بازگشت

الإمام الباقر


انه خامس الأئمة بالعدد المتسلسل، و لكنه النازل - في حسابي - ثانيا في العقد المختص ببناء الأمة، علي أساس ركين لا تتمكن من زعزعته عوادي الدهر... و الثاني يعني انه الإمام الابن الذي خلف أباه الإمام زين العابدين الطالع من حزن كربلائي، ما كاد يفجر دم ابيه الحسين، حتي فجر فيه - هو بالذات - مواهب انبلجت من مداركه، و أكدت له: أن الخنجر، الصدي ء الذي حز رأس ابيه، هو ذاته الملفوف به صدر الأمة الهاجعة في أخاديد الليل!!! ان الجريمة الشنعاء - و قد حصلت في كربلاء - تشهد أن الجهل جعلها تحصل!!! و متي كانت الجريمة غير بنت الهزيمة، هزيمة العقل الذي لا ينوره العلم فيمنعه من ارتكاب الجريمة؟!! و الجريمة؟ أليست هي ذاتها الهمجية التي غرق فيها يزيد؟!!! و الجيش الذي جمعه يزيد؟ أليس هو الأمة في قبولها المنحني أمام عنجهيات يزيد، و لم يمكنها إلا أن تخضع لأوامر يزيد، في تمكينه من ارتكاب الجريمة التي هي محض همجية!!!

لقد صم الإمام زين العابدين - كما فهمنا منذ لحظات - علي محو



[ صفحه 52]



الجهل من ليل الأمة... اجل، الأمة التي ما كاد يهل في صبحها نجم، ما تلملمت بمثل شعاعه منذ زمن طويل، حتي هبت اليه تطفي ء نوره و تخنقه بالعصيان، و تحد من زخم امتداده ضوءا مطلا فوق مشارفها، من يوم يبتدي بعلي، إلي غد لا ينتهي به الزمان!!! فليحذف ابن أبي طالب، من دوحة المكان - و كذلك فليلحق به الحسنان!!! اما الليل الطويل، فهو الذي تقر - فيه - عين الزمان!

أي شي ء، من كل هذا، لم يدركه الإمام زين العابدين في تأمله الصاحي، و راح يرسم له عزما علي محوه - جهلا - يعرقل الأمة عن أي بلوغ؟!! العلم - وحده - إذ يشمل الأمة، و لو بعد وقت طويل، يحرر الأمة من ارتكاب الجريمة!!! و هكذا رأيناه يفتح بوابة المسجد مدرسة ستصبح جامعة علمية في يومها المقبل... اما ابنه الباقر، فهو المحضر للتفتيش عن كل كتاب و لو كان في طرف الأرض، لا لتتزين به رفوف المكتبة في جامعة يثرب، بل ليدرسه الفتي النجيب، و لينقله علي الطلاب: علما، و نورا، و هديا.

فلنتعرف عليه هذا الباقر، و لنصفه الوصفتين: الجسدية و الروحية، حتي نراه في هذا الجسد، بالذات - و هو القصير القامة، و غير البدين، و غير المديد الساعدين، و غير العريض الجبين... حلت به و فيه روح عبقرية، جعلت قامته أطول من رمح، و ساعديه كانهما جدلة قنب، و جبينه واسعا كأفق، و عينه الصغيرة الصغيرة، كانها عدسة مجهر، تلملم الأبعاد من خلف البصائر، و من تحت الوهاد، لتنشرها ضوءا تستضي ء بها ألباب العباد.

ألا يكفيه فخرا هذا الفتي الخارج من لوعة جده الحسين؟ لقد عاش في حجر جده الحسين اربع سنين، قبل ان يغيب جده المغوار في عب الشهادة! إنه - بالذات - هذا الفتي الضيق العين، ثقب بلاس المخيم في كربلاء،



[ صفحه 53]



و شاهد، من الثقب الصغير بعينه الصغيرة، جده الأكبر من الجريمة، و الهزيمة، يتمدد قتيلا، ثم مقطوع الرأس، في مرابع كربلاء!!! لم يعتلج بأكثر من رمي ذاته إلي الساحة الممتلئة بنزف الجراح!!! و بقي صامتا منذ ذلك الحين، إلي حين آخر، همزه فيه ابوه زين العابدين، إلي التفتيش عن كتاب و قرطاس، يكتب بهما و عليهما اسم جده الحسين، و اسم الأمة التي لم تتعلم كيف تنجي الحسين من فخوخ الجريمة!!! و لن يخفي الجريمة إلا الكتاب و القرطاس، و اثناهما، قد اقتنصهما جهد الباقر إلي الجامعة و ها هو يفتق عنهما كل غلاف مبهم، و ينشرهما تدريسا و تفهيما، حتي يكون للامة في يومها الطالع، نور ساطع، أو حس مرهف، يقززها من طعم و ريح الجريمة!!!

