بازگشت

عمل الامام الكاظم في مجال التوعية السياسية و العقائدية


يمكن دراسة هذه النقطة من خلال منحيين اثنين:

المنحي الأول: مدي وعي حالة الانتماء السياسي.

المنحي الثاني: الفعالية الفكرية في خط تركيز التثقيف العقائدي و السياسي.

المنحي الأول:

ركز الامام الكاظم عليه السلام، من خلال مواقفه و بعض تصريحاته السرية، علي أهمية تعميق مبدأ «الانتماء السياسي» الي الخط القيادي الشرعي لأهل البيت عليهم السلام، و هذا ما لا حظناه من خلال امامته و تمثيله الشرعي [1] لقيادة



[ صفحه 117]



متأصلة في الاسلام لها جذورها و شرعيتها في جسم الأمة، و ذلك في مساهمته و مشاركته في حل بعض تحديات و أزمات الواقع الخطيرة، و رجوع الأمة اليه في أكثر من محطة تاريخية هامة في حياتها و علي أكثر من صعيد، و قد ظهرت معالم هذا التوجه في حياة بقية الأئمة عليهم السلام الذين مارسوا هذا الجانب السياسي بدقة و تنظيم كبيرين في طبيعة الاشراف علي الحالة الانتمائية التي أوجدوها في داخل الساحة و من معالم هذا الاسلوب التنظيمي [2] :

أ- السرية في العمل «مبدأ التقية».

ب - نظام الوكلاء الذي اعتمده الأئمة عليهم السلام في تنسيق و ادارة و توجيه الحالة الانتمائية.

ج - تصنيف الفعاليات و الاختصاصات في عهد الكاظم عليه السلام.

- فعاليات السياسة: كعلي بن يقطين الذي كان وزيرا لهارون بامضاء و موافقة الامام الكاظم عليه السلام ليمارس دوره في خدمة الحالة الانتمائية.

- فعاليات الفقه و الحديث: يونس بن عبدالرحمن.

- فعاليات الكلام و المناظرة: هشام بن سالم.

لقد ساهمت هذه الحالة الانتمائية الواعية في ايجاد مواقف سياسية بارزة من قضية الفصل في الكيانات و الأنظمة الطاغونية القائمة، من خلال تحريم الامام الكاظم اللجوء الي هذه السلطات، و تحريم التعامل معها من أجل تأكيد حالة الرفض المعنوي و النفسي للكيانات الجائرة اللاشرعية، لأن ذلك يصب في خدمة هذا الكيان و يعطيه - كما ذكرنا - شرعية الوجود في اغتصابه للحكم و ظلمه للعباد و هدره لثروات و مقدرات البلاد، و بالتالي هو سلب لكل عمل اصلاحي من الامام نفسه.



[ صفحه 118]



لقد كان هذا العمل الترشيدي و التوعوي - اذا صح التعبير - يهدف الي لفت نظر الناس الي المفاهيم و التصورات البنائية الأساسية لمدرسة أهل البيت عليهم السلام، و تجنب اللجوء الي الأجهزة الادارية و القضائية الخاضعة لسلطة النظام و المعتمدة من قبل أعوانه و جلاوزته [3] .

- قال الامام الكاظم عليه السلام لزياد بن أبي سلمة: «يا زياد انك لتعمل عمل السلطة»؟.

قال زياد: أنا رجل لي مروة و علي عيال و ليس وراء ظهري شي ء.

فقال الامام: «يا زياد لئن أسقط من شاهق [4] فأتقطع قطعة قطعة أحب الي من أن أتولي لأحد منهم عملا أو أطأ بساط رجل منهم الا، لماذا»؟ فقال زياد: لا أدري جعلت فداك، قال عليه السلام: «الا لتفريج كربة مؤمن أو فك أسره، أو قضاء دينه، يا زياد ان أهون ما يصنع الله بمن تولي لهم عملا أن يضرب عليه سرادق من نار الي أن يفرغ الله من حساب الخلائق، يا زياد فان وليت شيئا من أعمالهم فأحسن الي اخوانك فواحدة بواحدة و الله من وراء ذلك» [5] .

