بازگشت

مع الامام الكاظم


و في هذا الصباح الباكر، استدعي الإمام الباقر - إلي ديوانه - واحدا من أخصائه الأوفياء أظنه باسم حسان، و وشوشه بالقول:

- هاك هذا الكيس المربوط بأنشوطة خضراء... لقد عبأته بكل ما في جيبي من دنانير - لم أحصها بالتمام - إخفه تحت عباءتك، و اذهب توا الي سوق النخاسين، و اشتر به أمة - لعل ما في الكيس هذا يكفي ثمنا لها... سأحرر الجارية هذه، و أهديها لا بني جعفر، و كأني أراه سيؤخذ بجمال الهدية، فأزوجه بها حلالا ينتظر... أتراني أحلم؟ أم ان الحرية التي سنغمر بها الجارية، هي التي ستكسوها بجمال تبتهج به مهجة جعفر!!

و انتشي المكلف حسان بالمهمة، و أخذ الكيس و مشي به كأنه محشو بكل ما في خلد الإمام من جوهر... ألا يكون في تحرير جارية من عبودية الذل، مثال من عز لن يكسيهاه كل ما في الأرض من جوهر!!! و سريعا ما وجد صاحبنا نفسه - و هو المحمول الآن علي محفة من الأحلام - في وسط



[ صفحه 70]



حانوت النخاس الذي فتح له باب الغرفة المحشورة فيها جاريتان لم تباعا بعد... قال النخاس:

- أرجو يا سيدي أن تنعم النظر في هذه الجارية... إنها حيية جدا، و لكن في عينيها المتورمتين بفيض الدمع، ما يبشر بكثير من صفاء، و من بهاء،... و لكن يا سيدي، لا تساومني أبدا - أرجوك - سبعون دينارا ثمنها... و لو يقل دينارا واحدا - لا تؤاخذني - لا شراء يحصل، و لا مجادلة تتم!!!

و رأسا مد الرجل يده الي الكيس في عبه، و ناوله التاجر و هو يقول:

- صدقني، لم أعد دراهمي، عدها أنت، و الناقص منها أدفعه لك من جيبي الثاني.

و عد النخاس دنانير الكيس، و لما انتهي تبسم و هو يقول:

- أتراك ساومتني منذ ساعة، و عرفت حدود السعر، فجئتني به مربوطا بكيس، ليس فيه لا زيادة و لا نقصان... هاك حميدة، إنها لك، عسي عيناها - في بيتك - تتهللان بالفرح!

و لما عاد حسان وجد الامام الباقر واقفا في الباب و عيناه عالقتان بالجارية الحيية الطرف، و المبتسمة بنوع من الحزن الشفاف، ما كان الإمام يقرأه حتي تهللت أساريره و هو يقول:

- قبل أن أرحب بك أقول: أنت محررة حرة، أرجو أن يكون حسان قد أخبرك في الطريق، ان الاسلام لا يشتري العبيد، بل يحررهم من عبودية - و الآن، أدخلي يا بنيتي -



[ صفحه 71]



كل الدار، بمن فيها - تقول لك: أدخلي، مع كل الفرح المخبأ في عينيك، و هو كل ما تختزنين من جمال هابط عليك من تلك الأظلال المتفيئة بها شغاف روحك.

أسمعيني صوتك و أنت تتلفظين باسمك الشفاف.

و رأسا تناولت الفتاة يمين الامام و طبعت عليها شفة كأنها كم ورد، ثم قالت بصوت كأنه هزيج مويسقي:

- حميدة يا سيدي، بلغة التصغير، و لكني أرفعه الي كبره: أنا حمداء، بلغة الحمد الكبير لله الذي يضمني الي إسلام، يمثله الإمام الباقر، فاقبل خضوعي يا سيدي بفرحي البادي في عيني،

ما سكتت حميدة، إلا لتلوي عنقها نحو باب الغرفة التي خرج منها شاب و سيم، لم تتعرف بعد إليه... و لكنه تقدم منها هو يغمرها بنظرات كأنها انشقاق من أفق... حدجها مليا، ثم قال:

- لقد سمعتك يا سيدتي، قبل أن رأيتك، و لما رأيتك فهمت ما سمعت... أنت جمال روحي. أبلغ مما أنت فيه من جمال حيي... فما أبهاك تقبلين بي - ليس الآن، بل في مساء الغد، زوجا لك، تسعدينه أكثر مما يتمكن - هو - من إسعادك... انه نداء روحي إليك، يا درة ليست من معدن أرضي، بل من بيكار سموي.

لقد أصغت حميدة، و هي في إغماضة عين. و لما سكت جعفر، غمرته بناظريها و هي تقول:

- لقد سكبك في بالي سيدي حسان، و نحن في الطريق.



[ صفحه 72]



و عرفت أن اسمك - يا سيدي - هو جعفر، و اني أسألك: ماذا تقصد بقولك: ليس الآن، بل في مساء الغد؟

و أجاب جعفر:

- ليس الآن... يعني أنك لم تختبريني بعد، أما الغد...

فيعني: بعد أن يمعنك الاختبار.

و أجابت حميدة:

- و لكنك الآن يا سيدي غمرتني بالفهم، فلماذا الانتظار الي الغد؟... و لكني، في هذه اللحظة أقول: أنا غصن صغير في دوحتك الكبري... و ما أسعدني - منذ الآن... أمرح في ظلك، يا إماما في ظل إمام.

و هكذا تم ارتباط جعفر الصادق، بزواج بحميدة ابنة صالح البربري، و بسرعة ما أجملها سرعة... لقد اشتريت - أمة - بسبعين دينارا، و لكنها انقلبت لؤلؤة تتزين بمثلها نساء المسلمين.

صحيح أن الجمال الذي انغمرت به حميدة، هو أصيل في روحها، قبل أن يفيض من أساريرها علي محياها، و لكن جمالا آخر، هو الذي فتقه فيها، و أخرجه من باطن الي عيان، أو من سكون هاجع في الطوية، الي حركة تتموج بها العينان، و الشفتان. و الجبين، و حتي كل تأودات البنان... انه الجمال الآخر، و قد غمرها به الامام الباقر بتحريرها من عبدة تجردها من إنسان، و تدعمها بحيوان، الي سيدة حرة، تتعزز فيها قيمة الانسان. و ها هي حميدة - و قد حررها الإمام - تنفتل من درهم حقير اللمعان، الي لؤلؤة تهزأ بالأثمان! و إن زواجها بإمام قد أنعم عليها بأمومة أخرجت من رحمها إماما لا يعيش الآن إلا باسمه الصغير، موسي!!!



[ صفحه 73]