بازگشت

تساؤل و استنتاج نقدي


كيف يمكن أن تمارس الحركة الاسلامية المعاصرة عملية النقد الذاتي الحضاري؟!.

دخلت الحركة الاسلامية المعاصرة - في بداية عقد التسعينات - في مرحلة جديدة علي صعيد مكوناتها الذاتية و الموضوعية، و ممارساتها الحركية في ميدان الواقع في عصر شهد تحولات و تغيرات سياسية و فكرية ذات تعابير و خصوصيات دقيقة و متنوعة. شكلت، بمجملها، مفصلا هاما في واقع العالم الحديث الذي يعبر، حاليا منعطفا تارخيا جديدا في مسيرة حركة التقدم البشري [1] .



[ صفحه 146]



و كانت فترة الثمانيات قد شهدت تحقيق بعض المكاسب و الانتصارات لمسيرة العمل الاسلامي و في مقدمة تلك التحولات و المكاسب وصول الحركة الاسلامية الي الحكم السياسي في ايران، و دخول الحركة الاسلامية في لبنان في حرب مواجهة عسكرية و أمنية حقيقية ضد الكيان الصهيوني، و تقدم [2] الجهاد الاسلامي في أفغانستان، و تطور مستوي الكفاح و النضال عند الاسلاميين في بعض مواقع العمل في الوطن العربي و الاسلامي، و تنامي الصحوة الاسلامية التي كانت علامة فارقة علي تسييس الشارع الاسلامي، و يجب ألا ننسي، في هذا المجال، الحدث الانتفاضي الكبير - اذا صح التعبير - الذي تمثل بالانتفاضة الشعبية العارمة في الضفة و القطاع في الأرض المحتلة و التي كان لها أعمق الأثر علي طبيعة موازين حركة الواقع العربي و الاسلامي.

ازاء كل هذه التحولات السريعة علي مستوي العمل الحركي الاسلامي العالمي يمكن أن نتساءل: الي أي مدي نجحت الحركة الاسلامية في وعي الواقع و استيعاب الأحداث و مراجعة الخيارات و الحسابات المطروحة أمامها؟ و الي أين وصلت تنظيراتها الفكرية و السياسية، و كيف تخطط للعقد القادم الملي ء بالأحداث و المفاجآت؟ بمعني آخر: كيف تنظر هذه الحركة، من خلال سياساتها و استراتيجياتها، الي مواقع العمل و الدعوة العالمية الراهنة؟ هل



[ صفحه 147]



عملت، تلك الحركة، علي دراسة تجربتها و تجارب الحركات الأخري السابقة؟ أين هي الايجابيات و مواقع الاشراق؟ و بالمقابل أين هي السلبيات و مواقع الظلمة؟ و لعل السؤال الأخطر بين كل تلك الأسئلة هو: ما هو موقع النقد و النقد الذاتي و محاسبة النفس و الذات الاسلامية - اذا صح التعبير - من أفكار و مبادي ء الحركة الاسلامية المعاصرة؟!.

خلال الفترة الماضية، تفاعلت الحركة الاسلامية بصورة مباشرة، مع الواقع اليومي و مارست فيه نشاطات و فعاليات مختلفة و انخرطت، بشكل أو بآخر، في اطار تطورات الواقع السياسية و الاجتماعية حتي باتت طرفا فاعلا و مؤثرا في بنيته و مكوناته و مجرياته و أحداثه؛ الأمر الذي جعل أفكار و نظريات الاسلاميين أكثر احتكاكا و تواصلا و قربا من مجريات التطبيق الواقعي، و بالتالي أصبح بالامكان انضاج «و تشذيب» تلك المبادي ء و الطروحات، خاصة بعد أن تعاظمت تحديات و متغيرات العصر الراهن.

اننا نستطيع أن نقول - بعد النظر الي مسيرة الاسلامية المستنيرة حاليا -: ان عقلها الاسلامي قد أصبح أكثر وعيا و انفتاحا واتساعا، حتي أنه قد أنضج مفهوم النقد و النقد الذاتي، و ان كان ذلك الأمر لايزال، علي مستوي السلوك و الممارسة، بحاجة ماسة الي ترشيد موضوعي سياسي و اجتماعي و أخلاقي.

اننا نعتقد أن المرحلة الحاضرة هي في أشد الحاجة الي بناء عملية النقد و النقد الذاتي بطريقة حضارية تتسع للجميع، و في الوقت نفسه هي بحاجة أيضا - و كما ذكرنا - الي توعية و ترشيد سلوكي منظم في تكوين ممارسة نقدية فاعلة و قادرة علي الاستجابة لتحديات الحضارة الحديثة. فالأولي الآن نقد الذات، أي نقد الفكر و نقد النقد، كرهان ايجابي للخروج من المأزق الذي نعيشه راهنا، و لا حاجة بنا الي التكرار بأن النقد ليس مجرد دحض للمقولات القائمة، أو اضفاء لبعض المفاهيم السائدة، أو تفكيك الآليات المعرفية الاسلامية القائمة أو اضفاء و نقد محدداتها العامة، و لا هو اقصاء للرموز و الأسماء و الشخصيات بالعكس: ان النقد هو البحث و التقصي الدائب عن امكانات و فضاءات عامة



[ صفحه 148]



للتغيير و الحركة، انه محاولة توليد امكانات جديدة للقول و الممارسة و العمل.

