بازگشت

الحوار


و رأسا سجد الإمام الصغير أمام الإمام الكبير متناولا يده يطبع عليها قبلة احترام، و هو يقول:

- أنا لا أراني مريدا حوارا أنت بالذات مكنتني به، بل أريد إسماعك صوتي الذي أخذت منك كل نبرة من نبراته - و هي صدق منك، و بعد، و عمق، و اعتماد روية... فاسمح لي أسمعك - بصوتي - حقيقة صوتك، و بشفتي حفيف لسانك في أذن نفسي، و التي هي صدي روحك في نقش وجداني، و ها أني أقول: لقد وعيت قصدك في كل ما رسمت - فأنت تريد أن تفهمني: أن الأمة كلها هي إطارنا في وجودنا فوق الأرض - و هي كذلك... لقد كانت إطار جدنا النبي، و لا نزال - مثله - نعتبرها إطارنا في كل ما نسعي إليه، و لا يجوز إلا أن نرعاها بحماس و روية، و لا بتسرع، من دون تحقيق يقومه الدرس:

لقد سطا علي هذه الأمة بنوأمية، لا لأنهم ليسوا منها، بل



[ صفحه 98]



لأنهم منها في الصميم... و لكنهم قد حجموها بسياسات قبلية تجبي لهم - وحدهم - دون سواهم من القبائل، كل النفوذ، و الثروات، و المغانم... و لأنهم لم يتفهموا أن الأمة مجموعة أفراد و قبائل، و أن مصلحة الكل غير مصلحة البعض - سترتد عليهم كل الأمة، و تحطمهم سياسة خاطئة خلت سبيلها القويم!!!

- و لكن الثورة التي قام بها قسم آخر من الأمة - و هم العلويون المستنجدون بالسفاح و المنصور - كان لهم تحقيق مصيب، أوصلهم الي محو الريب الذي وقع فيه بنوأمية! و لكن الأسلوب الذي اتبعه بنوالعباس، و بدلا من أن يكون الأجدي، انقلب الي الأردأ، راحوا به كما مشي به بنوأمية، الي استغلال قبلي ذاتي، سيهزل الأمة، و يفقدها وحدتها الشاملة المرصوصة بكل أفرادها، و قبائلها،... و سيوصلها - حتما - هذا الخطأ السياسي الفادح، الي ثورة أخري لا تنجح، و لم يجمع مقوماتها الفاعلة و عي جديد تنتجه الأمة من حقيقة علمها و معارفها، و خبراتها الضمنية المستيقظة من واقعها الحياتي، التجريبي النابع منها - بالذات - و من أيامها الطاعة من حقيقة معاناتها السلبية، و التي ستصبح إيجابية، رويدا رويدا، تحت تأثير الوعي الآتي اليها من ضفائر العلم الذي سيثقفها، و يهديها الي سواء السبيل!

و بدأت الثورة - فعلا - بجميع حيثياتها، مع العم عبدالله بن الحسن و ولديه محمد و إبراهيم... و هنا كان لك - يا أبي الإمام - أن تسدي النصح للزعماء الثلاثة: بأن يؤمنوا بثورة



[ صفحه 99]



تتمكن من محق، لا بني أمية بالذات،... و لا - أيضا - من محق بني العباس،... بل من محق كل قبلية تدعي أن لها - وحدها - حق سيادة الأمة، و جمع كل ما تنتجه الأمة في صناديقها الخاصة بها، و اعتبار كل القبائل و سواها، عبدانا، يجمعون الولاء، و الخضوع، لها و ليس للأمة جمعاء، و هي كل القبائل، و كل الأفراد - بذات الحرية، و ذات السؤدد، و ذات الكرامة!

أجل يا أبي، لقد أسديت النصح للعم عبدالله، بأن يؤمن بثورة فاعلة، و لا بإعلانها غير فاعلة، بحيث يجب - حتي تكون فاعلة - أن تحاط بتحضير واسع الدرس، و علم بجميع الأسباب التي تفشلها، و بالتالي تعيينها أسبابا أكيدة لابد من التغلب عليها، حتي يتم - لمطلق ثورة - نجاح مرتجي!

لم ينشي ء العم عبدالله درسا ملما بجميع الأسباب التي جعلت بطش العباسيين فاعلا لا يقاوم! و لو أنه - فعلا - أنشأ الدرس هذا، لكان اكتفي بما قدمت له - يا سيدي - من نصح يوسع له جيوب الحكمة، و التصبر، و الإتزان... أو - بمعني آخر - يوفر له وقفة بطولية، يرغب - هو - أن يتحلي بها، تطالب الحاكم بأن يكون صادقا في سياسة الأمة، بحيث لا يكون له إلا أن يفتخر بها، أكثر مما يجعلها - هي - أن تفتخر به... لأنها أنشأته وليا لأمة تفاني في إعزازها نبي الإسلام!!! أليس في القول هذا - يا أبي - موالاة لحاكم بطاش أصبح مفروضا، و نحاول نحن أن نخفف من رعونة بطشه؟!!



