السياسية، و لبلوغ ذلك الهدف أباحوا لأنفسهم استخدام كل السبل و الوسائل و الأدوات، و منها اثارة تعقيدات التاريخ في الأذهان، ليس فقط للابقاء علي الخلافات و الأحقاد بين المسلمين، بل أيضا لاثارة هذه الخلافات من زوايا عدة علي نطاق واسع ليتمكن المستعمرون، في ظل الخلافات و النزاعات، من الوصول الي مصالحهم غير المشروعة [2] ، و لا ننسي، و نحن نتحدث عن معوقات حوار الحضارات، أن نمر علي الحرب العالمية التي تقودها دول الاستكبار العالمي - و في مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية



[ صفحه 70]



و دول أوروبا الغربية - ضد الاسلام الحركي التحرري، حيث تعمل (تلك الدول) علي محاصرة معتنقيه في مواقعهم و مواقفهم بشتي السبل، المباشرة و غير المباشرة، من أجل اضعافهم و تقييد حركتهم و اسقاط مصداقيتهم، و مصادرة حرياتهم و تشويه معالم صورتهم [3] بمختلف الأساليب الاعلامية و الأمنية و الثقافية و الدينية.

ازاء هذه التحولات السريعة و المتلاحقة في واقع الحياة المعاصرة، نتساءل: كيف يجب أن يتعامل الفكر العربي و الاسلامي الراهن مع هذا الواقع الموضوعي؟ و ما هي آليات تطويره كي يصبح قادرا علي مواكبة و مسايرة قضايا العصر؟!

مما لا شك فيه أن العالم يشهد تحولات جذرية بدأت تأخذ، منذ قترة، أبعادها السياسية الواقعية، علي صعيد الأسس التي تتحرك من خلالها القضايا و الأمور في مختلف الدول و خصوصا دول العالم الثالث، و منها بلداننا العربية و الاسلامية.

يجب أن نعترف أول الأمر أن واقعنا الحالي هو واقع الهزيمة، و أن آخر تجليات هذه الهزيمة يتجسد في ما يفرض علي الأمة من مسارات تفاوضية استسلامية مع عدوها التاريخي اللدود ضمن موازين قوي ذاتية و اقليمية و دولية تميل لصالح العدو، و ستنتهي حكما الي الاستسلام، و الاذعان لهذا العدو، لا علي النحو الذي تكون حصيلته خسارة معركة واحدة مع العدو، ثم ينتهي الأمر «و كفي الله المؤمنين القتال»، بل علي النحو الذي يفتح مسارا جديدا و لا يتوقف في تقديم التنازلات و التراجعات التي ستمكن هذا العدو من التحكم، مستقبلا، بكل موازين القوي الضامنة لاستمرار الخلل في مشروعه، و بما يضع عقبات و عراقيل حقيقية في مواجهة أي مشروع نهوض للأمة [4] قد ينطلق لمواجهة هذا



[ صفحه 71]



المشروع و غيره من مشاريع التفتيت و الهيمنة المؤطرة بزخارف الانسانية و حقوق الانسان و الحداثة و التحضر و العصرنة و الكوننة و العولمة الخ، و طالما أننا نقر جميعا، كتيارات و نخب فكرية و سياسية متعددة المشارب و الانتماءات، بوقوع تلك الخسارة، و أننا نعيش الآن في قلب الهزيمة الفعلية، فالسؤال المطروح هو: هل يمثل هذا الواقع الانهزامي القضاء و القدر الذي يجب أن نسلم بنتائجه و انتهي الأمر؟ أي: هل ما يجري علي الصعيد الاقليمي و الدولي من حقائق و متغيرات، و ما انتهت اليه موازين القوي السياسية الراهنة، قد أغلق علينا باب التغيير التاريخي بعد أن توزعت الأقدار علي الشعوب و الأمم؟! و هل، حقا، أن هذه المصائر التي آلت اليها أمورنا و أوضاعنا قد جاءت كلها من الخارج و من دون ارادة منا، و لا يد أو مسؤولية لنا في مآلها؟!.

