بازگشت

خط الكاظم


باكرا جدا تعين الخط الأساسي العام لنهج الإمام الكاظم في تعهد الإمامة و وقايتها - ما أمكن - من الأخطار المحيقة بها في عهد عباسي، يميزه اللؤم، و الغدر، و اغتلاس الذمام! ان تعهد الإمامة - و هي في مقصده العام، الأمة - لأمر جليل في مثل هذا الظرف الرهيب، و كذلك فإن وقايتها من رهصة الاعصار في تقلبها من شدق سفاح الي بلعوم تمساح، لأمر مخيف أيضا، لا تتمكن منه إلا دراية حكيمة، في ظل من تحمل، و تصبر، و توسيع أناة!

ان الحوارات و الدراسات التي كان ينشئها الفتي موسي مع أبيه الصادق، تشير الي انتظام الخط العام الذي سيركز الآن عليه نهجه في إدارة إمامته، و العبور بها - بين النقط - لعل الحكمة، و الدراية، و الاتزان، تخلص الأمة من وابل تهدد به حوملة الإعصار!

لقد استمعنا الي كل ذلك في دراسات الأمس، و قد تناولت - كلها - وطأة العصرين: العصر الأموي الذي انقصف، و العصر العباسي الذي اتصف بالقهر و الغدر، و الفتك!!! و جاءت الحكمة تقضي بأن لابد من تصبر و تحمل، و تقشف... و من ملاينة و مداراة، ان لم تمنعا الإنفجار تخففان من جرفه، الي أن يغير الله من أمر كان مفعولا!!!



[ صفحه 122]



و لكن الملاينة التي انجر بها الصادق الي معاطفة المنصور، لم تحرز أكثر من نقطة سم! وسعت عين ابنه موسي بالدمع المستحيل الي كظم، و الي صبر، و الي ملاينة مبطنة بسجود يحسبه المنصور - سجودا له - و هو في باطنه، كما في ظاهره - علي السواء - سجود لله - عز شأنه - في تخشع المؤمن أمام الإرادة السرمدية التي ستسحق الظالمين المستهينين بالعباد، في تحميلهم وزر أياديهم المعجونة بزفت و كبريت الجحيم الذي فيه سيوأدون!!!

لقد تعين خط الإمام الباكي علي أبيه بدمع الرجاء! لقد عينه بالتقوي التي هي سجود، و صلاة - و التي هي، بذات الوقت - دين الأمة، و دين الحق، و العدل، و الآيات، لا دين الظلم، و الفتك. و التعدي علي الحريات و الكرامات!!!

أتراه سيرعوي المنصور، و يصمت به الخجل، أو تقريع الضمير!!! و تراه - أيضا - تستفيق به إنسانية لم يبق له منها سوي ظل ذنب من أذناب القرورد!!!

أنا لا أظن الإمام موسي الكاظم إلا فنانا موهوبا و مأخوذا برهبة فنه، أكان في سجوده الطويل المستحيل الي خشوع بارع القسمات، أم في صلواته المديدة، كأنها سلالم تعرفه من أرض الي سموات!!!

لقد بدا له - بعد انخطاف أبيه من أمام عينيه - أن يعرض ذاته كلها - لا في زاوية بيته و حسب، بل في طول و عرض الساحات - ساجدا طويلا، و مصليا مديدا لله المتقبل السجدات و الصلوات... و ما ذلك إلا لغرضين أساسيين و بهيين:

أولا: لتراه الأمة - و هو وليها المؤمن - كيف تكون التقوي، خضوعا صادقا لله، و إيمانا به، و تلبية لدعوة النبي الكريم أمته الي واحة



[ صفحه 123]



الإسلام الذي هو خلق كريم في تهذيب النفوس و في إبعادها عن الموبقات... و ليكون الإسلام - بحد ذاته - تماديا بالمكرمات... و هل تبني - مطلق أمة - إلا بالمكرمات؟!!