بالدخول الي كل ما يخرج عن نطاق التفكير من المناطق المجهولة المستبعدة أو المطموسة في ذاكرتنا و وعينا و حتي في حضارتنا اننا نحتاج، من خلال النقد، الي اعادة صياغة حضارية لعلاقتنا مع الوجود و العالم عبر قراءة الواقع و تشخيصه و خلق لغة فعالة تنتج تصورات و مفاهيم عملية جديدة يمكن أن تساهم في تشخيص الواقع و اجتراح القدرات أو ابتكار الحول و فتح الآفاق المسدودة، من هنا تكون احدي أهم وظائف و مهام المثقف الناقد و المراجع انخراطه النوعي الفعال في الزمن الحاضر [3] ، بحثا و استقصاء عن مواقع جديدة للتأثير في طبيعة الأحداث الراهنة في تغيير بعض معالم الفكر السائد، و ذلك لاعادة تنظيم و رسم خارطة القوة و علاقات السيطرة الموجودة، و المشكلة الكبري التي تقف أمام تقدم هذا العمل هو عدم الجمع بين الأصول العقيدية الاسلامية و العلوم الاجتماعية، أي ربط العقيدة بواقع المجتمع و الحياة المعاصرة من أجل احداث تلك التغييرات الكمية و الكيفية التي تتوقف علي وجود رؤية فكرية واضحة المعالم لتحقيق المثل الأعلي، فمثلا التوحيد - كأصل عقيدي - ينطوي علي الايمان بالله تعالي كهدف أعلي و نموذج أرقي للمسيرة الحضارية و التكاملية البشرية، أما الرؤية الاجتماعية للعبد التوحيدي فانها توحد و تماهي بين العقيدة التوحيدية، و دافع الحياة الفردي و الاجتماعي، بين المثل و الطموح و الهدف، و بين التطلعات البشرية، و تجعلها تحت ظل هذا



[ صفحه 149]



المثل الأعلي الذي هو علم و قدرة كله، عدل و رحمة كله، و انتقام من الجبارين كلهم.

ان عقيدة التوحيد تقدم لنا المثل الأعلي (الله تعالي) الذي تتوحد فيه كل الغايات و الطموحات، بينما الرؤية أو النظرة التطبيقية الاجتماعية لعقيدة التوحيد تعلمنا أن نتعامل مع صفات الله، و أخلاق الله، لا بوصفها حقائق عينية منفصلة عنا، كما تعامل معها فلاسفة الاغريق [4] ، و انما نتعامل مع هذه الصفات و الأخلاق بوصفها رائدا عمليا و هدفا لمسيرتنا العملية، و بوصفها مؤشرات علي الطريق الطويل للانسان نحو الله سبحانه و تعالي: (يا أيها الانسان انك كادح الي ربك كدحا فملاقيه) [الانشقاق: 6].

و هكذا بالنسبة لبقية الأصول العقائدية الاسلامية التي يجب أن نقيم، من خلال فهمنا لها و للأصول الاجتماعية الأخري، ارتباطا عمليا بين عقائد التوحيد من جهة و بين ما يترتب عليها من التزامات و تعهدات و اجراءات عملية علي أرض الواقع، علي هيئة استعدادات و تهيئات مسبقة من جهة أخري، بناء علي ذلك نجد ضرورة قصوي في أن ينصب النقد [5] حاليا علي الجوانب الحضارية في الحركة الاسلامية المعاصرة خاصة الجوانب التي ذكرناها آنفا، و هو - في الواقع - تحد كبير يهدف، أساسا، الي ايضاح و ابراز - و من ثم نقد - معالم المشروع و المركب الحضاري الاسلامي الذي يعبر عن مضمون حضارة الاسلام و رؤيتها الكونية في الحياة و الوجود و الانسان و الواقع الراهن كتجل لروح الاسلام و عقيدته التوحيدية بصورة قانونية و تشريعية فعالة في كافة أوصال و أبعاد و اتجاهات الحياة و المجتع السياسية و الفكرية و الثقافية و السياسية و الاقتصادية و التربوية، و يبقي السؤال المطروح في ظل الوقائع و الظروف العامة الحافلة



[ صفحه 150]



