بازگشت

و في الجامعة


دخل الفتي موسي الجامعة و هو ابن خمس سنين، و لم يكن يرنو اليها أكثر مما كانت - هي - ترنو إليه، لا لتوسع عينيه - فقط - بالعلم، بل لتأخذ منهما بريقا، هي بحاجة اليه كل عين تفتش عن علم، و لا يمكن أن يصير لها فهما، ما لم تتوهج - تلك العين - بمثله بريقا نابعا من فطرة تشح بالصفاء الأصيل... و كأن الصفاء الأصيل هو ذاته الذكاء المطل علي النفس من معدنه الأصيل، ليكون - هو ذاته - العقل و الروح، و الوشاح الذي تغزله الثريا، و تنسجه قميصا تكسو به صدر حبيبها الانسان!

و راح الفتي - و قميصه من غزل الثريا - يرافق أباه المرتدي قميصا - هي ذاتها الثريا قد نسجته له... و لقد جني كثيرا من الرفقة التي طالت عشرين سنة: خمسا منها، في البيت و هو طفل، و خمس عشرة في الجامعة! و هنا، في الجامعة، شاهد المعارف كلها تومي إليه بأناملها المشعة من كل كتاب، و كل صفحة، مخطوطة بريشة و فكر... و شاهد الجهد مدفوقا من مهجة أبيه، و من فوق جبينه الآتي من خلف الأفق، و تحسس العلماء جميعهم، من فوق منابرهم الشبيهة بالنواقيس، يشرحون كل الدروس، و المطولات،



[ صفحه 82]



و المبهمات، و الطلاب - بإصفاء الشوق - يأخذونها كأنها أرغفة خبز و أباريق ماء: يسدون بها سغبا، و يشبعون بها عطشا!!!

و استطلع الفتي كل ما في الجامعة المصبوبة فيها كل جهود أبيه، و كل ما جنته الجامعة من إنتاجات فكرية، و علمية، و روحية - و تعرف الي منتجيها، و كلهم - كما علمنا - هو خريجو الجامعة، و قد اتصل بهم الفتي موسي، و غاص في قراءاتهم، فردا فردا: لقد جالس زرارة بن أعين، و قرأ مليا كل ما يجول في عينيه من طيبة و صفاء. و أمعن بإعجاب الي أبان بن تغلب، و الآخر المدعو بمؤمن الطاق... و لم يترك النعمان بن حنيفة إلا و صافحه بيد، و باحثه في كل آرائه المبدئية حول الوجود و إبداعية الإنسان. و لم يقل إعجابه بمالك بن أنس، و هو يتمني له مزيدا من العطاء!!!

أما الذي استوقفه بشوق بالغ الأهمية، فهو جابر بن حيان، و قد وجده مكتبة علمية قائمة بذاتها، و من أبهاها كتابه المخصوص بعلم الكيمياء، و قد اتبعه بملحق يحتوي علي خمسمئة رسالة تبحث جميعها بالحركة العلمية: أي ان الكيمياء هي لولب المعارف و المعادلات، في حركاتها الإبداعية - ليكون له - هذا العظيم الحياني - كتاب في موسوعية العلم، عنوانه: علم الميزان، و كل مركزاته علي معرفة طبائع المعادن: كالنحاس - مثلا - انه في نظرية ابن حيان، [فضة تلهت عن ذاتها]. و هكذا راح ابن حيان يصرف كل اهتماماته في التحضير الكيميائي الذي يتلاعب بجزئيات الفيزياء اليابسة، و يحركها الي حياة... من هنا كان تحضيره للحامض الكبريتيك، أو زيت الزاج، و لحامض النتريك، و ماء الذهب، و الصودا الكاوية، و كلورور الفضة، و الراديوم،... و كان له طموح آخر يرمي الي تحويل الفضة الي ذهب!!! ألم يخترع ابن حيان - استجابة للإمام الصادق - قرطاسا لا يحترق - و كان للإمام ما تمناه؟!



[ صفحه 83]



