بازگشت

في عهد هارون (الملقب بالرشيد؟)


لقد كانت السنوات التي مرت علي الامام الكاظم عليه السلام، و علي شيعته [1] ، تحت ظل حكم هارون الرشيد من أسوأ و أفظع المراحل التاريخية التي قضاها في حياته، فقد كانت المهمة الأولي لجهاز الحكم (الرشيدي) تكمن في المراقبة المستمرة للامام، خوفا منه و من مجرد وجوده في الحياة، و هذا ما صرح به هارون - بشكل غير مباشر - عندما كان يعتقل الامام و يحضره الي مجلسه، حتي أن الامام قد سأله، أكثر من مرة، عن سبب اعتقاله و سجنه، و هو لما يفعل شيئا



[ صفحه 90]



يسي ء الي الدولة و لم يهدد أمن المجتمع و استقراره، فلماذا الحبس و الاعتقال؟.

أما جواب هارون فكان السكوت، لأنه لا يملك أي دليل ضده.

نحن لا نستغرب هذا الأمر اطلاقا عندما نقرأ عن هارون الرشيد [2] أنه كان مستعدا لقتل نجله من أجل الملك و الخلافة، جاء في رواية [3] : أن المأمون (ولد هارون) استغرب تكرار عمليات استدعاء الامام الي بغداد و حبسه ثم اطلاق سراحه فسأل والده الرشيد، بعد أن انفرد به، عن سبب تقديره و اجلاله للكاظم عليه السلام، علي الرغم من حبسه له أكثر من مرة، فقال له هارون: يا بني أنه صاحب الحق.

فقال له المأمون: اذا كنت تعلم ذلك فرد عليه حقه، فقال: «انه الملك، و الله لو نازعتني فيه لأخذت الذي فيه عيناك» [4] .



[ صفحه 91]



تنقل الامام الكاظم في السجون العباسية واحدا تلو الآخر، و لم يبق في سجن واحد، لقد كان الحاكم يأمر بنقله من سجن لآخر، و ذلك لأنهم عندما كانوا يضعونه في أحد السجون يرون، بعد مضي فترة زمنية قصيرة، أن السجانين و عمال السجن قد أصبحوا من عشاقه و محبيه عليه السلام، يقبلون عليه و يتباركون به.

و روي في هذا المجال الشي ء الكثير، نذكر من ذلك أنه أخذ عليه السلام ذات مرة الي سجن و كان و الي البصرة عيسي بن جعفر بن أبي جعفر المنصور (حفيد المنصور الدوانيقي)، و كان معروفا بحبه للشراب و الرقص و الغناء، أي أنه كان من أهل الفسق و الفجور، حول امامنا الكاظم اليه، و علي حد قول أحدهم: جاؤوا برجل عابد يعرف الله و يخشاه الي مكان يسمع فيه أشياء لم يسمعها في حياته، جاؤوا بالامام الي سجن البصرة في (7) ذي الحجة من سنة (178) للهجرة، و كان عيد الأضحي علي الأبواب فكانت أيام احتفالات و سرور، أخذ عليه السلام بشكل مهين (معنويا) و بقي مدة في السجن، و رويدا رويدا بدأ عيسي بن جعفر (الرجل العابث و اللاهي) يتعلق بالامام عليه السلام و صار يقبل عليه، كان عيسي يظن أن موسي بن جعفر عليه السلام هو واقعا - كما بلغ جهاز الحكم ضده - رجل متمرد و خارج علي القانون، لا شغل له الا ادعاء الخلافة أي أن حب الرئاسة ملأ رأسه، فرأي عكس ذلك، رآه رجل الروحانية و التقوي



[ صفحه 92]



و العبادة، و ان كان يطرح مسألة الخلافة فلجهتها المعنوية لا لأجل أنه رجل طالب دنيا، هنا تغيرت أوضاع الامام حيث أمر عيسي أن يجعل تحت تصرف الامام عليه السلام غرفة ممتازة و أعلن رسميا عن ضيافة الامام عليه السلام، فأرسل هارون رسالة سرية أن حطم مكر هذا السجين، فأرسل اليه: أنني لن أفعل، و أخيرا كتب للخليفة أن أعط أمرا بنقله من عندي، و الا فانني سأحرره بنفسي فانني لا أستطيع حفظ هذا الرجل عندي كسجين، و حيث انه كان ابن عم الخليفة و حفيد المنصور فكلامه مسموع [5] .