المنحي الثاني:

مارس الامام الكاظم عليه السلام علي هذا المسار دورا تثقيفيا هاما في المجال السياسي العام و الخاص، فعلي الخط السياسي العام عمل عليه السلام علي تحريك ضمير الأمة، بعناوينه الكبيرة في الدائرة الاسلامية الواسعة، نحو أهدافها الكبيرة في خط الترشيد العام في حركة الأمة و مساراتها الرسالية العالية، فيما



[ صفحه 119]



لاحظناه من التعريف الشامل بالثورة الحسينية، و الحث علي زيارة الحضرة المقدسة لصاحبها الامام الحسين عليه السلام، و الدفاع عن أصالة أهدافها و قيمها الرفيعة، و التفاعل مع معطياتها الحضارية و الانسانية و دعوة الناس الي تعميق صلتهم الروحية و الفكرية مع نهج و خط هذه الثورة [6] ، و قد ركز امامنا عليه السلام، في هذا السياق، علي ضرورة الانفتاح علي الله في كل مواقع الحياة لأنه أساس أي عمل تغييري يقوم به الانسان، انها التقوي (الجهاد الأكبر) [7] .

يقول عليه السلام في وصيته لبعض ولده [8] : «يا بني اياك أن يراك الله في معصية نهاك عنها و اياك أن يفقدك عند طاعة أمرك بها و لا تخرجن نفسك من التقصير في عبادة الله و طاعته فان الله لا يعبد حق عبادته».

أما علي صعيد «المجال السياسي الخاص» فقد انطلق الامام عليه السلام في حملة توجيهية داخل الدائرة الانتمائية الخاصة بكتلته الشيعية المؤمنة، بما تتمايز، عن غيرها، ببعض الخصائص و السمات الموضوعية في طبيعة انتمائها و وعيها في البعد الحركي، في تركيزه عليه السلام المكثف علي البعد الفكري السياسي الذي يجب أن يكون واضحا في الرؤي و المفاهيم لمرحلة ما بعد التغيير، و هذا ما نقرأه في توجيهاته و وصاياه و حكمه التي كان عليه السلام يصدرها و يطلقها تباعا علي شيعته و أصحابه، جاء في وصيته لهشام بن الحكم: «يا هشام عليك بالرفق فان الرفق يمن و الخرق شؤم، و ان الرفق و البر و حسن الخلق يعمر



[ صفحه 120]



الديار و يزيد في الرزق، من صنع اليك المعروف فعليك أن تكافئه» [9] و قال عليه السلام لعلي بن يقطين محذرا اياه من سلبيات العمل عند السلطان الجائر، و ما هي كفارة هذا النوع من الأعمال؟: «كفارة عمل السلطان الاحسان الي الاخوان، و كلما أحدث الناس من الذنوب ما لم يكونوا يعلمون أحدث الله لهم في البلاء ما لم يكونوا يعدون» [10] .

و في اطار حديثنا عن دور الامام الكاظم في توجيه و توعية و تثقيف المجتمع الاسلامي في الدائرة الاسلامية الشيعية الخاصة و الاسلامية العامة، و تركيزه عليه السلام علي أهمية البناء الداخلي للانسانية في عملية انتقال المجتمع من مستوي الي آخر، نتساءل: ما هو دور الانسان في حركة التاريخ؟ هل دوره سلبي أم ايجابي؟ و هل هناك علاقة بين فكر الانسان و ارادته و وعيه و أساسه (و محتواه) الداخلي و بين عملية التغيير الاجتماعي؟ تتميز حركة التاريخ - عن كل الحركات الأخري - بأنها ذات غاية و هدف، أي حركة غائية تتطلع الي المستقبل الذي يقوم بعملية جذب و شد و تحرك أي نشاط تاريخي من خلال الوجود الذهني الذي يحتويه و يتمثل فيه هذا المستقبل، و بذلك تكون أسباب الحركة التاريخية مرهونة للوجود الذهني [11] أي لفكره و ارادته.