[ صفحه 100]



هنالك أسباب عديدة، لم يكن للعم عبدالله أية مكنة، من الوصول الي درسها، و لكننا، في هذه الخلوة المباركة، لابد من التلميح عنها، و هي لا تزال قائمة في وجه أية ثورة تتطلبها الأمة في عملية إصلاح شؤونها العامة. و هي تعود إلي أجيال عديدة، حرمتها من لم شملها. و تثبيت وجودها... و لقد استلفتت انتباه النبي العظيم، فاختلي خمسا و عشرين سنة في غار حراء، لدرسها أسبابا موجبة لهذيان لا يجوز إلا أن يزول من صفحات غدها!! و استنزل لها سور القرآن الكريم، لتذوب علي مهل موجة الهذيان!

و لقد حاول الإمام علي مساندة الآيات، بنهج بلاغي يحاول - مع الأيام - تنوير أذهان الأمة، و تخليص صدغيها من وطأة الأورام!!!

و الأسباب العديدة؟ لابد لها من كلمة وحيدة تختصرها، و ننير لها عقول و أذهان الأمة... و علي مهل - قد يطول قرونا - يمحي الجهل في تعتيمه البصائر! و تتحد القبائل كلها في انضمام، هاشمي - أموي - عباسي - خزاعي... لا أثر فيه إلا لموجة عالية واحدة، هي الأمة، بلا زيغان و لا هذيان!!!

أما الكلمة التي ستنزل في السمع، و اللب، و الوجدان. فهي [الوعي] الذي قامت تسدد به خطوات الأمة، الإمامة المثلثة و المكتملة: بزين العابدين، و محمد الباقر، و جعفر الصادق... انها منذ أكثر من سبعين سنة، تزرع العلم لينمو - رويدا رويدا - و يغطي كل المساجد المنتشرة في



[ صفحه 101]



مدن الأمة... و ها هو الوعي سيبث ذاته المشعة، من شفة الي شفة، و من مدينة الي مدينة، و من صحراء الي جوار عامر بمنهج الذات... و هكذا، حثيثا حثيثا - و لو كان بين الحثيث و الحثيث - ألف أو ألفان من خطوات الزمان - ينتشر الوعي، و ينهزم الجهل. و تصمد جامعة صادقة بجعفرها، يحاول الآن أن يخرسه خلف جدرانها - فرد هزيل الوعي اسمه: منصور الدوانيقي!!!

لم يصمت طويلا الإمام الصغير، و رأسا استأنف البث:

- ليس في قولي هذا يا أبي الإمام، إعلان ثورة علي حاكم، - و إن يكن اسمه منصور الدوانيقي - لم يمرسه الوعي بعد، لا بصدق الحكم، و لا باستقامات النفس، في بناء أمة طالعة من غيبوبة الذهن!!! أما الذين استدعوه الي الساحة العتيقة، فهم ذواتهم الذين فاتتهم نعمة الدرس الذي هو وعئ عام، تفتش به الأمة ذاتها عن فتاها المتمكن من قيادتها الي تلك الجنان!

أقول ذلك أمامك يا أبي، لأعني أن الحاكم المستدعي الي استلام الزمام، هو الأحوج - من أي سواه - الي ثقاقة عامة واعية، تستنير بها مضامين نفسه، و يسير بها وعيا مسؤولا عن أمة لا يلملمها إلا الحق، و الصدق، و ذلك الإخلاص... و اني أري الجامعة العلمية التي كفكفتها أنت في يثرب، هي المنوط بها - مع طالع الأيام - بث الوعي، عن طريق العلوم كلها، و إيصالها حتي الي الرعيان، أو بالأحري، الي سدرة الحكام!!!



[ صفحه 102]



لن يكون لي، يا أبي، أن أخبي ء نفسي بثورة أتفلها بوجه منصور الدوانيقي، لأنه لم يحترمني كإنسان و لم يحترم الأمة كموئل، و حسن زمام،... و سيكون لي، من ضمن حدودي كإمام، أن أبدي النصح لهذا الحاكم - بالذات - بأن ينور ذاته بوعي لا تستقيم إلا به سريرة الحكام... و بقدر ما يرعوي، يتم فأل الأمة. و لعل الارعواء يكون جزءا من وعي، تنتظره قوافل الأيام!

