مع المهدي
لم يجر الامام موسي مع المهدي إلا حوارا واحدا - طيلة عمره - و لو لم تكن لهذا الحوار أهمية تذكر، لما كان لهذا الكتاب تعرف الي أمير من أمراء المجون وصلت اليه عدال من المال، و الجواهر، و الذهب، لا يضبطها رقم من أرقام الحساب، جمعها رجل بطاش اسمه منصور الدوانيقي، لم يصرف منها درهما واحدا، بالنسبة الي بخله، و بطشه، و حرصه، جمعها كلها، من عهد أخيه السفاح، و من عهده في الحكم الظالم، و قد طال أكثر من عشرين سنة، و لم يخص منها أحدا سوي ابنه المهدي، فراح هذا اليها يبذرها يمينا و شمالا، في عمليات من البذخ المسرف بالخلاعة و المجون!!!
هنالك أموال مقتورة جمعها الامام جعفر الصادق، ليساعد بها الفقراء و المعوزين من أبناء الأمة الذين هم تحت رعايته الإمامية، و ارتأي المنصور - و هو صاحب العرض و الطول - مصادرة هذه الأموال المقتورة، و ضمها الي عداله التي انتقلت الي ابنه المهدي... و لكن المهدي، و هو الغريق في لحجج الثراء - طاب له استدعاء الامام موسي، ليرد اليه المال الذي صادره أبوه، و لم يرجعه اليه بعد... لقد كان المهدي مزهوا بنفسه، و هو يتكرم
[ صفحه 130]
بإرجاع مال الي من لم يجسر علي المطالبة به... و لبي الامام موسي دعوة الأمير، و ابتدأ الحوار:
المهدي: أهلا بالامام موسي... هل تدري لماذا استدعيتك؟
الإمام: أنا بين يديك يا أميرالمؤمنين - فما هي الحاجة؟
المهدي: ليست الحاجة لي... انها لك... عساها تشرح بالك!
قال المهدي ذلك، و قدم له ظرفا مختوما و هو يقول:
- أظن المال الذي صادره أبي المنصور من أبيك الصادق.
هو بكامله، و المضاعف في هذا الظرف... و إذا وجدته لا يكفي، فأنا بين يديك في تسديد ما تطلب.
تناول الامام الظرف، و أجاف بنبرة فيها كثير من التهذيب، مع وفير من الاهتمام:- أنت كريم يا سيدي - بحد ذاتك - لأنك ترد ما عليك من دون أن تطالب!...
و أجاب المهدي بنوع من تعجب:
- و لكن... يبدو انك تطالب... و لن تسوءني المطالبة... فاجعل لها رقما إذا أردت.
الإمام: ليس لي الآن أن أطالب...
و لما كنت آخذ هذه الظرف... لو أن ما فيه هو لي... انه
- يا سيدي - لبعض الفقراء... سأوزعه عليهم... علهم يخففون به بعض حاجة...
و تعجب المهدي من رجاحة وزن الامام، و اعتدل في مقعده الي جدية اخري و هو يقول:
[ صفحه 131]
- يبدو لي - أيضا - أن كل ما يتضمنه هذا الظرف لا يفي بما لك علينا من دين!!! و اعلم أنك لن تبرح هذه القاعة، ان لم تعين لي حقيقة مقصدك! و أرجو أن لا تعذبني بالمداورة... فابدأ إذا شئت...
و بعد تفكير مسؤول أجاب الإمام:
- أرجو أن تكون رحب الصدر معي، من دون أن تأخذ كلامي الي سوء لا أقصده في كل ما أراه بعيني، من دون أن تتبصر به - أنت بعينك... أتعدني بذلك حتي أبدأ؟
و رأسا أجاب المهدي:
- أعدك، فلا تتخوف مني - و ابدأ.
رمقه الامام بعين وادعة، و لكنها بعيدة المغزي... و طرح السؤال التمهيدي:
- أتسمع يا سيدي بقطعة أرض اسمها فدك؟
و بعد تأمل طال قليلا ايجاب:
- انها في الحجاز... أليست هي التي تنازل عنها اليهود، و نحلوها لجدنا الرسول؟...
الامام: انها بالذات - ألم تصر ملكا للرسول؟
و اكتفي المهدي باختصار الجواب:
- فليكن!!!
و أدرك الإمام ان في الجواب المبتور، بعض استفهام، و بعض تبرم، و لكنه بقي في تمادي السؤال:
- هل بإمكانك تعيين ثمنها؟
[ صفحه 132]
و علي ذات الوتيرة أجاب المهدي:
- لك أنت أن تعينه، فأقول لك: قدقت.