ان هذين الأمرين (الفكر والارادة) هما في الحقيقة المحتوي الشعوري للانسان، اذا المحتوي الداخلي للانسان هو الذي يصنع هذه الغايات، و يجسد هذه الأهداف من خلال مزجه [12] بين فكرة ما و ارادة معينة [13] ، و بذلك صح



[ صفحه 121]



القول بأن المحتوي الداخلي للانسان هو أساس حركة التاريخ، و هذا ما تشير اليه، صراحة، الآية الكريمة: (ان الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد: 1] لذلك عندما انطلقت جهود امامنا الكاظم عليه السلام، في اطار دعوته أصحابه و شيعته الي بناء النفس و تقوية الروح و تغذيتها بالقيم الالهية، أي التركيز و الاهتمام بالمحتوي الداخلي لهم، فان ذلك يعني أنه كان مدركا، تماما، لأهمية دور ارادة الانسان في عملية احداث التغيير و الثورة في مجتمع الفراعنة و الطواغيت، لذلك انطلق عليه السلام - من خلال وعيه العميق لتلك المعطيات - موجها و ناصحا و مشرفا علي أصحابه و شيعته، يدعوهم الي الالتزام العميق بقيم و مبادي ء الاسلام، كما يظهر ذلك في كل وصاياه و ارشاداته الخالصة و العامة التي تتصل بالتربية الاسلامية الصحيحة في العقيدة و التشريع و الأخلاق و المنهج العملي في حركة العلاقات العامة و الخاصة، و في النظرة الي الواقع و الي الناس من حوله لأن بناء و تنمية الداخل الانساني (الجهاد الأكبر) [14] هو الأساس في عملية التغيير الخارجي (الجهاد الأصغر) [15] ، يقول عليه السلام: «و جاهد نفسك لتردها عن هواها، فانه واجب عليه كجهاد عدوك» [16] ، و بالتالي اذا فصل الجهاد الأصغر عن الجهاد الأكبر فقد الانسان مضمونه و جوهره الداخلي، و شلت ارادته، و فقد قدرته علي التغيير الحقيقي علي الساحة التاريخية و الاجتماعية.

من هنا يتطلب التغيير الاجتماعي الحقيقي توازنا مدروسا بين الجهادين الأكبر و الأصغر، و عدم الفصل أو التفريق بينهما، و الواضح أن الحركة الاسلامية المعاصرة (و بعض نخبها وقادتها ممن اصطلح علي تسميتهم خطأ، بالمعتدلين) قد وقعت في شرك الفصل بين هذين الجهادين، اذا اعتبرت بعضها أن الأولوية، في عملية التغيير، يجب أن تعطي و تمنح للجهاد الأكبر - فرديا و اجتماعيا - و ذلك بالعمل علي تصعيد الحركة و تركيزها فقط علي الجانب الثقافي و التربوي



[ صفحه 122]



في المجتمع مع اهمال الجوانب الأخري التي تتصل بحركة الجهاد الأكبر في اعتقاد منهم أن تكثيف الدعوة التربوية و التوجيهية هو عمل فعال قد يتيح المجال للاسلام في استلامه الحكم بطريقة طبيعية هادئة، لكن من الواضح أن هذا النمط التفكيري يعبر عن وعي ساذج بطبيعة الواقع الفكري و السياسي و الاجتماعي المعقد الذي تعيشه مجتمعاتنا العربية و الاسلامية بشكل عام، اذ تتغافل (هذه الشخصيات المثقفة صاحبة تلك الدعوة) عن عنصر الاجراء المضاد الذي يمكن أن تلعبه و تتخذه السلطات الحاكمة في قمع و ارهاب تلك الدعوة السلمية، و ذلك من خلال محاصرتها بمختلف الأساليب الاعلامية و السياسية و الأمنية و بالتالي عزل نخبتها السياسية، و ابعادها عن ساحة التأثير في الحياة أو علي الأقل تحجيم دورها الاجتماعي. أما بالنسبة للاتجاه الثاني الذي يدعو الي اعطاء الجهاد الأصغر الأولوية في عملية التغيير (ممن أسمتهم وسائل الاعلام و الاستخبارات الغربية بالمتطرفين) فقد أثبتت التجربة أنه مارس أساليب قمعية و اكراهية وحشية في عمله الدعوتي بعيدة كل البعد عن المواقف الشرعية الاسلامية، كان سببها عدم الالتزام بجهاد النفس و ممارسة التقوي و الوعي للقيم الاسلامية، لذلك وضع (هؤلاء) أنفسهم في طريق الانحراف السياسي و العقائدي، و شوهوا صورة الاسلام في الخارج العالمي (الذي يعمل جاهدا علي تشويه و مسخ صورة الاسلام حتي من دون أدلة و اثباتات). ان هؤلاء قد غفلوا عن قاعدة اسلامية هامة و هي أن الركيزة الأساسية في عملية التغيير السياسي و الاجتماعي يجب أن تنطلق من الالتزام النفسي و السلوكي و الفكري بالاسلام كقاعدة للفكر و الحياة، و أن أي قفز فوق هذه القاعدة قد يؤدي الي تخريب جزئي أو كلي لقيم و مبادي ء الاسلام.

