بازگشت

موسي


يا له هذا الموسي، كأنه حبة حنطة، بقي الشوك و التبن غلافها في جوف السنبلة، الي أن عركتها الأرجل فوق صفحة البيدر، فعرتها من أغلفة التراب، و أخرجتها صغيرة سمراء،... و بقيت صفيرة سمراء، نائمة في عدل حشروها فيه، و نقلوها به الي رحي في مطحنة راحت تدور بها و هي تسحقها في قصد منها أن تلاشيها الي شي ء من غبار، و ما درت انها استحالت بها الي ذريرات من طحين هو الرغيف الثمين الذي هو مجال العوافي في سغب الإنسان!

سيكون هذا الموسي الخارج من رحم حميدة صغيرا كحبة القمح، و سيكون له من حبة القبح طباق عليها في الحجم، و اللون، و كل المميزات... فهو صغير مثلها في قد يرغبه الاعتدال، و في سمنة يجملها الاختزال - أما الجسم - في جميع نبضاته - فحيوية تفتش عنها صلابة الأبدان.

فعلا، انه كحبة القمح، و هكذا و صفوه في قامة ربعاء، و جسم نحيف، و سمرة كأنها سماط الليل، و لحية كثة يهرب منها المشط النحيل...



[ صفحه 74]



و لكن الوصف هذا، و ان يكن ليتناوله و هو في تمام الرجولة، فإنني لا أبتغيه إلا بعد أن أكون قد تبسطت قليلا بالإشارة الي الجو البيتي العائلي الذي سيولد فيه طفل اسمه موسي... ان الجو هو الملي ء بالتأثيرات، بجميع ما فيها من شحنات متنوعة الأشكال و الألوان، و التي هي الي انطباع سيكون محفورا في سليقة هذا الطفل - و لنقل أيضا بالتمام - هذا الطفل الذي لم يولد بعد، و الذي - بعد أن يولد - سيتكامل عليه الحفر و التنزيل، بالأزاميل ذاتها، و لكن بشكل أو في، يتلألأ سريعا بكل الملامح التي تتجاوب بفعل الشحنات الواصلة إليها من الجو الذي يكون - هو - قد هبط فيه.

و قبل أن يولد موسي، كان الجو الذي سيهبط فيه، قد أصبح مليئا بالشحنات الثرية التي ستغمره بذات هذا الثراء... لقد تحسسناه - هذا الجو - تدخل فيه و عليه حميدة... لقد سمعنا الحوار الذي دار بين الأمة المحررة، و المغتبطة بتحررها، الي درجة صبغت روحها، و وجهها بفرح كأنه هبوط من علاء... انه الحوار الذي دار بين الإمام الباقر و حميدة... و هو الحوار الآخر الذي دار بين الوسيم جعفر و حميدة... و سريعا ما انقلب الحديث الصغير الي رباط عاطفي، زواجي. راح يتنعم به الطرفان.

هكذا نري أن الجو الذي سيهبط فيه الطفل موسي، قد امتلأ بالجمال الصادق، قبل أن ينزل الطفل نطفة في الرحم،... و بعد أن تم العلوق، و راحت - رويدا رويدا - تنمو به اللحظات السعيدة الي جنين، كان الجو كله يتعبأ بموجات دافئة، تنتعش بها جميع عضلات الجسم في حميدة، و هي التي - بعد عدة أشهر - سينورها حنان الأم!!! أليست كل هذه التدفقات المشتعلة بذاتها، هي المشتغلة بها نطفة عالقة في رحم، تنمو الي جنين، سيهبط طفلا تقر به عين أب. و عين أم؟!.. و كل هذي اللواعج؟ أليست لها التأثيرات في تكوين الجنين، قبل أن يهبط الي الحضن النابض بالحب،



[ صفحه 75]



و الشوق. و روعات الحنين؟!! فلنكتف من هذي اللواعج، بأنها كانت بساطا دافئا لولادة ميسرة بحقيقة الفرح، و سلامة التكوين، و اندماجية الشوق، و كلها مويجات صادقة، تنعم بها الجنين، و هو في عزلته الممتعة بكل لواعج أبيه، و كل لواعج أمه... و اني لمن القائلين بأن الطفل - و هو في بطن أمه - لابد من أنه المصغي - بإذن ذاته الجنينية - الي كل دفقة يدفق بها لب أبيه، والي كل نأمة تنأم بها حشاشة أمه، و هي كلها التي ستنزل مسجلة - كالحفر - في لوحة صدره، و سيثفثغ بها لسانه إذ يجدها أمامه في حقيقتها، بعد أن يهبط الي الصفحة التي تستدعيه الي الهبوط!