و ثانيا: ليراه الحاكم ساجدا، و مصليا، و مستمطرا رحمة الله علي العباد، و غفرانا للمسيئين الخارجين عن ذمة الحق، و روعات السداد!!!

هكذا قصد الإمام أن يقوم بدوره القيادي تجاه الأمة، في عملية مباشرة تتداور خلفها توريات تنام فيها تنديدات بالحاكم المنتدب لسياسة الناس، بالحق، و العدل و الصواب... و إن تفتهم هذه المكرمات، فبئس المصير مصير الجاحدين الخائنين!!!

لم يكن أسلوب الإمام فرضا يميله الدين، أقل مما كان رأيا يمليه العقل المستجدي نعمة اليقين... و ما كان العقل - و لا مرة في علم الاجتماع - غير متوسل الي الدين بأن يبقي - أبدا - ضابطا مجتمعات الانسان في المحارم التقية الصائنة من الزيغان!!! و صدق القول: لا تبني أمة غير الفضائل!!! و لا تهدمها إلا الرذائل!!! و من أرذلها إطلاقا: الفسق، و الكذب، و الظلم الخارج من رجمة الشيطان!!!

و لكن الامام - لسوء طالع الأمة - لم يكن بمقدوره إشعال نار يكب فيها كل هذا الهشيم من العهر، و الظلم و الطغيان، مرجئا ذلك الي تمكن الأمة من وعي يباركها، و ينهض بها من استسلام حزين، الي استجمام متين يعلم الحاكم قراءة حروف الحق، و العدل، و الطهر في الأشواق البانية عظمة الإنسان في مجتمع الإنسان.

كل ما كان في مقدور الإمام، في تلك الساعة الهزيلة النبضات، عزم متين صحيح، بقي مستمرا في بنيته الروحية المنتقلة اليه عبر الجذور المتينة



[ صفحه 124]



و الممتدة من النبي الكريم و فتاه الآخر المعزز الاسم بعلي - الي أبيه جعفر الحامل الصدق، و العلم، و النور... أما أجره الباقي له في مثواه المضي ء... فنقطة سم ما قدر أن ينفحه بها في زوادة الخلود، إلا بطل صنديد، لا اسم له في النصر، إلا المنصور!

صحيح، لم يتمكن الإمام موسي الكاظم من جمع سلاح ينازل به بني العباس إلا رمحا أسيلا من معدن التقوي، له حدان طيبا الرهافة: رهافة الصلاة، و رهافة السجود!!!

لا يجوز أن نحسب أن المنصور - بالذات - و هو الخداع، و البطاش، و الكذاب، لم يستهب رمح الإمام موسي الذي نزل به الي ساحات الصراع... انه رمح التقوي، سجد به أمام المنصور، و صلي به أمام الناس... أما المنصور، فإنه تسلي به، علي خشية من ربه، جعلته يحجم عن ضرب عنق ساجد أمام خالق جبار يتمكن - وحده - من خطف الأنفاس و الأبصار... لقد ارعوي هذا الرعديد، أمام مهابة يتجلي بها تقي، أمام حقير يدعي - زورا - أنه جبار و قهار و هو أحقر مجرم علمه الكفر امتهان الله في أشرف طينة زينها الله بحيوية الإنسان!!!

أما الأمة، و هي الطينة التي نفخ الله فيها قيمة الانسان، فهي تلك التي راحت تصغي الي همس صلاة الامام الساجد، و تأخذ منها العبرة: بأن الحق هو صلاة المؤمن، و هي رجاء الي الله في جلوة النور في عدسة العين... و تمتين الصدق في المهجة، و بث الوعي في خلايا السريرة، و زرع الخلق النظيف في النفس، و في كل ما تختلج به الطوية!!!

لم يسجد عبثا الإمام موسي، و ليس عبثا - أيضا - أن يصلي... فالأمة كلها، بما فيها فاجر اسمه المنصور، بحاجة الي صلاة تستدعيها الي وعي مؤمن، تجلو به طاقاتها الروحية، الإنسانية، الاجتماعية.



[ صفحه 125]