ان الدعوة الاسلامية الحقيقية الصادقة، في ممارسة عملية التغيير، يجب أن ينطلق فيها الجهاد الأكبر جنبا الي جنب مع الجهاد الأصغر، و هذا هو الموقف الاسلامي الدقيق الذي يجمع بين الجهادين و لا يفرق بينهما و لا يفضل أحدهما علي الآخر، من أجل المساهمة في صنع شخصية اسلامية هادئة، و واسعة الصدر، و منفتحة علي الآخرين، و عقلانية في تفكيرها، و موضوعية في



[ صفحه 123]



نظرتها الي الأشياء، و حليمة في مواجهتها للتحديات الاجتماعية [17] .

استنتاج هام: دلالات و أبعاد حركة المقاطعة أو المشاركة في الحكم السياسي:

ما هي طبيعة العلاقة التي يجب أن تقوم بني الحاكم، الذي يمثل وجودا غير شرعي، و المحكومين المستضعفين في أجواء الضغط و القهر السياسي و الأمني؟ هل تنعزل عن أي ارتباط أو أية مساعدة له؟ و هل يساعد ذلك علي تقوية الحق و اضعاف الباطل؟ ثم ما هي المكاسب التي يمكن تحقيقها عند التعاون مع الأنظمة الجائرة؟

في الواقع، تتداول الأوساط الثقافية و السياسية، بشكل عام، فكرة لا تزال موجودة، حتي الآن في الأجواء الثقافية لأتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام، و متجذرة في وجدانهم الفكري، مفادها ضرورة الامتناع المطلق (أي الرفض المطلق) عن مساعدة أي حكم ما دام غير شرعي، و لا يستند في وجوده و امتداده الي بعد قانوني اسلامي، و قد انطلقت هذه الذهنية في حركة الواقع السياسي الاسلامي لتعزل كل هذا الواقع التاريخي عن أي نشاط أو عمل فاعل في هذا الموقع أو ذاك، مما أدي الي اضعاف الحركة الرسالية المنطلقة في أجواء الحق من جهة، و ساعد علي تقوية حركة الباطل من جهة ثانية، لأن واقع الحق - في حالة العزل - سيضعف علي حساب اهتزاز الارتباط، و بالتالي ستعمل مصالح أهل الباطل علي أضعاف أهل الحق لأن مصالحهم سوف تسقط و لأن واقعهم



[ صفحه 124]



سوف يضعف، و لأن الآخرين سوف يطبقون و يضغطون عليهم و ربما يؤدي بهم الأمر الي أن يحركوهم في أجواء الانحراف من خلال الضغط الذي يتحرك هنا و هناك.

في ظل هذا الفهم نطرح السؤال التالي: كيف يمكن توعية الأمة علي ما يمكن تسميته «بثقافة التعاون مع الحاكم»؟.

نفرق هنا بين مسألتين، الأولي: الجانب الثقافي في الرفض، و الثانية: الجانب الواقعي في التعاون.

أقصد بالأولي، وجود ثقافة سياسية كاملة تقوم بتنمية روح الرفض النفسي، في ذهنية الانسان المستضعف، تجاه ظلم السلطة القائمة في عدم التعاون أو التحالف معها.

