بازگشت

في عهد المنصور الدوانيقي


تؤكد المرويات الكثيرة [1] أن الامام موسي عليه السلام تعرض، هو و أصحابه و شيعته، خلال الفترة التي أعقبت وفاة أبيه الصادق عليه السلام الي رقابة شديدة من قبل الحكام [2] ، لكن يبدو، من خلال تتبع المراحل التاريخية التي مر بها في



[ صفحه 85]



عهد المنصور، أنه لم يلتق معه و لم يطلب حضوره اليه في بغداد كما كان يستدعي والده، ويتهدده بالنفي و القتل، و لم يتعرض عليه السلام في عهده (عهد المنصور) للحبس أو القمع بالدرجة التي تعرض لها في عهود أولاده و أحفاده، في حين أنه كان (المنصور) أشد ايذاء و تعذيبا و فتكا بالعلويين و شيعة أهل اليت عليهم السلام في عهد الصادق عليه السلام، و لعل من أكثر الحوادث دلالة علي سوء سريرته و خبث نواياه و حقده علي البيت العلوي و كل من يتصل به بالولاء و الانتماء، حديث الخزانة المشهور [3] التي سلم مفاتيحها الي (ريطة) زوجة ابنه (المهدي) و أوصاها بأن لا تفتحها الا بعد وفاته و بحضور خليفته، و في الخزانة أكثر من مائة قتيل من العلويين و الي جانب كل قتيل رقعة باسمه و نسبه، و لم تكن تعلم بذلك لا هي و لا زوجها و لا أحد من الناس، و ظنت و هو يوصيها و يؤكد عليها بالكتمان و عدم فتحها الا بعد وفاته، أن فيها من الأموال و المجوهرات و التحف ما لا يمكن تقديره بثمن [4] ، و المنصور هذا هو الذي كان يضع العلويين في الاسطوانات و يسمرهم في الحيطان - كما نص علي ذلك اليعقوبي و غيره - و يتركهم يموتون في المطبق جوعا، و تقتلهم الروائح الكريهة، حتي لم يكن لهم مكان يخرجون اليه لازالة الضرورة، و كان يموت أحدهم، فيترك معهم حتي يبلي من غير دفن، ثم يهدم المطبق علي من تبقي منهم حيا و هم في أغلالهم [5] .



[ صفحه 86]



ازاء هذا الوضع المعقد و الظرف الدقيق، كيف تصرف الامام الكاظم؟ و ما هو موقفه و فعله؟ و من ثم ما هو الدور السياسي العام الذي لعبه في المجتمع الاسلامي علي صعيد ضرورة تحصينه و توعيته و صيانته من العبث و الانحراف خاصة بعد سقوط التجربة الصحيحة؟!.

في الواقع، كان الامام واعيا و مقدرا للظروف السياسية القاسية التي كانت تحيط به، و تضغط علي وجوده و وجود أصحابه و المقربين منه في ذلك العهد، لذلك اعتصم في بيته وانكمش حتي عن شيعته و لم يظهر الا للخواص منهم، ضمن حدود معينة، و كانوا اذا اطمأنوا الي شخص و أدخلوه عليه يوصيه بالكتمان الشديد و يخدره من العواقب الوخيمة التي قد تنجم جراء الاعلان عنه [6] ، مما يوحي بأن المنصور كان، في تلك الفترة، يتحري بكل وسائله، و من الجائز أنه كان لا يستطيع الاهتداء اليه أو معرفة مكانه بتلك السهولة، و حتي لو عرفه و أيقن بأنه الخليفة الشرعي لأبيه [7] ، فما دام معتزلا الناس و منقطعا عنهم فلا يضره ذلك و لا يراه خطيرا علي عرشه [8] ، اذا كان الامام موسي عليه السلام، كما يتضح من تاريخ عهده الأول، منكمشا حتي عن أصحابه، و قد اكتفي المنصور بمحاربته - من خلال اعتماده أساليب و وسائل عديدة [9] .



[ صفحه 87]



من حبسه و التنكيل به، لقد كان عليه السلام يريد من انكماشه و ابتعاده عن الواقع، نسبيا، أن يحافظ علي فكر و نهج أهل البيت عليهم السلام من الاغتيال الثقافي و السياسي، خصوصا و أن المنصور (و غيره من فراعنة العباسيين) كانوا جادين تماما في محق آثار و معارف آل البيت عليهم السلام و اجتثاث جذورهم الفكرية و الحضارية القابعة في ذهنية الأمة و في وعي و روحية أبنائها [10] ، لذلك كان الأمر الأولي بالنسبة اليه هو في الحفاظ الكامل علي تراث و أطروحة أهل البيت عليهم السلام، من خلال السعي باتجاه مواقع أكثر سلامة للأفراد و الأشخاص الحاملين لتلك المعارف و الثقافة، لأن الواقع ملبد بالغيوم السوداء و لا يحتمل أية دعوة فكرية أو سياسية، بل المطلوب أولا حماية المفردات الرئيسية للدعوة و التجربة الحقيقية.