نؤكد في سياق اجابتنا، أن ما يحصل ليس قضاء و قدرا مفروضا علي أمتنا، اننا نتفق علي ذلك مع الجميع.

و نتفق أكثر علي أن الهزيمة واقع مفروض، لكن هذا الاتفاق لا يكفي وحده لأنه، و من أجل الخروج من وادي الهزيمة، لابد أن يكون لدينا قدر مشترك و ارادة واعية من الاتفاق علي عناوين رئيسية تقع في صلب الأسباب التي أدت الي الحاق الهزيمة بنا، سنختلف، منذ البداية، في توزيع الاتهامات و القاء مسؤوليات الهزيمة علي هذا الطرف أو ذاك، أكثرنا قد يحمل الأنظمة السياسية غير الشرعية القائمة و التابعة للغرب، المسؤولية عن كل هذا التفسخ السياسي و الاقتصادي و التاريخي، و بعضنا الآخر قد يلقي أسباب الخسارة أو الهزيمة علي الأمة نفسها في بنية تفكيرها و ارادة شعوبها.

اننا نتحمل جميعا المسؤولية التاريخية عن واقعنا المفكك، و حتي نستطيع امتلاك الارادة القوية الواعية التي تمنحنا الفرصة الأكبر للسير في عملية التغيير النوعي و النهوض بواقع الأمة، علينا أن نعي الحقائق الثلاث التالية:

الحقيقة الأولي: يشكل الاسلام ببعديه الروحي و المفاهيمي منظومة عقائدية تشريعية، تلزم المؤمنين بها العمل في اطار الضوابط و الموازين الشرعية الربانية، لذلك يجب فهم طبيعة المشاعر الحية للانسان المسلم، و نفسيته



[ صفحه 72]



العامة، و نسيجه العقائدي الاسلامي و تركيبته التاريخية و المعرفية، لأن المقاصد و الغايات الاصلاحية للتنوير و النهوض قائمة، أساسا، في عقيدة الأمة، و التأسيس (البناء) العملي علي هذه العقيدة أكثر انسجاما مع الفطرة البشرية عموما و الهوية الحضارية و الفكرية للأمة خصوصا، و أكثر ضمانا لتشكيل الشرط الضروري لحشد طاقات مثقفي الأمة و جماهيرها من أجل المساهمة في تحمل مسؤولية العمل الاستنهاضي، و كسر حلقة التبعية التي لا نزال ندور حولها، و لا تزال تحول دون انجاز الأولويات الضرورية للتحرر و التقدم و البناء و اطلاق مواهب الابداع الأصيل و المنفتح لدي الأمة [5] و التجربة الاسلامية في ايران خير دليل علي ذلك علي الرغم مما تواجهه من تحديات و مخاطر ممثلة في الاستكبار الأمريكي الذي يعمل علي فرض الحرب عليها، و آخرها الحرب مع العراق التي دمرت منشآتها الحيوية و كثيرا من مشاريعها التنموية، كذلك محاولات فرض الحصار الاقتصادي و السياسي عليها في ظروف بالغة القسوة، استفردت فها أمريكا بزعامة العالم، و باتت القطب الأوحد المتربع علي رأس السلطة العالمية - اذا صح التعبير - لكن ايران لا تزال صامدة، و هي تحاول - و نحن نعتقد أنها ستنجح في ذلك - كسر حلقات التبعية و الاستلاب لانجاز مشروعها الاسلامي الطموح، ليس فقط لأنها تتمتع بخيرات اقتصادية وافرة، و لا لما يمتاز و يتمتع به قادتها من حنكة و دراية و مهارات سياسية فحسب، ولكن لأن النظرة العقائدية و القيمية متجذرة في العمق الواعي للانسان المسلم هناك، و لأنها تختلف جذريا عن نظرة الخصوم ما يسمح لها ألا تدخل في الصراع معهم علي المضمار الذي يتفوقون فيه. هذا شرط لازم يحتاج الي شرط كاف ليكتمل البنيان، ربما تكون توجهات الحكومة الايرانية القادمة [6] قد وعته تماما في ظل



[ صفحه 73]



أجواء التحدي ورد التحدي.