بمعني آخر: تثقيف الناس كما ثقف الكاظم عليه السلام (صفوان الجمال) عندما قال له: «من أحب بقاءهم فهو منهم»، أي أن ينزع المرء من قلبه، عند التعاون معهم، كل عاطفة أو احساس تجاههم. و يبقي في داخله كل التصورات و الانطباعات السلبية عنهم، أي أن تعتمد الطريقة الكاظمية، في الجانب الثقافي من هذه المسألة، علي أن ينزع الانسان المؤمن من قلبه كل فكر و عاطفة يمكن أن تتحول الي شرعية لهذا الظالم أو ذاك. و أقصد بالمسألة الثانية (الجانب الواقعي في التعاون): الدخول في جهاز الحكم القائم من أجل حماية الحركة الفكرية و السياسية و الحفاظ علي القضايا و المصالح العامة للمستضعفين الذين قد لا يكون لهم صوت أو موقع، فيكون التعاون مع النظام الجائر و الدخول في صلب نظام الفكر و الطغيان، في هذه الحالة، ضرورة ملحة من أجل حماية الواقع الاسلامي، لكن يجب أن يكون هذا الدخول مدروسا و محسوبا بدقة، و حتي اذا أردنا أن نمارس الرفض الايجابي، فيجب أن يكون رفضا واعيا، يحقق مصلحة اسلامية عليا لا مجرد مصالح فردية متناثرة هنا و هناك.

و في هذا المجال نؤكد علي أهمية التجربة الرائدة للحركة الاسلامية في لبنان في دخولها المنظم و المدروس الي واقع النظام القائم هناك - في اطار



[ صفحه 125]



عمليها «السياسي - العسكري» - بالحوار و اقامة العلاقات، و الانفتاح علي الآخرين و المشاركة في الحياة السياسية من موقع المعارضة الفاعلة التي تحكمها عناوين اسلامية دقيقة (أعني بها المصالح [18] و المفاسد و الاضطرار) تعطيها شرعية الحركة في هذا المضمار أو ذاك مما قد يحقق للاسلام و المسلمين قفزة نوعية علي صعيدها الثقافي و السياسي.

ان التجربة الاسلامية في لبنان و مشاركة أفرادها في صلب الواقع السياسي و الثقافي و الاجتماعي تنطلق من فكرة أساسية هي أنه عند عدم القدرة علي احداث تغيير شامل. ان ذلك لا يلغي قطعا مسؤولية الفرد و الجماعة في مرحلة الحركة باتجاه التغيير لأن الظروف الضاغطة قد تكون آنية و مؤقته، و يمكن تفكيك عناصرها بشكل علمي مدروس و حكيم، و ذلك بالاستفادة من طبيعة اللعبة الديمقراطية [19] كموقع متقدم من مواقع الاعلام و التحرك لمصلحة الاسلام في مواقعه التشريعية و السياسية علي أكثر من صعيد.

اذا، طالما أن هناك أهدافا سياسية و اجتماعية و فكرية تغييرية عامة تسعي الحركة الاسلامية (و حتي أي حركة باحثة عن موقع قوي لها في ساحة الحياة)



[ صفحه 126]



الي تجسيدها و تحقيقها و غرسها في اطار الواقع الذي نمت فيه، فان توفير امكانات الوصول الي تلك الأهداف العالية و الطموحة لا يتحقق بالانغلاق علي الذات و الركون في زوايا الحياة المهملة كعنصر من عناصر الاختناق و السقوط و الموت، بل يحتاج ذلك الي عملية انفتاح واعية علي الآفاق الواسعة التي تطل بها علي ساحات الآخرين لتستفيد من تجاربهم و خبراتهم في مواقع قوة الحركة لا ضعفها.

اننا نلاحظ - في هذا السياق - أن هناك مشكلة أساسية تسيطر حاليا علي ذهنية كثير من الدعاة و النخب الاسلامية، و تتحكم في مسيرة بعض الحركات الاسلامية، و هي التفكير بالطريقة الحدية، اما نعم بالمطلق، أو لا بالمطلق، علي طريقة (السامري) الذي كان يرفع شعار (لا مساس).