و بعد أن هبط الطفل موسي الي القاعة التي يتنفس فيها أبواه - جعفر و حميدة - تلقفه الجو ذاته الملي ء بذات اللواعج، و لكنه الآن قد أصبح يري، و قد أصبح يسمع، و لابد من أن المرئي و المسموع، قد أصبح لهما وعي آخر، و سريعا ما راح الوعي البادي، ينحفر انحفارا متينا في لوحات السريرة!!! كل ما راح الطفل يراه و يسمعه. هو حب الصادق، ملي ء بذاته، كان يجهر به أب و أم، جمعتهما الحياة الي مأرب واحد، قوامه صدق، و عفاف، و مبتغاه زرع السماء في حقول الأرض، حتي تنبت الأرض رخاء يدغمها بسماء! و كان التوضيح من جعفر: ان الأرض هي أرض الأمة، في مقصد جده النبي الأعظم، سورها بقرآن يرفعها الي جنان، هي أمنيته في جمع أمة علي الخط الموصلها الي جنان!!!

و كثيرا ما كان يسمع - موسي - و هو يأخذ بشفتيه ضرع أمه قبل أن ينام، حوارا بين أبويه - و كان يشعر من روح الحوار، ان الكلام يتناول اسمه - موسي - و هي الكلمة التي كان يناديانه بها، و هو ابن شهرين، و كان يرد اليهما المناداة، بابتسامة سمراء... و هنا - قد سمع من شفة أبيه - اسمه - و هو آخذ ضرع أمه - توقف عن الرضاع، ليصغي الي شفتي أبيه المتكلمتين



[ صفحه 76]



عنه - هو موسي - بالذات... و لا أظنه - هذا الموسي - إلا أدرك معني الكلام - فراح يثفثغ، و أبواه يصغيان اليه بفرح صبياني... و بقي يثفثغ متهللا حتي غفا و نام!

من هنا أن الجو الذي كان يلف الطفل - في شهوره الأولي - كان جميلا و بهيا. و انعكس الجمال و البهاء، جمالا و بهاء في غريزته التي هي جمال انعكاس، و بهاء انعكاس... و لا غرو - فإن المعكوس هو - دائما - في الصفيحة المنقوشة عليها ذاتية الصوت الناطق بذاتية الصدي!!!

لم يكن الجو الذي غلف الطفل موسي، الا عابقا بوشوشات عذبة، كل ما ينضح منها، حب و ولاء، و تبادل آراء، فيها من الروح صفاء الروح، و فيها من الفكر تعليم، و ثقافات، و اهتمامات بالأمة، و بحقيقة الإمامة، و استعدادات حثيثة لمحو الجهل: بالعلم، و بترسيخ الوعي في الأذهان... و كل ذلك، إنما هو المسؤولية الكبري، يضطلع بها خط الإمامة، و لو بصبر طويل يحقق الرجاء بعد تحمل العناء، حتي و لو طال العناء، لا لدهر واحد، بل لعدة دهور يطول بها الانتظار المؤمن بجدوي الانتظار!!!

لم يكن حديث البيت - و لا مرة - إلا و كوكبه الإمامة، - و لم تذكر الإمامة، و لا في أية صدفة، إلا و يكون الطفل موسي قد انتشله أبوه جعفر الي ما بين ذراعيه، و راح يداعبه، و يقرأ في عينيه ملامح عبقربة تربعه في دوحة الإمامة... أما الطفل - أكان ابن ثلاث، أو أربع من السنين - فإنه كان المنتشي بوشوشات أبيه، و علي محياه الندي تسرح انعكسات بهية تشير الي فهم باكر جدا، يجعله مدركا كل ما ينتثر حوله من حديث أو حوار... من هنا كان الاقتناع بأن الجو الذي عاش فيه الطفل موسي، كان مشبعا بالحوافز الحافرة في الذهن حفرها المستعجل في تنمية المواهب و ترسيخها في الطوية، و هكذا، و عمر الطفل أربع سنين - كان أبوه يشهد له: بأنه طاقة



[ صفحه 77]



إدراكية، لا يمكن أن يتمتع بمثلها ابن عشر سنين... و بأنه - بذات الوقت، لا يسأل عن معضلة - لا يفسرها إلا بلاغة و علم، و عمق تفكير - إلا و نراه يفسرها بسرعة، و يجلوها من مخابئها... و ها أن الامام جعفر يصرح أمام بعض من جلسائه، بأن المعارف كلها التي يحوزها ابنه موسي، إنما هي الهامية لدنية، لم يشرحها له أي كتاب، و لم يسبغها عليه أي مدرب... و تناسي الامام جعفر أن ابنه موسي كان في غمر من الإيحاء و هو في رحم أمه حميدة تسعة أشهر، و بقي في غمر آخر، لا وزن له، و لا حجم، بعد هبوطه الي الساحة، فغمرته الساحة بفيوض كأنها انهمار السحاب... أما استيعاب الفتن في زخمه المستجيب!!! فتلك هي الطاقة العبقرية - لا شك ان الفتي موسي يتحلي بها... فليلفلفها الامام جعفر، بالحب و الإعجاب - و ليصفها - بعد ذاك، باللدنية.



[ صفحه 79]