بازگشت

حركيته العلمية و أبرز تلاميذه و أصحابة


اتهجت جهود الامام الكاظم، في هذا المجال، الي التخطيط الواعي لبناء كتلة ايمانية شعبية ملتزمة و مرتبطة بخط أهل البيت عليهم السلام نهجا و سلوكا، و ذلك بتنمية وعيها، و عقلنة عواطفها الجياشة، و رص صفوف قواعدها الشعبية المنتشرة هنا و هناك باعطاء محددات و ضوابط عامة لمعالمها الفكرية و الاجتماعية في بعض مواقع العالم الاسلامي.

لقد كان من الطبيعي، بعد أن تسلط الأشرار علي واقع الأمة، أن ينطلق الكاظم باتجاه ممارسة دوره الهام، المحقق لرسالة الاسلام، في انشاء القواعد و الركائز الخاصة اللازمة للوقوف في وجه تلك المتغيرات الانحرافية الذاتية التي أفضت الي انهيار معنوي كبير بين صفوف مختلف شرائح المجتمع.

لقد تمثلت تلك الخطوة بداية، في سعي الامام عليه السلام الي بناء هيكلية معرفية عامة تستطيع القيام بمهمة الدفاع عن حصن العقيدة، و ايقاف تلك الاندفاعات الفكرية القشرية الناهضة التي كانت تشكل خطرا كبيرا علي الرسالة، و العمل الفاعل علي تفكيك أبنيتها و اسقاط مفاعيلها في بداية تشكلها و نشوئها، لا سيما و أنها قد أثرت بشكل سلبي ملحوظ علي وعي الناس، لذلك وجد الامام الكاظم أن الحل الجذري الحاسم لعلاج ضعف العقيدة في النفوس، و تحكم النزعات الغرائزية بالناس - كنتيجة للمقدمة السابقة التي أنتجت مجتمعا



[ صفحه 24]



ظالما بكل معني الكلمة - وجد عليه السلام أن الحل يكمن في نشر الدين، و تعميم معارفه و قيمه، و الدعوة العاقلة الي التمسك بأحكامه و أهدابه، و تطبيق مبادئه و معاييره.

و هنا بدأ امامنا عليه السلام بحركة علمية نشيطة و واسعة كانت، في مضمونها، استمرارا ايجابيا مؤثرا لنهج أبيه الصادق عليه السلام الذي عاش الكاظم معه نحوا من عشرين عاما، أدرك فيه عهد الأمويين في سن الطفولة، كما و شاهد، في هذ السن و بعده، تقاطر وفود علماء و طلاب العلم و المعرفة من جميع الأقطار تغص بهم المدينة.

و قد ازدحموا علي أبيه عليه السلام شبابا و شيوخا و هم بين مستمع يأخذ منه العلم الحديث، و بين من يناظر في التوحيد و التشبيه و القدر و الامامة، و غير ذلك من المواضيع التي شاعت في ذلك العصر و تشعبت فيها الآراء [1] اذا، قضي الامام موسي أعوامه العشرين كاملة في كنف و رعاية أبيه الصادق عليه السلام، و مضت تلك العشرون و هو الي جانبه يلقنه من فنون العلم و طرائف الحكمة ما يؤهله الي القيادة و الامامة التي كانت تنتظر قدومه.

من خلال هذا المنظور يمكننا الدخول الي أهم نشاط فكري و فاعلية عملية عمل عليها الكاظم عليه السلام من أجل ايقاف هذا المد الهائل من حالة الانهيار و الذوبان والمسخ، و هي فاعلية التخطيط المركز و الاشراف المباشر انطلق الامام في هذا المحور معلنا ضرورة ايجاد توعية عقائدية بين صفوف أبناء المجتمع، و الاسراع في معالجة أسباب الانحراف و ظهور اتجاهات عقائدية باطلة، و بالتالي مكافحتها و الوقوف في وجه تلك النزعات و التيارات التي نتجت عنها كالشعوبية و العنصرية و النحل الدينية.

و كانت الدعوة الي الأفكار الالحادية [2] من أخطر الدعوات المحمومة



[ صفحه 25]



التي أخذت تنشط، و تبث سمومها في نفوس الناشئة الاسلامية، و كان موقف الامام موسي عليه السلام من هذه الدعوة موقف المتصدي و الناقد لها بالأدلة العلمية الرصينة، و المظهر لتهافتها و بعدها عن منطق الواقع، حتي اعترف قسم كبير من حملة تلك المبادي ء بأخطائهم و فساد اتجاههم.

في مواجهة هذه المقدرة العلمية في اسقاط تلك الدعوات الباطلة التي أثقل، تصدي الامام و أصحابه لها، كاهل المسؤولين و المنتفعين هنا و هناك - وقف هؤلاء الأعيان و كبار رجالات الدولة في وجه هذه الحركة العلمية الدعوتية التي لمعت و ذاع صيتها في الآفاق، و تصدوا لها بالتنكيل و الاضطهاد، و منعوا قادتها من الكلام في مجالات العقيدة، الأمر الذي اضطر الامام عليه السلام أن يبعث الي هشام (و هو أحد أصحابه) ليكف عن الكلام و المناظرة نظرا الي خطورة الموقف، فكف هشام عن ذلك حتي مات الخليفة المهدي [3] .

لقد كان لتوجه الامام الكاظم عليه السلام نحو بناء و تشييد القواعد الأساسية للكتلة الايمانية الواعية و اعطائها طابعها المميز، أثر ايجابي كبير في التفاف كوكبة من العلماء و رواة الحديث حوله ممن تتلمذوا في جامعة أبيه الكبري، و زودوا الفقه الاسلامي بطاقات و مواهب كبيرة من آرائه الحصيفة [4] ، و قد تولي هؤلاء، مع الامام عليه السلام، مهمة الاشراف المباشر علي الموالين و القواعد الشعبية و التنسيق معها في كل المجريات الحياتية [5] و بخاصة في ما يتعلق منها



[ صفحه 26]



بطبيعة الموقف تجاه الحكم السياسي و المشاركة أو عدم المشاركة فيه [6] .

لقد أجمع الرواة علي وجود شخصيات فكرية روائية عديدة اشتهرت بفقهها و علمها و نقلها الروايات عن الامام الكاظم عليه السلام، كان من أبرزها:


پاورقي

[1] هاشم معروف الحسني، سيرة الأئمة الاثني عشر، (ج: 2)، (ص: 297)، بيروت 1986.

[2] عادل الأديب، الأئمة الاثنا عشر، دراسة تحليلية، (ص: 185)، الدار الاسلامية، 1985.

[3] راجع رجال الكشي (ص: 172).

[4] روي السيد ابن طاووس: أن أصحاب الامام موسي (ع) و خواصه كانوا يحضرون مجلسه و معهم في أكمامهم ألواح آبنوس و أمبال فاذا نطق بكلمة أو أفتي في نازلة بادروا الي تسجيل ذلك، و الاستفادة من العطاء العلمي الرصين للامام (ع). (راجع الأنوار البهية ص 91).

[5] جاء في كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري «باب الولاية من الجائر» أن الامام الكاظم (ع) قال لصاحبه زياد بن أبي سلمي محذرا اياه من مغبة الدخول في سلك حكومة هارون: «يا زياد، لئن أسقط من شاهق فأتقطع قطعا أحب الي من أن أتولي لهم عملا أو أطأ بساط رجل منهم».

[6] سيدرس هذا الموضوع لا حقا في الجانب السياسي من حياة الامام (ع).