اننا نقول لهؤلاء و لغيرهم: اذهبوا و ادرسوا تجربة اليهود، طالما أن الكثيرين منكم غير قادرين و لا يمتلكون الارادة الكافية لدراسة تجارب الواقع الاسلامي في الماضي و الحاضر.

نعم، اليهود و لا نري عيبا في ذلك، فالانسان يستفيد و يأخذ الدروس و العبر حتي من ألد أعدائه، اذا كان ذلك يحقق له امتدادا و تجذرا في ساحة الحياة الانسانية، و ينجز له كثيرا من تطلعاته و أهدافه، و يعطيه الأسلحة الضرورية لمواجهة عدوه.

أقول: ان هؤلاء اليهود الذين لا يشكلون أكثر من ثلاثين مليون نسمة، تجاه أكثر من مليار انسان مسلم، باتوا يسيطرون اليوم علي مفاصل السياسة و الاقتصاد في العالم، فاليهود الموجودون في عمق الادارة السياسية الأمريكية يبلغون حوالي 80 بالمئة، أما ال20 بالمئة الباقية فهي غير اليهود الذين يعيشون تحت تأثير الضغط الاعلامي و الابتزاز السياسي اليهودي، أما علي الصعيد الاعلامي فلا مجال للشك في الاستحواذ العالمي لليهود علي أكثر و أهم وسائل الاعلام و محطات التلفزة العالمية، حتي شكلوا اخطبوطا اعلاميا بات يسيطر علي معظم وكالات الاعلام المسموعة و المقروءة في شتي بقاع المعمورة، يدعون الي قيمهم و مشروعهم العنصري التلمودي، و يضخون في



[ صفحه 127]



وسائل اعلامهم كما هائلا من المعلومات و الأخبار التي تنسجم مع تطلعات و أهداف، ذلك المشروع، في السيطرة و التحكم و الاستحواذ. هؤلاء اليهود لم ينعزلوا عن الواقع بالرغم من الرفض النفسي و العملي الذي كان يمارسه ضدهم الأمريكان قبل غيرهم، حيث كانت المطاعم الأمريكية تضع لافتة مكتوب عليها ممنوع دخول الكلاب و اليهودي، لكنهم دخلوا الي الواقع بكل قوة، و واجهوا ظروف الرفض حتي أصبح الأمريكان (و غير الأمريكان) عبيدا عنهم، و نتسائل (لنستفيد و نعتبر): كيف حصل ذلك؟ و نجيب بالقول: لقد حدث ذلك بأساليب و طرق شتي غير انسانية و لا علاقة لها بالقيم و المبادي ء و الأصول الأخلاقية العامة. و أنا هنا، بالمناسبة، لا أدعو أن نسلك هذه السبل نفسها، هذه السبل لكن أن نفهم الخطوط العريضة العامة.

اذا خطط اليهود للدخول و النفوذ الي جسم العالم. و هم، في طبيعة الصراع الوجودي الذي نعيشه ضدهم راهنا و مستقبلا، فكروا و يفكرون للدخول الي مفاصل الاقتصاد الاسلامي و العربي، لذلك تراهم يسعون في كل حدب وصوب، بقوة و من دون كلل أو ملل، لعقد المؤتمرات الاقتصادية هنا و هناك، كما حصل في قمم (القاهرة و الدار البيضاء و عمان و الدوحة) الاقتصادية، مع أنهم لم يقدموا شيئا في عملية «التسوية!»، كل ذلك يندرج تحت هدف واحد هو السيطرة و التحكم بمفاصل اقتصاد العرب و المسلمين لممارسة الضغط علي الواقع السياسي و الأمني للمنطقة تحقيقا لهدفهم التوراتي الخبيث «حدودك يا اسرائيل من الفرات الي النيل».