و أجاب الإمام:
- لا أحسبني أضبط قيمة الثمن... و لكني أكتفي الآن بتعيين الحدود... فهل تتمكن أيها السيد من تعيين هذه الحدود؟!!
و بتأفف ظاهر أجاب المهدي قائلا:
- حددها أنت اذا تعرف!!!
و بثقة العارف أجاب الإمام:
- و انني أعرف...
حد منها... جبل أحد...
و حد منها... عريش مصر...
و حد منها... سيف البحر...
و حد منها... دومة الجندل...
و انفتل المهدي نحو الامام... و بجدية صارمة أجاب:
و لكنها حدود أمة الإسلام!!!
لا حدود تربة في الحجاز!!!
ماذا تقصد؟!!
و بكل هدوء، و كل روية، أجاب الإمام:
- أقصد: أن قرية صغيرة في الحجاز، تحتوي علي خمسماية نخلة، أصبحت ملك جدنا، نبي الإسلام،
[ صفحه 133]
و رسول أمة الإسلام... و لقد ضمها جهاد الرسول الي أرض الأمة التي هي أمة الاسلام... فأصبحت حدودها حدود الأمة بالذات... و ها أننا نطالب الآن بفدك التي هي إرثنا من جدنا... فردوها إلينا، كما تردون الآن مالا صادره من أبي أبوك المنصور!!!
و بقي المهدي علي ذات الوتيرة من التأفف و التعجب و تابع السؤال:
- و ماذا تبغي في ردها اليكم - و هي الآن بين أيدينا؟!!
أنكون - نحن - قد صادرناها؟!! و هل تكون الأمة المال المصادر؟!!
و بكل جدية، و جرأة، و اتزان، أجاب الإمام سريعا، و صريحا:
- أجل... لقد أصبت يا سيدي...
و ماذا يمنع؟ أن تكون الأمة - إذ تصادر - كالمال المصادر... و المصادرة معناها: من يصادر مالي، يكون قد أبعد عني كل الفوائد العائدة منه إلي... و لو لا الفوائد، لما أجهدت نفسي بجمع المال...
و إن من يصادر أمتي، يكون قد أبعدها عن إحراز ما ينحو بها الي حق و جمال!!! و الاحراز هذا هو توق النبي ممزوجا بتوق أمتي التي تبنيني لأبنيها - بدوري - بذات الشوق الذي ترزقه - هي - في تصاميمي!!!
ان جدنا العظيم - يا نسيبي - هو الذي خص عليا منا، يمحض الأمة بالرعاية الموجهة بآيات القرآن، و هي الموصلتها الي حقيقتها المبتغاة... فليعد الي خط علي
[ صفحه 134]
حق الرعاية!!! و لتلتغ المصادرات المبعدة الأمة عن منهجيات الصراط!!!
لقد اسمتع المهدي - بإصغاء عميق - الي كل ما تفوه به الامام الذي نسي نفسه انه بين يدي رجل يخلف المنصور... و بقي المهدي - هكذا - صامتا و متأملا، الي أن تلقاه الإمام بهذا الرجاء:
- أنا ما قصدت أن أسي ء إليك، و لا أن أكذب بين يديك... ولي كلمة أخيرة أحبها تملأ سمعيك:
نحن - أبتداء بجدي الامام زين العابدين - و جدي الامام الباقر - و أبي الامام جعفر الصادق - وصولا الي أنا الجالس الآن بين يديك... تعهدنا، بتمام عزمنا، و رضانا... تنازلا عن كل ما يمت بصلة الي السياسة، و تركها للخلافة، و أنتم - اليوم - أولياؤها - و اكتفينا بالخط العلمي، لإنارة الأمة، و توسيع مداركها، مع رجاء منا، نقدمه اليكم، و هو الملي ء بالحب، و التمني، و نقول:
لستم غرباء عن الأمة، فأنتم من صلبها حتي الجذور... حاولوا أن لا تكونوا مصادرين، بل منبثقين من حقيقة الأم... و لن تكونوا حاكمين صالحين، ما لم تكونوا عادلين، و أتقياء بارزين، و طاهرين عفيفين، و صادقين بريئين... و عندئذ فنعم الأمة أمتكم، أن تكونوا - هكذا - مخلصين!!!
أتسمح لي الآن بالانصراف يا سيدي؟!!
تأمله المهدي مليا، و هو واقف مادا اليه يده، ليقول:
- أرجو أن لا يصادرك الغد بأي مكروه!!!
[ صفحه 135]