اذا لا يمكن للأمة الاسلامية أن تحول مخزونها الحضاري و الثقافي المتراكم الي فعل و تأثير في واقعها المضطرب، و واقع العصر القلق الذي تعيش فيه [7] ، بعيدا عن التوازن النفسي و المادي الذي لا يتوفر الا ثمرة لتحقيق الحد الأدني من هذا الكيان، أي بأن يكون كيان الأمة السياسي و التنظيمي انعكاسا و تجليا لعقيدة التوحيد التي تشكل أساس البنيان العقيدي للمسلمين [8] .

صحيح أن صلة الأمة عموما و المؤمنين بتلك العقيدة خصوصا قد تراخت نسبيا مع الانفتاح علي الغرب و مع سيادة أنماط حياته السياسية و التربوية و التنظيمية و الادارية و الحقوقية، الا أن هذه الصلة عادت من جديد التقوي بعدما لمست جماهير الأمة كلها نتائج مسيرتهم الطويلة نسبيا في هذا المجال، و التي أحالتهم الي مزيد من الخوف و البؤس و الشعور بالضعف و الحرمان في الحاضر و الاحساس المتزايد بالخوف من المستقبل.

الحقيقة الثانية: استكمالا لما ورود في الحقيقة الأولي، و في ظل الانشطار الكامل في البني المختلفة لمجتمعاتنا العربية و الاسلامية بين ما هو سياسي و ثقافي و مؤسسات قائمة تحكم، و بين ما هي عليه هذه المجتمعات من هوية و معايير مغايرة لواقع الحال السائد. تداعت الأزمات وراء الأزمات، و ضعفت



[ صفحه 74]



روح المبادرة و المقاومة [9] و الابداع، و خاضت شعوب المنطقة حروبا متعددة، حيث دفعت، تلك النتائج، الأمة باتجاه المفصل الخطير الراهن المتمثل - كما تحدثنا سابقا - في مسيرة التسوية المزعومة بهدف ادخال ذلك الكيان في هيكلية المنطقة، و اعطائه المزيد من الفرص في الهيمنة و التوسع و النفوذ عبر مشاريع اقتصادية و ثقافية و أمنية في مقابل الغاء شبه كامل للمنطقة، و تجاهل حتي لهويتها القومية و ما تنشئه هذه الهوية من حقوق فضلا عن هويتها الاسلامية الأصيلة.

في هذه الأجواء الملبدة بالغيوم السوداء، يجب أن يتحمل المثقف العربي مسؤوليته، و يراجع تعبيراته و مشاريعه و التزاماته، في أن لا ينهمك في السجال و الميدان السياسي اليومي للحدث فقط، في ما تكمن الأزمة - جوهريا - في كيان الأمة الثقافي، اذا علي المثقف أن يحول عمله و انتاجه الي قرار و سلوك و عمل و أخلاقيات تعامل، في ممارسته لسلوكية الحوار الشامل و السجال الموضوعي في جدية طرحه لأسئلة النهضة، يبرز - أكثر من أي وقت مضي - محتوي و مضمون الهوية الاسلامية للمنطقة بصورة أكثر فاعلية و أصالة و واقعية، و هل الهوية الاسلامية لمجتمعاتنا، في جوهرها، سوي التطلع الدائم للبناء المستمر و المتواصل للشخصية الثقافية الاسلامية؟!.

الحقيقة الثالثة: علينا أن نفهم - في اطار علاقتنا مع الآخر - أن الغرب بالنسبة الينا هو جزء من العالم، و طرف من أطراف البشرية الأكثر تطورا من الناحية التكنولوجية و الاقتصادية، و حتي الثقافية و العلمية (في طبيعة التنظيم و النظام القائم و ليس في البنية و المحتوي و المخزون) و هو الطرف الذي يسيطر - الي حد كبير - علي مصير البشرية، ولكن هذا لا يعني سيطرة أبدية، كما لا يعني أن هناك فوارق و قطيعة مطلقة بين الغرب و البلدان الأخري، فنحن جزء من عالم انساني كبير يشهد تحولات جذرية، و الصراع القائم بين الشرق و الغرب