نستنتج - من خلال التحليل السابق الذي وجدت أن هناك ضرورة ملحة في عرضه، في سياق حديثي عن امامنا الكاظم عليه السلام الذي عاش حياته من موقع التخطيط و الهدفية و المرحلية من أجل الوصول الي أهداف الاسلام و تحقيق قيمه الرسالية الأصيلة [20] - نستنتج أنه بات واجبا علينا، في خضم



[ صفحه 128]



تحدياتنا و أزماتنا و انكساراتنا و هزائمنا، أن نبدأ العمل و الحركة باتجاه الأفق المطلوب بكل امتدادته في الواقع المعاصر، لأن قيمة الفكرة أو المبدأ الذي نلتزمه، نظريا، هي في أن يتحول الي كائن حي يتحرك في الخط العملي الانساني و ذلك في وعيه و الايمان به، و من ثم التزام مفرداته التي ترتبط، في الأساس، بحركية الهدف الكبير و الطموح، في امتداد الوجود و رحابة الحياة.

لذلك و طالما أن الهدف هو تحقيق مشروعنا و فكرنا في العمل و الدعوة و الهداية، فلا بد أن نعمل - بوعي و ضمن خطة مرحلية حكيمة - علي أن ندخل الي عقول و أفئدة الناس، و أن نعيش جميعا «كدعاة رساليين» تجربة و حس الواقع العملي، و نبض عصرنا و أسلوبه، أي أن يفهم الداعية لغة عصره و ثقافة زمنه الراهن [21] ، أن يفهم لغته و لغة الآخرين، لا أن يسقط تحت تأثير قيم عصره و يتحجم (و يتحجر) في ممارسته لقيمه، ولكن أن يفهم عصره جيدا، أن يفهم حساسيته و ذهنيته و نقاط ضعفه و نقاط قوته، حتي يكلم الناس بلغتهم بعيدا عن التصنع و المغالاة و التكلف، فالذهنية لغة و الجو لغة، لذلك نقول: نحن مسلمون، خطابنا اسلامي، و مشروعنا حضاري منفتح، ولكن علينا أن نطور هذا الخطاب (المشروع) بحيث نبقي له مضمونه الاسلامي الذي يطل علي القضايا المعاصرة من دون اسقاط أو تشويه لمعالمه و خصائصه. و بالمقابل، و من دون أن نبتعد عن لغة العصر و عن أسلوب العصر، نحاور الانسان، نعيش في قلب الساحة و الصراع و نطلق خطابنا و مشروعنا الثقافي و السياسي التغييري العام في كل قضايا الصراع من دون أن نفقد أي شي ء من اسلامنا و من طهارتنا و من نقائنا بشرط أن نكون المسلمين الواعين الذين يعيشون - في واقع التحدي ورد التحدي المعاصر - حالة طواري ء في فكرهم و في أسلوبهم و في وعيهم للواقع، و في حركتهم من أجل الواقع.



[ صفحه 131]




پاورقي

[1] الذي ظهر من خلال ريادته الفكرية و الاجتماعية، و مواقفه و أفكاره المتحركة في مناظراته و أحاديثه التي تحدثنا عنها في موقع آخر من هذا الكتاب.

[2] السيد الغريفي، التشيع، (ص: 266). م. س.

[3] نبيل صالح، نور الولاية، (ص: 175).

[4] المكان الشاهق.

[5] الكافي ج: 1 (ص 110 - 109) نقلنا هذا الحديث سابقا.

[6] قمنا في موقع سابق من هذا الكتاب بدراسة و تحليل هذه الثورة و كيفية و عيها و استلهامها علي ضوء قضايانا المعاصرة.

[7] في اشارة الي حديث أميرالمؤمنين عليه السلام أنه قال: ان رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم بعث سرية فلما رجعوا قال: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر، و بقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله و ما الجهاد الأكبر؟ فقال: جهاد النفس. و قال أميرالمؤمنين عليه السلام: ان أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه، (وسائل الشيعة للحر العاملي، ط: دار احياء التراث العربي: 11 / 124).

[8] تحف العقول، (ص: 302).

[9] تحف العقول: (ص: 291).

[10] م. س (ص: 303).