و يكفي الفتي فخرا - و هو العاشرة من عمره - يجالس جابرا بن عبدالله الانصاري، علي مدي سنتين طويلتين، و ياخذ منه، عن جده النبي، كل الاستطلاعات، و كل الامكانات بجعل الأمة واعية، و محققة أمجاد ذاتها... و لن يكون كل ذلك لها إلا بتجهيزها بكل علم، و كل فن، و كل احاطة بجمال... و ان العلم نوعان: علم صغير، و علم كبير... و من اختصاص الصغير بناء الشخصية المفردة، و من اختصاص الكبير بناء الشخصية الكبري التي هي الأمة، مجموعة كل الأفراد... من دون الاثنين - لا كيان فردي يزهو بذاته، و لا كيان جماعي يطل بالأمة إلي مجد!!!

و هكذان اختزن الفتي في ذاكرته، ما يجعله يلبي: شوق ابيه إلي جامعة تنشر العلم في الأمة، حتي يغدو العلم ثقافة عامة - و يلبي شوق جده النبي إلي جمع العلوم و بقرها علي الأمة حتي يعز بها المصير...

و ان الانصاري، بالذات أبلغ جليسه الفتي بان النبي الجليل - بالذات -



[ صفحه 54]



بخ في اذنه البشري و هو يقول: - سيكون من نسل الحسين عزوم آخر، يجمع العلوم كلها، و يبقرها علي الأمة زادا يوصلها إلي معاد... و قبل ان يغمض الأنصاري عينيه و ينام، كان الفتي محمد، يوشوش أباه في الجامعة، بحقيقة البشري فاحتضنه أبوه متهللا و هو يقول له: بعد غد يا ابني إرحل إلي كل قطر فيه كتاب، و فيه علم، و فيه خبر،... احمله، و جي ء به، و خلصه من خواتيمه، و انشره في الجامعة: تفسيرا، و تفجيرا... و لنعم الفتي - أنت الباقر!

و يكفي الفتي فخرا، انه عاش في ظل امامة ابيه زين العابدين، ثلاثين سنة، و هو يفتش عن مصادر العلوم و يحملها إلي الجامعة في يثرب...

و لأول مرة في تاريخها، عرفت الجزيرة علم الجغرافيا الاتي به الباقر من مصر، مترجما من السريانية، بواسطة الجغرافيا البطليموسية... و لقد سمع هذا الشرح عمر بن عبدالعزيز، فابتهج به، و أمر بتوسيع الجامعة أربعين ألف ذراع تكريما لمجهود محمد الباقر!

و يكفي الفتي فخرا انه جمع من مصر، عن طريق الاقباط: علوم الفيزياء و الفلسفة الاغريقية، و علم الهيئة، و علم الكيمياء... مع التاريخ، و الهندسة، و الحساب، و الطب، و الاقتصاد، و مطالع النجوم... و كان يشتغل - علي مدي خمسين سنة من عمره - من الفجر حتي النجر - كما يقال... و هو - وحده - يدرس كل هذه المواد العلمية - و لقد ناف عدد تلاميذه علي اربعة آلاف، متوافدين إلي الجامعة في يثرب من كافة انحاء الجزيرة.

أما الولاة الذين عاصرهم، و وعدهم مثلما وعدهم من قبله الإمام زين العابدين: بانه يترك لهم وحدهم سياسة الحكم، من دون أي تدخل في امور السياسة، طالبا منهم - بدورهم. ان يحترموا الجامعة التي هي: علم، و ثقافة



[ صفحه 55]



و فهم، و ادراك، و أخلاق... و هكذا لباه، و احترمه شديد الاحترام، عمر بن الحكم بن العاص، و عبدالملك بن مروان - و سليمان بن عبدالملك، و يزيد اخوه، و هشام بن عبدالملك الاخير...

اما عمر بن عبدالعزيز، فكان الحاكم الوحيد الذي احترم الجامعة بصدق مجرد، و باخلاص مقتنع: بان العلم الموصوف بالكبير، هو المنجي الأمة من ذل خطير، لا يعلم إلا الله كم هو المجرم!

و انتقل الإمام إلي جوار النبي الكريم، ليقرئه السلام، و ليعرض عليه ما تمكن من حصاد متمنيا لابنه الإمام جعفر الصادق بذلا نفيسا آخر، يقذف الأمة إلي بحبوحة أخري متمادية بالطول و العمق، توسع لها الدرب الموصل إلي وعي يندحر به الجهل الشنيع الذي لا تعشش إلا فيه أوقار الجريمة.



[ صفحه 57]