بازگشت

مناسبة كربلاء بين الاستغراق في التاريخ و تحريك قيم التاريخ في الواقع


تنطلق شعائر الحدث الكربلائي سنويا في مختلف البقاع و الأمصار الاسلامية لتحيي ذكري استشهاد الامام الحسين و كوكبة من أهل بيته و أنصاره،



[ صفحه 112]



فكيف يتم التعامل مع ثورة بهذا الحجم و المستوي؟.

و هل تمارس الشعائر الاسلامية، خلال هذه الذكري، بطريقة حضارية تنسجم مع مهمة الاحياء الاسلامي؟.

ثم ما هي الآفاق التي يمكن أن تفتحها أمامنا هذه الحادثة و نحن نعيش علي أبواب القرن الحادي و العشرين؟.

هل استطعنا توظيف مناسبة عاشوراء في البعد الاعلامي الدولي في خط الدعوة و الاعلام؟

و هل أعطينا كربلاء احساس الواقع و نبض الحياة؟ و هل استثمرنا الطاقة الاحيائية الكامنة في الذات الكربلائية كما ينبغي؟.

اننا نعلم جميعا أهمية هذه المناسبة العظيمة، التي يمكن أن تقدم لنا دروسا مختلفة لا تنتهي في الواقع الانساني المعاصر، يمكن عرضها كما يلي:

1- نجد - بداية - أن الامام الحسين عليه السلام حمل مشروع وحدة و رسالة توحيد عادلة لكل المسلمين، كانسان يمثل القيمة الروحية الانسانية الرائعة التي انفتحت علي الله، و عاشت عمق الاسلام و في المقابل الذين قاتلوا الحسين حملوا لواء الدعوة الي الفتنة و مشروع الدولة الفئوية الظالمة المستكبرة التي مثلها يزيد في صورته التاريخية كرجل فاسق فاجر لا يملك أي التزام في المحرمات الشرعية، و لا يملك أي قيمة روحية و أخلاقية و لا حتي سياسية، و بهذا فاننا نستطيع أن نستوحي، في واقعنا المعاصر، شخصية الامام الحسين مقارنة بشخصية يزيد في كل النماذج التي تلتقي بهاتين الشخصيتين في الواقع، كما أننا نستطيع أن نجري مقارنة بين المجتمع الاسلامي في انحرافاته التصورية هناك، و بين مجتمعاتنا هنا للاستفادة منها في مواجهة المرحلة.

و لننطلق في الخط القيادي الذي يفكر به المسلمون في «كيف يكون القائد؟» و في الخط الحركي في مسألة الثورة علي القائد الظالم المنحل و المنحرف، كما أن امتزاج هذه العناوين بدماء أهل البيت عليهم السلام، يعطي



[ صفحه 113]



القضية بعدا مأساويا، بحيث تشكل، لدي اثارتها سنويا، ثورة ضد كل صانعي المأساة في الحاضر [1] ، و في المستقبل.

2- خطاب عاشوراء و الحسين عليه السلام كان خطاب المقاومة و الممانعة لثقافة الكسل و الاسترخاء التي روج لها حكام بني أمية، و هي نفسها أيضا ممانعة شعبنا العربي المسلم في لبنان لمشروع التفتيت الصهيوني، هذه المقاومة التي اتخذت من ثقافة و رسالة كربلاء الاسلام عنوانا أساسيا لها في كل وجودها و حركيتها و امتدادها، و جسدته في تضحياتها و بطولاتها و ملاحمها التي لا تزال تسطر علي أرض الجنوب اللبناني الشريف و الطاهر، حيث نسمع و نشاهد جميعا أقصي درجات البطولة و الفداء و التضحية في مواجهة أشرس و أخطر عدو عرفته الانسانية في تاريخها، و أعني به العدو الصهيوني المجرم الذي استطاعت المقاومة الباسلة في لبنان أن تهز كيانه و تربك خططه و معادلاته و تحقق الانتصارات تلو الأخري عليه، كما انتصرت عاشوراء الدم علي سيف الظلم و البغي.