[11] يعبر الوجود الذهني في داخل الانسان عن شيئين: الأول: الفكر، أي الذي يمثل جملة التصورات و المفاهيم المختزنة عن الهدف و الغاية. و الثاني: الارادة أي الطاقة الكامنة في ذات الانسان التي تحفز (الانسان) للحركة باتجاه الغاية في المستقبل.

[12] ان التفاعل و الامتزاج الوجودي بين الفكر و الارادة يحقق فاعلية المستقبل في تحريك النشاط التاريخي الانساني علي الساحة الاجتماعية و السياسية.

[13] الامام الشهيد السيد: محمد باقر الصدر (رض)، التفسير الموضوعي و الفلسفة الاجتماعية في المدرسة القرآنية (ص: 115).

[14] أي جهاد النفس و البدن.

[15] جهاد العدو الداخلي و الخارجي.

[16] تحف العقول...(ص: 294).

[17] يبدو أن تلك الصفات و الخصائص النفسية و السلوكية الخاصة، التي من الضروري أن تتسم بها شخصية الانسان المسلم، لا تزال غريبة و بعيدة المنال عن كثير من الاسلاميين المعاصرين الذين قد يكونون من الناس الذين ينظرون لهذه الأخلاق ولكنهم لا يعيشونها بعمق و وعي لأنهم لم يتربوا عليها؛ الأمر الذي يجعلهم يمتلكون مزاجا حادا و انفعاليا قد تتزايد حدته و وتيرته بفقدان هؤلاء للنضوج الحركي الناشي ء من التجارب التي تهي ء، للانسان المسلم الملتزم، الكثير من الأوضاع النفسية و الشعورية في ساحات الصراع و المعاناة.

[18] يجب ألا تمس المصلحة الثوابت المبدئية و الطروحات الأساسية (من قيم و مبادي ء و ضوابط معيارية و مركزية) لأنه يمكن اقامة نسيج من علاقات سياسية و من تحرير و عدالة و حرية و مقاومة العدو و مواجهة السياسات الخارجية التي تريد فرض هيمنتها علي الواقع العربي و الاسلامي، من هنا تعطي القيمة - التي تفهم في اطارها الواقعي المتزن - قوة للموقف العملي المتحرك علي أرض الواقع كونها جاءت لتخدم الانسان و لتساهم في تركيز و تثبيت انسانيته في الحياة البشرية و تعمل علي حمايته من نقاط ضعفه؛ الأمر الذي يجعل (القيمة) تعطي الانسان حرية الحفاظ علي قضاياه المصيرية الكبري من دون اسقاط المبادي ء و القيم نفسها.

[19] و ذلك من خلال العمل الدؤوب علي الدخول الي الهياكل المتنوعة للمؤسسات الديمقراطية من أجل الوصول الي مواقع متقدمة هناك ليسهل، من خلال ذلك، العمل علي تحريك قواعد النظام و الاتجاه السياسي فيه الي اتجاهات جديدة منفتحة تلتقي بالتطلعات الاسلامية للانسان، فيما تتحرك نحوه من تغيير لبعض آفاق و محاور الواقع المحلي و الاقليمي في افساح المجال للأجيال الطالعة أن تنمو في الاتجاه السليم، و مواجهة القوي التي تعمل علي اضعافها و تحجيم مواقعها.

[20] اننا عندما ندرس الكاظم عليه السلام في مرحلتنا الراهنة، التي نعايش مفاهيمها و تلوناتها و اختلافاتها، فاننا نريد أن ندرس طبيعة الخطوط الفكرية التي أرادنا عليه السلام أن ننطلق باتجاهها، و نستهدي بها علي خط الله تعالي و رسوله صلي الله عليه وآله و سلم و الأئمة عليهم السلام لأن دورنا كأمة و أفراد و مجتمع في علاقتنا مع فكرنا و مع أئمتنا، هو دور الأمة التي تعيش مع أهل البيت عليهم السلام في امتداد حركتها في الحياة، و في تصوراتها الفكرية و المفاهيمية، و في علاقاتها بكل المسؤوليات التي تتحملها، و في معرفتها العميقة بالقيم الاسلامية.

[21] نبيل علي صالح، وجع الحرية (ص: 114) م. س.