كل هذه الاستطلاعات التي كان يستطلعها الفتي موسي، و هو علي مقاعد الدرس. كانت جزءا من المعارف التي راحت تتوسع بها معلوماته... و كان أبوه الإمام يوجهه - بقصد الي تلمسها حاصلة كضوء من معارف تستنير بها الأمة المحتاجة الي الضوء المديد، حتي تختفي من حولها عتمات الجهل، و الذل، و السياسات الخاطئة - و لقد أدرك الفتي - بحدسه المصيب - قصد أبيه، و أدرك - بالتالي - أن الجامعة العلمية، إنما هي تمني الإمامة الزينعابدينية، بغاية تثقيف الأمة، و تخليصها - رويدا رويدا - من عتماتها المضنية... و ان عليه أن يستأنف - في غد - كل الجهود الامامية، و يعمم الجامعات في كل بقعة من بقاع الأمة المسترعاة الي دوام الوعي المطلق. علي مدي عشر و خمس سنين، و قبل ان يغيب الي مداه المستريح - كان أبوه الإمام الصادق، مفتاح خزائن - خزانة خزانة يفتحها أمام لبه، لا ليأخذ منها شبعا و ثراء، بل ليعرف كيف يغطيها - بشبع منه - إذا كانت، هي، آتية من شبع كاذب!! أو ليبذل لها الثراء من فيض ثرائه، إذا كان لها الثراء محتاجا الي مصدر صادق!!! إن كل هذه الخزائن التي كان الأب الصادق يفتحها أمام ناظري فتاه النجيب. لم تكن غير أحداث و اجهت الأمة التي جاءها نبي بلسان رسول، يمحضها ولاء تستأثر به، و قرآنا تجد فيه ما يقوم خطواتها فوق الدروب... و لكن الأحداث هذه، إنما كانت محصورة جميعها بالفترة الممتلئة بوجود الرسول، و بالفترة الأخري التي هي - الآن - بعد غياب الرسول. و الآن، يعني الجامعة في يثرب، و فيها فتي أسمر، اسمه موسي، و هو بين يدي أبيه الإمام الذي لم يرحل بعد.

صحيح ان الإمام جعفر لم يرحل بعد - فهو بشفتيه يتكلم - و صحيح - أيضا - أن الفتي يصغي و لم يتسلم إمامة بعد... أما الحديث الملقي في الأذن المشتاقة، فهو شامل في معانيه، و موجه في مبانيه، و شديد الوضوح



[ صفحه 84]



في توضيب المقاصد؛ أما المقاصد، فهي في جعل الفتي موسي في حضور ملم و مشع بواقع الإمامة التي تيسرت له منذ أن كان عمره خمس سنين، و التي سيكون مقودها في يمينه، بعد أن يغمض عينيه من يتولاها!

و جعل الفتي في حضور شامل لاستقبال الإمامة، فلأن الإمامة، في معناها الشامل، تعني الأمة، و الاهتمام بها اهتماما ملما بكل شؤونها المادية و الروحية علي السواء؛ و هكذا فهي اطلاع متكامل الغايات، و متين الصفات، و وسيع المدارك؛ لتكون الإمامة - بدورها - علما، و فكرا، و اختبارا ممرسا بالمران، و وقوفا أمام المعضلات، و تحملا لها بصبر و طول أناة!!! و هذا كله ما جعل الإمام الصادق حاضر الذهن أمام فتاه المتنامي - بين يديه - بأعز الصفات و الهبات، لتكون الإمامة - له - واسعة و جليلة، بكل أبعادها، في لملمة أمة، ما أضناها إلا أبناؤها المتلهون عنها بإثارة الحزازات، و المشاحنات... من أجل الوصول الي منبر سياسي، تجني منه كل فئة - أو بالأحري - كل قبيلة من عديد قبائلها - زعامة كاذبة، و ثراء كاذبا أيضا، علي حساب أمة، لا يجوز أن يكون إلا لها صدق النفوذ، و صدق الثراء، و صدق توزيع المغانم، بقسط نبيل و عادل، سطرته في القرآن الكريم منازل الآيات.

مجمل الأحاديث التي استوعبتها أذن الفتي موسي، كان يدور حول المشاحنات السياسية المتداولة بين فئة لا ترضي بإمامة عينها الرسول الكريم، و بين الإمامة المدافعة عن صراط ما عينه إلا الرسول... و هكذا ابتدأت الأحداث التي زعزعت الأمة منذ العهد الأول، الي العهد الحاضر... لتكون الإمامة هي المضطهدة، و الخلافة - إذا صح التعبير - هي الباغية، أما الأمة، فهي المنتظرة نعمة الوعي، و نعمة الفكاك!!!

لم يكن الحديث الاخباري إلا تثبيتا لواقع حزين، قام بتظهيره خط



[ صفحه 85]



أموي، فظع تفظيعا جائرا بالخط الإمامي علي مدي طال أكثر من مئة سنة، ثم ولي مدحورا و مخذولا أمام خط عباسي لا يزال ضاربا بنابه و ظفره، مع السفاح و المنصور الدوانيقي، و المهدي، و الهادي، و الآخر المزدهي بذاته - هارون الرشيد!!! أما الخط الإمامي - الهاشمي - الطالبي - العلوي، المدافع عن حقوقه المشروعة، و المحسوبة - بنظره - حقوق الأمة، فإنه لم ينل من لمس الأفاعي إلا لدغة لدغ بها الدوانيقي عنق الإمام الصادق، فخر في الساحة قتيلا!!!



[ صفحه 87]