3- كذلك نقرأ في عاشوراء موقف الرفض و الممانعة لاغراءات المال و الترف و الانحلال الخلقي و البغضاء و العرقية و الابتذال.

ان المساهمة في تكوين نظام و قناعات صلبة لدي الناشئة و الشبيبة، كان في أساس وظيفة المجلس الحسيني السياسية و الأخلاقية أن ينصب أمام الناس، جيلا بعد جيل، لونا و مستوي من الأخلاق التي تجسدت في أنصار الحسين في كربلاء، رجالا و نساء، فكربلاء مظهر للممارسة الأخلاقية العالية في مواجهة الاغراءات و الانحطاط الأخلاقي و النفعية، و أسلوب الاغراء لايجاد جيل منحل يهتم فقط بالساعة (الحاضرة) [2] ، جيل مفسد بالمال و المنافع، جيل خائف من القمع و الملاحقة، هذا الأسلوب كان علي الدوام وسيلة الاستعمار و الطغيان الداخلي و الخارجي، و مشاريع الاستحواذ و التسلط، و من هنا فان أخطر ما يواجه الأجيال الصاعدة هو التزييف الأخلاقي في المجتمع المترف الاستهلاكي،



[ صفحه 114]



الخاضع لقيم الحضارة الغربية، و ظهور ملامح أولية لتفكيك البني الأسرية و الروابط الانسانية بين الناس، و ايجاد أخلاق مجتمع مترف و ثقافة قشور تجعل من الهوي واللذة و الكسب الرخيص المبتذل هدفا أسمي لها.

و هذا ما نلاحظه حاليا من الميل و الانحدار الشديد، في كل وسائل اعلامنا المقروءة و المسموعة و المرئية، باتجاه ايجاد بيئة و مناخ ثقافي يعمل علي اسقاط القيم و المعايير في نفوس الجيل الجديد، و هدم المناعة الأخلاقية لديه، و من ثم تدمير الارادة السياسية و الوعي السياسي للأدوار و الأهداف و الأحداث للشعب و الأمة.

لذلك اننا نعتقد أنه بامكاننا الاستفادة من عاشوراء، في هذا المجال، في تعبئة الأجيال الناشئة بمختلف الوسائل و السبل التي تنسجم مع ثقافة القيم الاسلامية، و جعلهم ينفتحون علي خط الممانعة و المقاومة لسلطة المال و الترف و مواجهة المشروع الصهيوني الخبيث في المنطق، الذي ندعو كل القوي الحية في المجتمعات العربية و الاسلامية الي بلورة مشروع مواجهته و الوقوف في وجهه.

الآن و بعد أن وقفنا علي أهم الدروس المعاصرة التي حاولنا قراءتها في مناسبة كربلاء، سنحاول الاجابة علي التساؤلات التي طرحناها في بداية هذا الحديث، و التي تتمحور، في مجملها، حول أهمية توظيف و استثمار الحدث الحسيني الكربلائي في الواقع الحاضر و في المستقبل؟.

اننا نجد - من خلال استقرائنا لحركة الواقع النخبوي و الشعبي في طريقة تعاطيها مع الشعائر الحسينية و قضية كربلاء - أن هناك سلوكية غير متوازنة لا تزال تتحكم بمسارات و توجهات كثير من معالم و خصائص الحدث الحسيني، و هنا نقول - انصافا للحق و العدالة -: انه توجد مواقع مضيئة و نيرة، و ومضات مشرقة تتحرك في هذا السياق، لا نريد أن نبخسها حقها، تحاول أن تقدم كربلاء بأبهي حلة و أنصع عنوان، لنأخذ منها أفضل العبر و الدورس [3] ، لكن التوجه



[ صفحه 115]



الغالب علي فهم قضية و ثورة عاشوراء ينحصر في اطار ممارسة طقوس و تقاليد تعطي صورة سلبية عن واقع و حقيقة كربلاء، في الوقت الذي يحتاج فيه الاسلام الي حشد كل طاقات أبنائه و قدراته و امكانياته في خط العمل علي بناء مشروع يقدم (هذا الاسلام)، من خلاله، كطرح حضاري انساني قادر علي حمل لواء و مشروع العالمية الجديدة بعد فشل المشروع الغربي [4] .

