بازگشت

المعضلة


لقد شد المنصور القافلة من بغداد، و وجهها نحو يثرب، و معها رسالة منه الي عميله في يثرب، يأمره فيها بأن يأتي - توا - الي جعفر الصادق، و يبلغه وجوب حضوره الي بغداد، علي متن القافلة المرسلة خصيصا اليه، من دون أن يسمح له - حتي - بتغيير هندامه... لقد اعتاد الإمام جعفر علي مثل هذه الأوامر المستعجلة التي - غالبا - ما كان يوجهها اليه أميرالمؤمنين منصور الدوانيقي... لهذا نهض الإمام سريعا الي التلبية!!! و كذلك إمامنا الصغير موسي، فإنه لم يفاجأ بسرعة الأوامر التي كان غالبا ما يلجأ اليها أخو السفاح، من دون أن يسمح بأية مماهلة... و كثيرا ما كانت مقابلته تحصل كأنها حوملة تسبق الإعصار، ثم تتلاشي كأنها غمامة صيف ليس فيها قطرة من مطر!

و لكنه - هذه المرة - أوجس الإمام الصغير خيفة من شي ء و هو يقول في ذاته: أخاف أن تكون البداية هذه سحابة ناشفة، و في ذيلها زوبعة... و قاك الله يا أبي من زوابع الفجار!!! و سكت موسي، و في يقينه صبر الي غد يصلي، و في طول الصلاة آمال يباركها الانتظار!



[ صفحه 106]



و ما تكون المعضلة؟ راح يحسب الامام... و كيف يراها المصور بلا حل، حتي يأتي الإمام جعفر، و بصدفة يمحوها؟!. و لكنك يا دوانيقي - كما يبدو من هزيز الأمس - لا ترتاح من و ميض المعضلة، إلا بحذف المعضلة من تحت عينيك!!! تلك هي المعضلة، تتمثل تحت عينيك بحذف الصادق يطالبك [بفدك] ليست لك... انه خطأك الطويل يا منصور، بدأ به - قبلك - أبوبكر الصديق... بدأ به صغيرا، و لم يلحظ أنه صار كبيرا عندما وصل اليك... بدأ به عندما حذف قطعة الأرض - فدك - من إرث فاطمة، ليجعلها إرث الجهاد... و رضيت فاطمة، و كل امتطي مثلها حلبات الجهاد، بإرث راحت تتمدد به ساحات الجهاد... لقد اتسعت حدود فدك، عندما يمنوها بالجهاد... لقد كانت عدة شجيرات من نخيل، و بعض تراب من رمل و غبار، و ملكا حقيرا في الحجاز لبعض من يهود، خانوا الأرض، و خانوا الله، و النبي، و كذبوا علي مصداقية الإنسان.. و لكنهم، إذ نقلوها ملكا الي تصرف النبي، صبغها النبي بجهاد الإسلام. و أراد أبوبكر المسلم، أن لا تذوق طعم ثمارها شفة فاطمة بنت نبي الإسلام. بل كل شفة، من شفاه المسلمين!!! و صح عداء أبي بكر لفاطمة، و لعلي، أول من قاد الجهاد، و ساند النبي في تركيز الإسلام... و مشي الإسلام، كما مشي به القرآن، و اتسع الإسلام، و اتسع الجهاد، و اتسعت الأرض، و من ضمنها فدك، حتي ذابت فدك خيطا علي المغزل الذي تألفت و توسعت به حبكة النور... و ها نحن اليوم نسأل - بعد مئة و خمسين سنة - أين هي فدك؟ أو إرث فاطمة من فدك؟ و كم هي مساحة أرض فدك؟ و كم هو ثمن فدك؟؟؟ و ها اني أنا المسمي الصغير من بين الأئمة الذين أوصي إليهم نبي الإسلام بإدارة الأمة، كما أوصي لابنته فاطمة بنحلة فدك... أجل، إني أسأل نفسي: ما هي مساحة فدك؟ و كم هو ثمنها - و قد غدت انضمامية الي رقعة



[ صفحه 107]



الإسلام - و لكن الجواب الذي يرن في حنايا الطوية، ما تمكنت - أنا موسي - إلا أن أصوغه هكذا:

- تبدأ حدود فدك، من فدك بالذات، الي عدن، الي سمرقند، الي إفريقيا، الي سيف البحر مما يلي الجزر و أرمينيا.

انها - بالفعل - حدود الأمة التي غطاها الإسلام - و غطي معها مفاسح أخري من رقاع الأرض، أكان في الشرق، أم كان في الغرب - ليكون الاسلام دينا توحيديا، تنادي به المآذن. مثلما تتخشع به نواقيس الكنائس، مثلما تتهامس به جوامع الحكماء.

أقول ذلك لأعني، كما أضحت سيدتنا فاطمة تعي: بأن المطالبة كانت بإرث صغير و أضحت بإرث كبير، لا يقدر أن يمتلكه فرد ان لم يكن في رباطه الاجتماعي الموصوف بوحدوية الأمة!!!