هنالك حكام جاءتهم الطبيعة من مكارم الذات، كأن الوعي فيهم نابت من جذور السليقة، فبارك الله للأمة بأمثالهم، يرثون الطيبة من معدنها الأصيل، و هكذا يا أبي، لا نذكر بالخير إلا عمر بن عبدالعزيز، يدخل المسجد و يصغي الي جدي الإمام زين العابدين، و هو يشرح الدرس، فيؤخذ بقيمة الجهد، و يدرك الأبعاد الرامية الي تثقيف الأمة، و تثقيف الحكام، بوعي ينقل الأمة، و ينقل الحكام الي سوية لائقة بقيمة الأمة، و قيمة الإنسان... و ها هو عمر بن عبدالعزيز، يأمر بتوسيع المسجد أربعين ألف ذراعا، لا لتوسيع المسجد للسجود، و للصلاة، بل لتوسيع المدي المستحيل - رويدا رويدا - الي علم، و إلي فكر، والي وعي آخر، تتلون به: لا سريرة الأمة. بل - و أيضا - مدارك الحكام...

الي أن يتسع هذا المدي المفتوح أمام البصائر، تكون قد ذابت الثورات الصغيرة، و هي الحقيرة بحد ذاتها، بإحلالها حاكما ملأ الساحة - بجهله - كفرا، و بطشا،



[ صفحه 103]



و مجونا... ليحل محله ضب آخر، ليس له - من الجهد - إلا ذات القماشة، و عين المسيرة!!!

أجل يا أبي، عندما يشمل الأمة وعي نبيه... تنجلي الأهداف. و تتوضع المقاصد، لتكون الثورة الكبيرة الفاهمة من تحقيق الأمة الكبيرة الواعية، في رفضها أيا لا يوجهه الوعي الي إدارة السفينة... و الأمة الكبيرة هي التي يوسعها العلم، و حقيقة الوعي... لا القبلية التي تشرذمها الفتلات الجاهلية الأمية!!! أما حكام اليوم - فإنهم نتاج ثورة صغيرة - و ان يكن بعض منا - نحن - قد اجتهد في تنقيحها الواقع - حتما - في الفشل!!! و ما علينا نحن - أيضا - إلا أن نقابلها بكثير من الصمت... أو فلنقل - بالرضوخ -... أو فلنقل - أيضا - بالنصح، حتي نغير - ما أمكن - من مسارها و مضارها!!! لأن ابدالها بغيرها - لو تم له الوصول - لن يأتي إلا بمثلها [لسوء طالع الأمة التي لم تتمتع بعد بحقيقة وعيها المطلوب]. - أما الحاكم الذي أراد العم عبدالله خذفه، فهو المقتدر - في سبيلة الاقتداء - و هو الذي أصبح متمكنا من حذف نصف الأمة، قبل أن يتمكن النصف الثاني من حذفه!!! أم أن نلاين هذا الحاكم - ما أمكن - و أن نحاول إطلاق، ما أمكن - أيضا - فدم الأمة الذي نريد أن نحقنه، هو الذي يفرض علينا الملاينة هذه، و ذلك الإصلاح المفترض.

- علي كل حال يا أبي... لن يكون لنا أن نكيد الحاكم، لأنه يكيدنا، بل أن نقابله بالغفران، و بالنصح - ما أمكن - فهو منا، و من الأمة التي تتحمل - وحدها - الضيم!!! أما



[ صفحه 104]



التصبر و الانتظار، فهما لنا في المجال الطويل في حقيقة الالتزام، و لقد أبنت يا أبي أن وعي الأمة لن يتم، إلا رويدا رويدا، مع طول التصبر. و طول الإنتظار!!!

كأن الإمام الصغير قد اكتفي بتقديم قسط وفير مما عليه أن يقوم به من حضرة أبيه، لإقناعه بأنه سيقفو خطاه عندما يتسلم منه الزمام. أما الإمام جعفر، فإنه المصغي بكثير من الرضي الي حديث ابنه موسي... و قبل أن يوجه إليه كلمة الشكر، مع كلمة المباركة، سمع ضجة أمام البيت، ثم قرعة علي الباب، فهب موسي و فتح المصراع، و وجد أمامه - واقفا كالشبح - عامل المنصور في يثرب، و رأسا دخل بابتسامة عريضة، و هو يقول للإمام جعفر:

- أحمل إليك يا سيدي الإمام، من الخليفة المنصور، معضلة، ما تمكن الخليفة من حلها، و هو يرجوك القدوم إليه، ليسمع منك - حلها - بإذنه... أظنك أمانة في عنقي... أحرسك، و أوصلك الي سيدي المنصور، حلال معاضل...

و أجاب الإمام، ببسمة عريضة أخري، و هو يقول:

- و هل بإمكان جعفر غير تلبية المنصور؟!! فهيا بنا في الحال الي حضرة المنصور.

و التفت صوب ابنه موسي و هو - أيضا - يوري:

- انتظرني الي غد، أو الي بعد غد... سأعود إليك... و لكن... حلال معاضل!!!

أما الإمام الصغير، فإنه بقي في صمت رهيب، و هو غارق في تحليل المعضلة!!!



[ صفحه 105]