يتضح - من سياق تلك الرواية، و مثيلاتها من الروايات حول الموضوع نفسه [6] - خوف و فزع الحاكم من جاذبية الكاظم عليه السلام، و قوة تأثيره، و انشداد الناس اليه، حتي أصبح عليه السلام، خلال ذلك العهد، حديث العدو و الصديق الأمر الذي رأي فيه الحاكم وضعا مقلقا و خطيرا يهدد ملكه و زعامة بيته.

انها، و لا شك، الهيمنة المعنوية الارادية، و النفوذ النفسي الكبير الذي تمتع به الامام الكاظم و غيره من أئمة أهل البيت عليهم السلام، لقد كان ذلك سلاحهم الوحيد، في وقت لم يمتلكوا فيه سلاحا و لا اعلاما و لا مركز قوة لكنهم ملكوا القلوب و العقول حتي كان، من بين أقرب الناس الي هارون، شيعة [7] ، لقد كان هارون يخشي الي درجة الفزع و الرعب [8] ، جاذبية دعوة الحق و الحقيقة



[ صفحه 93]



الموجودة بوجود الامام الكاظم عليه السلام، دعوة العمل و السلوك، فالتبليغ الرسالي لا يتحرك دائما بالكلام و الأقوال و التصريحات فقط،. بل أيضا بالعمل المنظم و المدروس و الهادف. لقد كان كل من يلتقي الامام موسي بن جعفر عليه السلام أو أحد آبائه أو أبنائه الكرام الطاهرين و يبقي معهم مدة فانه تتجلي له الحقيقة في وجودهم عليهم السلام و يري أنهم يعرفون الله معرفة واقعية و يخشونه خشية واقعية، و أنهم، في الواقع، محبو الله، و ما يعملونه فانما هو لأجل الله و الحقيقة [9] .

في اطار مواجهة هذا الوضع المضطرب الملي ء بالفوضي و المواقف الضاغطة و الوقائع القسرية و الاكراهية، اتخذ امامنا الكاظم عليه السلام موقفا سلبيا تجاه الحكم القائم، ظهر جليا في بعض أخباره و أحاديثه، فقد دخل الامام عليه السلام علي هارون في بعض قصوره المشيدة الجميلة التي لم ير مثلها في بغداد و لا في غيرها، فانبري اليه هارون و قد أسكرته نشوة الحكم قائلا [10] : ما هذه الدار؟ فأجابه الامام غير مكترث بسلطانه و جبروته قائلا له:

«هذه دار الفاسقين»، قال الله تعالي: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، و ان يروا كل آية لا يؤمنوا بها و ان يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا و ان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا)، [الأعراف: 146] و مشت الرعدة في جسم هارون و استولت عليه موجة من الاستياء فقال للامام: دار من هي؟.

- «هي لشيعتنا فترة و لغيرهم فتنة».

- ما بال صاحب الدار لا يأخذها.

- «أخذت منه عامرة و لا يأخذها الا معمورة».



[ صفحه 94]



- أين شيعتك؟.

- فتلا الامام عليه السلام قوله تعالي: (ألم تر الي الذين بدلوا نعمة الله كفرا و أحلوا قومهم دار البوار) [ابراهيم: 28].

و هكذا فقد كان الامام يري هارون غاصبا لمنصب الخلافة و الحكم و السلطة، و مختلسا للأموال، و معتديا علي ثروة الناس، مما أثار غضب هارون عليه و أغلظ في كلامه علي الامام عليه السلام، بعد أن سمعه يتحداه بموقف لا هوادة فيه.


پاورقي

[1] أقسم هارون علي استئصال العلويين، و كل من يتشيع لهم و اشتهر عنه قوله: حتام اصبر علي آل بني أبي طالب و الله لأقتلنهم شيعتهم، و لأفعلن و لأفعلن، و كان شديد الوطأة علي العلويين يتتبع خطواتهم و يقتلهم، [راجع الأغاني للأصفهاني (ج: 5 ص: 225)، و العقد الفريد 2 / 180، و محمد أبوزهرة، الامام الصادق (ص: 139)].