أجل، أيها المنصور - اننا نطالب، نحن الإماميين، بإرجاع فدك الينا، لا لنأكلها رطبا، و لا لأن نبيعها ترابا... بل لأن نعززها بجهاد مستمر، يدعم إسلامها، و يوسعها فدكا يوازيها ثمن من الأثمان...

أما المنادات بإرجاعها إلينا - فلأن نبيا عظيما قد انبلج منا، و نجاها من يهودية، كذابة، و وسعها بالأمة، لتحرير الأمة... و استنزل للأمة كل الضوابط التي تحميها من مطبات الهبوط!

تلك هي الأمة التي استرجعها الي صدره نبي الإسلام، و سلمناها إرثا أسميناه فدكا مربوطا بعقد الأمان - و استمطر علينا من السماء عهدا بأن نحافظ علي العقد من غدرات الزمان...

و لكن أبابكر الصديق - و لا نزال نتمناه صديقا - سحب العهد من



[ صفحه 108]



يميننا الي شماله، و سد بأصابع كفه اليمني: عينيه، و أذنيه، و ملعب لسانه... حتي لا يري، و لا يسمع بنود الوصية، و حتي لا يتكلم عن مضمونها... أما النبي الذي غفا غفوته المثلي... فلينم قرير العين - راح يقول الصديق في سره - لأن من يخلفه، سيكون الأوعي في تخليص الإرث من هفوات لا يجوز أن تحصل: أكانت إدارية، أم كانت عقارية... أما الأمة، فستتناولها سياسات الجهاد... أما فدك؟ فلن تبتلعها زوجة علي، بل كل ساحات الجهاد!!!

هنالك الإمام الصادق - و ان يكن له حق المطالبة بإرجاع فدك اليه - منك أيها المنصور، و من السفاح، و من كافة ملوك بني أمية، و حتي من عثمان بن عفان، و من الخطاب، و بالتخصيص من أبي بكر الصديق - فإنه لم يفعل ذلك أسوة بأبيه الباقر، و جده زين العابدين... لا لأنكم نحرتم الأمة - بعد النبي - غلية، و غدرا. و اختلاسا... بل لأنكم ارتكبتم الجريمة بجهلكم: ما هو الحق، و العدل، و النبل، في سياسات الحكم، و كيفية إدارة الأمة، و ضبطها في منهجية رسمتها عبقرية، جهادية، رسالية، نبوية... اتصفت بها أمة الإسلام...

أجل، أيها المنصور، ان أبي الإمام جعفر الصادق، لم يطالبكم بإرجاع فدك الي نصابها المتسع بها: من جنان عدن، الي سيف البحر... بل راح الي تنوير أذهانكم بوعي مستنير بذاته، يحققه العلم النابع، أيضا - من حقيقة ذاته... و بعد ذلك تدركون: أن فدكا هي الأمة الملبية شوق النبي، و ان العناية الصادقة التي تسوسونها بها، هي التي ترفعكم - بها - الي سماك - لستم الآن بعالمين كم هو مقداره في دنيا الشمم!!!

منذ سبعين سنة أيها المنصور، و الجامعة العلمية في يثرب، تقبل جبين عمر بن عبدالعزيز، لأنه احترمها، و وسع مدارجها بأكثر من أربعين



[ صفحه 109]



ألف ذراع، حتي تزيد مقدرتها العلمية في تثقيف الأمة، و تنوير عين الحكام.

و منذ أكثر من عشر سنين - أيضا - و الإمام الصادق، يقبل يمينك أنت أيها المنصور، أو يا أميرالمؤمنين، حتي لا تهدم حجرا واحدا من عتبة البنيان!!! و لكن المعضلة التي تحاول - أنت - حلها... هي التي تعشش في عتمة روحك، بأن تهدم العتبة، و السقف، و الجدران، علي رأس الصادق - تحسبا منك - بأن تحذفه قبل أن يطالبك - بعد غد - بإرجاع فدك إليه... و عندئذ - أي معني لك راعيا قشيب العصا؛ بين الرعيان!!!

لقد بقي الإمام الصغير، طيلة شهرين - يتلمظ هذه الأفكار، و يزيدها درسا و تمعينا... و أخيرا جاءه علم بأن القافلة، بقيادة عامل المنصور في يثرب - تصل بعد يومين... و بعد يومين - بالتمام - ترجل الإمام علي عتبة الدار. و قفلت القافلة راجعة الي بغداد...

أما الإمام، فما كاد يلملم فتاه الأسمر، الي بين ذراعيه - حتي رجاه بنقله الي فراشه، لأن طول الطريق يهدم حيله - و لأن ألما في أمعائه يقرع خاصرتيه بما لا يطاق!!!

لقد قرأ الإمام الصغير في عيني أبيه الكبير، - قبل أن ينام - حروفا مكتوبة بلون فاقع أصفر، و بلون أحمر فاقد اللمعان... و أدرك أن المعضلة قد حلها عامل المنصور، و هو راجع مع أبيه الي يثرب. و أن سما مقشوبا بالطعام، و قد تذوقه الإمام، قبل أن يصل الي فراشه و ينام!!!



[ صفحه 111]