و لعلنا نستوحي من هذا الموقف الذي اتخذه الامام الكاظم في السنين الأولي من امامته - التي كانت فيها مساحة العمل و الحركة ضيقة و حتي مسدودة في كثير من الحالات - نستوحي منه ضرورة دراسة الواقع الذي يعيشه العمل الاسلامي السياسي فيما هي الحركة، و فيما هو الرد، و فيما هي المرحلة، و ذلك للتعرف علي المساحة الحرة، التي يملك فيها الخط الاسلامي حرية الحركة فيها، فقد تكون المساحة - كما ذكرنا - ضيقة المستوي بحيث لا يكون هناك أي مجال فيها الا للثقافة و العبادة و التربية، و في هذه الحال، لا بد من توفير كل الوسائل الثقافية والروحية و التربوية، و الاستغراق فيها من أجل تكوين قاعدة اسلامية قوية من حيث الوعي الفكري و الصفاء الروحي و التوازن التربوي، للبدء بعد ذلك بمرحلة جديدة، للانطلاق في العمل السياسي، بعد استكمال شروطه الموضوعية، فيما يمكن أن يكون حقيقة في توسيع القاعدة، و تحرير الساحة في حدودها الضيقة.



[ صفحه 88]




پاورقي

[1] راجع تاريخ الخلفاء، و تاريخ السيوطي، و أخبار الدول، و تاريخ ابن الأثير.

[2] لكن و علي الرغم من كل الاحتياطات التي اتخذها الامام عليه السلام في هذا المجال و منها عدم السماح لشيعته و تلامذته من الاتصال به بالشكل الذي اعتادوا عليه في عهد أبيه (ع) حتي أن رواة أحاديثه قلما كانوا يروون عنه باسمه الصريح، بل بكنيته - و ذلك منعا لتعرضه للقتل أو للحبس هو و شيعته - أقول: انه علي الرغم من كل ذلك فقد تعرضت قاعدته الشعبية الي الفتك و الغدر و الملاحقة و القتل، [راجع مقاتل الطالبيين للأصفهاني، و موسوعة الامام الصادق (ع)، و كتاب المكاسب للأنصاري، و سيرة الأئمة الاثني عشر للحسني، و غيرها].

[3] راجع تاريخ الطبري، 10، ص 146)، و النزاع و التخاصم للمقريزي (ص: 52).

[4] يبدو أن الدافع الحقيقي وراء هذا التصرف الاجرامي من قبل المنصور، هو رغبته في أن ينهج الخلفاء من بعده نهجه و أسلوبه العنيف و القاسي تجاه العلويين و كل من يشكل خطرا علي عروشهم و وجودهم.

[5] راجع الحياة السياسية للامام الرضا للسيد: جعفر مرتضي (ص: 88).

[6] يختلف عصر الامام الكاظم عليه السلام الذي كان، كما لا حظنا، عصر اختناق و ضغط اجتماعي و سياسي عام، عن عصر أبيه الامام الصادق عليه السلام الذي كان عهدا حافلا بالمتناقضات السياسية و الفكرية، استغلها امامنا الصادق من أجل تركيز الاسلام النقي في ذهنية الأمة، [راجع المصادر المذكورة سابقا].

[7] عندما تلقي المنصور نبأ وفاة الامام الصادق عليه السلام سارع بالكتابة الي عامله علي المدينة محمد بن سليمان يأمره بقتل من أوصي اليه، لكن المنصور أصيب بخيبة أمل كبيرة حينما كتب له الوالي. بأنه أوصي (ع) الي خمسة أحدهم المنصور نفسه، فقال: ليس الي قتل هؤلاء من سبيل، [راجع تاريخ الخلفاء (ص: 102) و سفينة البحار، (ج: 49)].

[8] الحسني، سيرة الأئمة، (ج: 2، ص: 325)، م. س.

[9] كان منها تقرب المنصور من العلماء المعاصرين للامامين الصادق و الكاظم عليه السلام، و قد مدهم بالمال و رفع شأنهم و تظاهر بتكريمهم، محاولا بذلك صرف أنظار الناس عن فقه العلويين و آثارهم و نهجهم، حتي أنه حاول أن يفرض موطأ مالك علي الناس بالسيف، كما و جعل لمالك سلطة في الحجاز علي الولاة و جميع موظفي الدولة الذين خافوه و تهيبوه [راجع معجم الأدباء، كتاب الامام الصادق و المذاهب الأربعة].

[10] راجع: الأغاني، مقاتل الطالبيين للأصفهاني.