اذا نحن نريد تجريد الممارسات العاشورائية [5] من بعض أساليب الاحياء القديمة غير المناسبة علي الصعيد التاريخي و التعبوي و التمثيلي، و الاستفادة القصوي من حجم الامكانات التقنية الهائلة التي توفرها وسائل الاعلام و الاتصالات الحديثة [6] في حقل الدعاية و التبليغ الاسلامي من أجل تقديم صورة كربلاء الحية الي العالم غير المسلم، فضلا عن العالم غير الشيعي طبعا،



[ صفحه 116]



علي أساس أنها ثورة اسلامية الهوية و الطرح و الانتماء و لا تخص الشيعة وحدهم [7] ، و بالتالي مواجهة الدعاية الغربية - و غير الغربية - المضادة التي تؤكد علي أن الممارسات الشعائرية الاسلامية الشيعية، بخصوص كربلاء، و هي لون من ألوان و ممارسات العصور المظلمة.

اننا نريد أن نؤكد - أخيرا- علي أن الامام الحسين عليه السلام رمز و ثورة من أجل الانسان المستضعف في كل زمان و مكان مع كونه اماما معصوما مفترض الطاعة، لذلك من الضروري العمل علي تقديمه للعالم، و كما هو في واقعه الأصلي، بأروع صورة و أنصع بيان كأعلي الرموز الثورية التحررية الاسلامية في التاريخ، و في عقيدتي أن هذا الأمر لن ينال حظا حقيقيا في الواقع الا اذا بادرنا الي نفض الغبار عن عاداتنا في هذا المجال، و انطلقنا الي تحديد مستويات ايجابية و مناهج دقيقة تبرز لنا محددات و آليات عمل في واقع الفعل و الممارسة المنظمة و الهادفة.


پاورقي

[1] العلامة السيد: محمد حسين فضل الله، صحيفة السفير اللبنانية، 27 / 5 / 1997.

[2] العلامة الشيخ: محمد مهدي شمس الدين، صحيفة السفير، 27 / 5 / 1997.

[3] قوله تعالي: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)، و هذا هو دور القصة أو الواقعة التاريخية - دور العبرة أو الدرس - الذي يمكن أن يستوحيه العاملون من التاريخ الماضي لمصلحة التاريخ الحاضر و المستقبل.

[4] يبدو أنه من الممكن أن نفشل و فق ما نشاهد و نقرأ و نحلل، طبعا ليس بسبب النظرية الانسانية الاسلامية، بل بسبب سلوك المسلمين و غياب (تغييب) ارادتهم وضعفها و ارتهانها للخارج.

[5] من قبيل ضرب الرؤوس و الأجساد بالسلاسل و الحديد، التي انطلقت من مبادرات شعبية استثارت عواطف الناس فقلدوها و تأصلت في واقعهم فأصبحت من المقدسات، حيث لا تزال قطاعات شعبية (و حتي نخبوية) كثيرة من الشيعة علي ممارستها بالرغم من صدور بيانات و فتاوي علمائية من أرفع مراجع المسلمين في العالم بتحريمها و ضرورة الابتعاد عن ممارستها لكن بعضهم يظن، واهما، أن تنقية و تهذيب الاحياء العاشورائي هو مس في المضمون الداخلي و العاطفي لعاشوراء، مع العلم أن تلك الأفعال و الممارسات لا علاقة لها بالشريعة و الاسلام لا من قريب و لا من بعيد، لأن الشريعة لا تقول لك: اضرب رأسك و اهدر دمك علي التراب، لكنها تقول لك، بمعني من المعاني، اذهب و تبرع بدمك للمحتاجين، و بذلك تقدم للناس صورة مضيئة عن الامام الحسين (ع) و تشاركهم، انسانيا، مشاركة حسينية واعية و ملتزمة.

[6] لأن الاعلام بات يشكل قوة أساسية في هذا العصر الذي أصبح فيه العالم كقرية صغيرة.

[7] نبيل علي صالح، وجع الحرية، (ص: 108).