[2] كان هارون الرشيد علي اطلاع كامل بأخبار و نشاطات الكاظم عليه السلام العامة، كانت تصله أخبار بشر الحافي، و صفوان الجمال، و أمثالها من الروايات و الأحاديث التي كان يعدها تهديدا صارخا لملكه و زعامته، [راجع مروج الذهب للمسعودي (ج: 2)، و المناقب (ج: 2)، و تذكرة الخواص لابن الجوزي].

[3] كتاب المأمون (مجلد: 1).

[4] قلنا سابقا: ان المزاجية النفسية السيئة و التكيف غير المتوازن مع الأحداث قد تحكمتا بالأكثرية الساحقة من حكام تاريخنا الماضي، و لا يزال ذلك يفعل فعله في أحفادهم الحاليين حتي علي مستوي صنع القرارات المصيرية الحاسمة التي قد يشكل الخطأ في اتخاذها - و تقريرها أو الدقة و الوعي في صنعها - تحديا خطيرا لوجود الأمة، و يمكن أن يؤدي بها الي السقوط الروحي و الحضاري، و هذا ما حدث سابقا و هو نفسه ما يحدث اليوم في عالمنا العربي و الاسلامي مع بعض الاختلافات، فمثلا هنا: كان هارون الرشيد نفسه يتكيف مع الظروف، و يتلون مع المناسبات، و كان يستدعي الوعاظ و العلماء ليذكروه بالله و هو يبكي حتي ليظن من يراه أن نفسه ستذهب خوفا و وجلا، و يصلي أكثر من مائة ركعة في اليوم، فاذا جاء وقت الشراب و الندمان و الجواري و المعازف والقينات، تراه انسانا آخر من أسوأ الناس حالا، و اذا علم أن شخصا لا يقره علي ظلمه، أو ظن بأن انسانا يشكل خطرا علي مجده و عرشه يعود سفاحا يتلذذ باراقة الدماء و التعذيب، كما تتلذذ الوحوش الضارية بفريستها، [راجع: سيرة الأئمة الاثني عشر (ج: 2)، (كتاب المأمون مجلد: 1)، و مروج الذهب (ج: 2)]، و هنا أنقل من تلك المصادر الرواية التالية عن لهو و عبث الرشيد و أعوانه من ولاة و وعاظ السلاطين:

وقعت ذات مرة في نفس هارون جارية من جواري المهدي فراودها عن نفسها، فقالت: لا أصلح لك، ان أباك قد طاف بي، لكنه شغف بها فأرسل الي أبي يوسف قاضية الشهير و الملقب «بفقيه الأرض و قاضيها!» فسأله هارون: أعندك في هذا شي ء؟ و جاءه الجواب: «أهتك حرمة أبيك، و اقض شهوتك، و صيره في رقبتي»، (لاحظ استعداد الفقيه السلطاني لاصدار أي فتوي ارضاء لشهوات الحاكم)، و قال الرشيد لأبي يوسف: اني اشتريت جارية، و أريد أن أطأها الآن قبل الاستبراء، فهل عندك حيلة؟! قال: «نعم! تهبها لبعض ولدك ثم تتزوجها!». (راجع تاريخ الخلفاء، ص: 286 - 284).

[5] راجع تذكرة الخواص لابن الجوزي، تاريخ المسعودي (ج: 2) سيرة الأئمة للشهيد مطهري، (ص: 143).

[6] انظر: سيرة الأئمة للشهيد مطهري، و سيرة الأئمة الاثني عشر: 2 / 150.

[7] و هو علي بن يقطين (الوزير الثاني لهارون) (أي الرجل الثاني في البلاد). قد كان شيعيا ملتزما، و متكتما يخدم أهداف الامام عليه السلام، و ان كان هو - ظاهر الأمر - من أعوان هارون، [راجع ترجمته في بداية هذه الدراسة نقلا عن رجال الكشي (ص: 317)، و سفينة البحار (2 / 252)].

[8] كان هارون يحسد الامام موسي علي موقعه الاجتماعي و يشعر بالخطر منه، في كل لحظة، مع أنه عليه السلام لم يكن في مراده القيام بثورة أو بأي تحرك سياسي - كما قلنا سابقا - لكنهم هم (أنفسهم) شخصوا (كونهم علي باطل و الذي يكون علي باطل يشعر، بشكل دائم، بأن الواقع يهتز من تحته) بأن الامام قد أعلن ثورة عقائدية ضدهم.

[9] الشهيد: مرتضي مطهري، سيرة الأئمة (ص: 149).

[10] المناقب، ج 381،2.