[ صفحه 75]



علي شي ء واحد هو الرأسمال الحضاري أي الثروة و التراث الحضاري المعنوي و المادي، و التحدي الحقيقي الذي يواجهنا: هو كيف يمكن لنا أن نسيطر علي وسائل هذه الحضارة، و نستوعبها، حتي يكون لنا مكان الي جانب الغرب، لا خاضعين له و لا مسيطرين عليه، و انما نعيش الي جانبه، و أن ننجح بالسيطرة علي التكنولوجيا، و أن نكون فاعلين و مبدعين و مساهمين أيضا في انتاج و صنع هذه الحضارة. كشركاء غير متساوين في اطار أو بعد أو دائرة حضارية واحدة.



[ صفحه 76]




پاورقي

[1] لا نقصد من مصطلح الآخر هنا - الذي بات له استخدام واسع في بعض خطابات التطبيع الراهنة مع الكيان الصهيوني - اسرائيل و حركتها الصهيونية العنصرية، لأنها لا تمثل واقعا حضاريا متميزا يمتلك خصائص و محددات ثقافية و تاريخية متراكمة كميا و كيفيا، كما أنني لا أقصد من هذا المصطلح الأيدلوجية الصهيونية، لأننا نعلم جميعا أنها أيديولوجية القهر و الاحتلال و الاغتصاب و القتل و الطرد و الترحيل و التفوق العنصري و التوسع المستمر و الاستيطان و الاستعمار الاقتلاعي و حقن الأطفال بالايدز.

[2] السيد: محمد خاتمي، حوار الحضارات و صعوباته، صحيفة الحياة اللندنية: 11 / 7 / 1997.

[3] ساهمت ممارسات كثير من تلك الرحكات المسماة (اسلامية؟!) في مسخ و تشويه صورة الاسلام في المحافل الدولية.

[4] العلامة السيد: محمد حسن الأمين، أزمة الآخر في الانشطار بين المجتمع و مؤسساته الحاكمة، مجلة البلاد (عدد: 58) (ص: 46).

[5] لا أريد أن أتحرك مع أولئك الذين يفكرون ببساطة و سذاجة بأنه يكفي الأمة أن تنطلق من عقيدتها و مخزنها التراثي كحل و مفتاح سحري لتبني طموحها و مشروعها التنموي المتقدم، بل أؤكد - في هذا السياق - أن الأمور ليست بهذه البساطة بل هي علي درجة من التعقيد، لذلك و صفت و قلت بأن هذا الانطلاق نحو مواقع البناء و التحرر شرط ضروري لازم لكنه ليس كافيا.

[6] أعني بها حكومة السيد: محمد خاتمي.

[7] السيد: محمد حسن الأمين، م. س.

[8] لا يمكن لعملية النهوض و التغيير أن تنجح في مجتمعاتنا العربية و الاسلامية من دون أن تكتسب اطارا و مضمونا يعبر عن طموحات و آمال الأمة كلها في أن تركز طاقاتها و تحشد امكاناتها و قدراتها وفقا لمناهجها الأصيلة و متطلباتها النفسية و السلوكية و سياقاتها التعبيرية الحيوية لأن مواجهة الواقع الحالي المتخلف بكل مواقعه و امتداداته، و التخطيط للمستقبل الواعد لا يمكن أن يتم باطاره العام الهادف و المثمر الا اذا شاركت الجماهير، كل الجماهير، و الأمة، كل الأمة، في عملية صنع حقيقية عميقة و بنيوية للمستقبل، و استنفرت كل مواهبها في هذا الاتجاه، من خلال شعورها المتحرك بضرورة التغيير ضمن المركب الواعي الذي تؤمن به و تلتزمه في حركة الحياة.

[9] باستثناء بعض المواقع المضيئة و النيرة، و في مقدمتها المقاومة الاسلامية الجهادية و الفكرية و السياسية في لبنان، التي أراني مضطرا أن أعرج عليها، مثنيا و مادحا، بشكل متواصل.