بالكثير من المتناقضات هل ننجح أم نفشل؟! نقول في اجابتنا كخلاصة عامة لما تقدم: ان الحركة الاسلامية التي تمر اليوم بهذه التحولات و التقلبات الكثيرة ذات المعالم و السمات الكونية، هي بأمس الحاجة الي صياغة ذاتها و تحسين و ضعها الحضاري بين الأمم و الحضارات الأخري، و ذلك علي أسس و خصائص جديدة تطور من مشروعها و من وعيها لأبنيتها الداخلية في علاقتها مع نفسها و مع الآخر في الاتجاه الواقعي الحضاري، و لعل من أهم وسائل تحقيق ذلك: التزام النقد و المحاسبة الحضارية المنتجة و الفاعلة التي لها دور حاسم في تغيير طريقة تفكير البشر و الارتفاع بنوعية ممارساتهم العقلية، أي بوعيهم، و بالتالي في تحسين قدرتهم (تنمية ارادتهم) علي المبادرة التاريخية و الارتفاع بمستوي سلوكهم العملي الفردي و الجماعي، و أي مسعي للخروج من الأزمة الحالية (بما فيها أزمة عدم وجود نقد موضوعي هادف) لا بد و أن يبدأ باصلاح واقعنا السياسي، و نظرتنا الي السياسة بحد ذاتها، أي بتطوير الممارسة الجماعية و توفير فرص المبادرة و المساهمة المشتركة لجميع الناس في المشروع الكبير لاعادة اكتشاف الانسان في ثقافتنا الدينية و الدنيوية الحضارية و من ورائه اعادة انتاج و اختراع الحداثة.

حداثة الانسان و الحداثة المؤنسنة، و جوهر الجهد في اصلاح السياسة لا يكمن في الغاء أي عقيدة أو الدعوة الي تأويل أي نص ديني مقدس أو مدني (بالمعطي السلبي) ولكن في تغيير و تجديد قواعد التعامل بين مختلف الأطراف و السلطات الفردية و الجمعية الدينية و المدينة، أي في تغيير شروط الممارسة الفكرية و العملية داخل النظام الاجتماعي، فهو الذي يسمح بتغيير التوازنات بين القوي و العناصر و التيارات و الرؤي المختلفة، و يساعد علي نمو الأفكار و القيم و السلوكيات الجديدة، (خاصة النقدية منها).


پاورقي

[1] فعلي الصعيد العالمي: اتصفت هذه المرحلة بتحولات علي أكثر من صعيد، و ضمن عدة محاور لعل أبرزها اكتشاف «التقنية الحيوية» و الهندسة الوارثية» أو ما اصطلح علي تسميته «بالبيوتكنولوجيا» الذي أثار جدلا واسع النطاق في أوساط علماء القانون و الأخلاق و الاجتماع.

أما علي صعيد الفكر و الفلسفة: فقد شهدنا سقوط و انهيار أكبر أيديولوجية وضعية في العصر الحديث و هي الماركسية و الاشتراكية العلمية.

أما علي الصعيد العسكري و الأمني: فقد كانت حرب الخليج الثانية عام (1990 م) مسرحا حقيقيا لصراع التكنولوجيا المتطورة و الالكترونيات الحديثة و التقنية الاعلامية «فائقة السرعة» بالاضافة الي صراع المصالح و النزاعات السياسية و الاقتصادية و الثقافية، الأمر الذي خلق تحولات في نظم و قيم المجتمع الثقافية و القانونية و الاقتصادية، و أحدث تداعيات وانهيارات عربية و اسلامية تمظهرت، في أعلي تجلياتها، بمسيرة التسوية المزعومة بين العرب والكيان الصهيوني، و فتح المجال لشرعنة وجود اسرائيل في قلب المجتمع العربي و ما يمليه ذلك من تحولات سلبية ضد مصالح العرب و المسلمين.

[2] أقصد بكلمة «التقدم» هنا، استمرارية الجهاد الأفغاني ضد الوجود الشيوعي في أفغانستان حتي انتصاره عليه في مطلع التسعينات، و لا أعني بها مطلقا تقدم الفكر أو المعرفة عند أولئك، بل علي لعكس من ذلك فقد دخل هؤلاء الأفغان «المسلمون!؟» في صراعات قبلية و عرقية و عشائرية دموية طاحنة ضد بعضهم البعض بعد اخراجهم للسوفييت من بلادهم.

[3] هذا لا يعني، اطلاقا، انخراط المثقف في ثقافة التسوية التي أصبحت جزء من ثقافة الغرب المعاصر، بل يعني وعي و دراسة الشروط و المقومات الذاتية و الاحضارية لهذا الانخراط، عبر تحديدنا للأطر أو البني أو النواة الفكرية أو الحضارية أو السلوكية التي تشكل جوهر الثقافة و جوهر الشخصية الحية في تمايزها عن الآخرين، و هذا التحديد هو الذي يسمح، دون قلق، بالانفتاح و الانخراط في الواقع و العصر، حيث أنه كلما كانت شروط و نظام المناعة في داخلنا قويا تصبح قدرتنا علي استيعاب الأشياء الخارجية، ثقافية كانت أم غير ثقافية، أكثر حيوية و دينامية، و يصبح انخراطنا في الواقع العصري هادفا و مدروسا.

[4] الشهيد السعيد السيد: محمد باقر الصدر (رض)، التفسير الموضوعي و الفلسفة الاجتماعية (ص: 152)، م. س.

[5] النقد الذي ينطلق - كما ذكرنا سابقا - من خلال وعي الحركة الاسلامية لنقاط ضعفها في داخلها، لا من خلال أن تنتظر المتغيرات السياسية و الدولية و الاقليمية لتراجع حساباتها و تفكر في أوضاعها الصعبة التي تتحداها من الخارج.