بازگشت

مقدمة


بقلم الدكتور غالب غانم

منذ أن كنت في اليافع و الغض و المتوثب عمرا و ذهنا و توقا إلي المعارف في ألوانها و معارجها جميعا، أتاحت لي الحياة، برضي و مباركة من العلي العظيم، فرص الاحتكاك باضمامة من حملة الاقلام المنورين، المتوزعين بين ذوي قربي و ذوي ود، أو المنتمين في آن إلي أسرتي القربي و الود انتماء يزيد العلائق صفاء و رسوخا... و كان صاحب الأثر الذي أقدم له الآن أحد هؤلاء الأعزاء الذين تسني لي، بفعل القربي و التقرب، ان امتع النفس بالتردد إلي مجالسهم، لأشهد كيف يتحدث الحكماء، و يحلم الراؤون، و تنز أقلام الموهوبين الصادقين حبرا لا يخون مصدرين - إذا خانمها كان الكلام باهتا و خاويا - هما القلب و العقل، بما لدي الأول من شهقات، و بما لدي الثاني من إشراقات.

و ليس نافلا أن أذكر، في هذا المطاف، أنني و الكاتب الاستاذ سليمان كتاني من تلك الغالية العالية في المركز الطبيعي و الحضاري، المطلقة إلي عوالم الابداع علما بعد علم، المنفتحة علي الدنيا لأن صدرها غير ضيق الأنفاس، المتفاعلة مع كل دعوة أبواقها صوت الحق و آفاقها مروج الخير... إنها مدينتنا الصغيرة الكبيرة بسكنتا، مسقط الرأس و حاضنة تراب السلف و المؤتمنة علي أحلام الخلف، ابنة الجيل اللبناني في موقعها



[ صفحه 12]



العصي، و ابنة الموجات الحضارية في جنان طبيعتها و مران تجربتها و ليان فكرها و بيان اهلها.

من هذه الأرض ذات المناعات، و ذات الغني و الجمال في المتجلي من مشاهدها الخارجية و في المختمر من كنوز العقل و مخابي ء العمق بين ظهرانيها، يقبل المرء علي الكتابة منطلقا مما زودته به البيئة، فلا يبدأ من فراغ، و لا يكون عليه إلا اعتصار الموهبة حتي يتظافر الخاص اللصيق بقدرات الفرد و العام الآتي من جهة المجتمع، لتوليد الأعمال الأدبية و الفكرية السوية.

و من هذه الأرض ذاتها، أقبل سليمان كتاني علي الكتابة غير مكتف بالعطاء الرباني و بالجهد الفردي توسيعا للثقافة و تفريعا لطرق الوصول إلي مواردها، لأنه أدرك ما للمجتمع من أثر في تكوين الريشة و تلوينها و تحصينها. و المجتمع، بمعيار هذا الكاتب و بمطامحه، لم يعد أرضه الجبلية الجميلة و حسب - و إن لازمها طوال العمر - بل صار كل المباسط و الأمداء التي رحبت و تنوعت و لكنها توحدت و انضمت بعضا إلي بعض تشدها أمراس من حضارات لا تنقطع، و يؤجج نارها، كلما باتت علي مشارف استكانة أو خذلان، فرسان صهواتهم رياح الحقيقة و التقي، و المثابرة الصبر، و الايمان و الوجدان الشفيف، و الكفر و النور المشع من الداخل الصغير إلي الخارج الكبير، كمثل فارس هذا الكتاب، «الإمام المقهور الشعاع». كل ذلك مع تذكير آخر يدعو إلي الغبطة و لو في قلب المآسي، و هو أن الشعاع يظل شعاعا و أن قهر إلي حين، و الإمام يظل «إماما» و إن تعثر مسراه، إلي حين أيضا، بظلامات أسياف تجور، أو ببهلوانيات سيافين حملتهم ألاعيبهم إلي الشرود بعيدا عن حقول الجمال، و شلالات النور.



[ صفحه 13]



يقع الكتاب، فضلا عما فيه من مداخل و خواتيم، في أطر أربعة متجانسة متماسكة تتدرج من الاصول إلي الفروع، بعد أن ارتسمت معالمها بفضل اليد الخبيرة المتمكنة من علم و فن مغلفين لأغلفة الروح.

الإطار الأول منها يعود إلي الجذور، منذ أن كانت الجزيرة العربية، و الأمة، تشهدان «الأمين محمدا» في رحلاته بين يثرب و الشام، «يأتي بما تنتجه الرمول، و يعود بما تنتجه الحقول»... حتي تفتق الرسالة العظيمة و توهجها... مع لمحات عن الطالبيين، و الإمام علي، «و الطوق الإمامي البالغ الاثني عشر»، و بني امية، و الامامة علي العموم، و الإمامة المثلثة علي الخصوص (علي بن زين العابدين، محمد الباقر، جعفر الصادق)....

وصولا إلي خط علمي شقه الأئمة، و إلي جامعة أنشأوها في المسجد حتي «لا تقفل بوابته ابدا»، و حتي يكون المصلي و الموئل الفكري في آن.

و الإطار الثاني الموسوم «موسي بن جعفر» يكشف النقاب عن الصفحات الأولي من حياة سابع الأئمة، منذ أن كان جنينا في «عزلته الممتصة كل لواعج ابيه، و كل لواعج أمه». و صاحب الأثر هو من القائلين عن حق «بأن الطفل - و هو في بطن أمه - لابد أنه المصغي - بإذن ذاته الجنينية - إلي كل دفقة يدفق بها لب أبيه، و إلي كل نأمة تنأم بها حشاشة أمه، و هي كلها التي ستنزل مسجلة - كالحفر - في لوحة صدره، و سيثغثغ بها لسانه إذ يجدها أمامه في حقيقتها، بعد أن يهبط إلي الصفحة التي تستدعيه إلي الهبوط!» ثم تكر الأيام، و يسلم الإمام الصادق الأب - قبل رحيل تسبب به السلطان - الأمانة للإمام الابن في خاتمة حوار جال في التاريخ - علي مراراته - جولته في الغد المعقود اللواء لذوي العلم، و النصاعة، و المواثيق الوفية.

و للإطار الثالث عنوان هو «الإمام موسي الكاظم»، و مضمون كثرت فيه المعاني الضاربة في عمق أعماق الأمة.



[ صفحه 14]



أما الامة - يقول «و هي الطينة التي نفخ الله فيها قيمة الإنسان، فهي تلك التي راحت تصغي إلي همس صلاة الإمام الساجد، و تأخذ منها العبرة: بأن الحق هو صلاة المؤمن، و هي رجاء إلي الله في جلوة النور في عدسة العين - و تمتين الصدق في المهجة، و بث الوعي في خلايا السريرة، و زرع الخلق النظيف في النفس، و في كل ما تختلج به الطوية!»

و بين الأمة و الرسالة و شائج كان الكاتب قد ألمح إلي بعضها في الإطار الأول، حين قال عن الرسالة: «... و لكن الإلهام لا يريدها أن تكون كالهيولي - مجرد وهم، و مجرد خيال، بل حقيقة تجسيد للفكر في كيان من تراب - يبقي ترابا إن لم تخفق فيه نجاوي الروح فتجعله إنسانا، تحيا به أمة يخلد بها الله الذي هو القيمة المزروعة في مهجة الإنسان».

و في هذا الإطار أيضا عرض لوجوه العلاقة بين الإمام المبحر في العلم من نحو، و خلفاء عباسيين من نحو مقابل، آخرهم هارون الرشيد الذي، عندما جاهره التقي النقي بالحقيقة، ردها إليه رطبا مسمومة أودت بحياته في الخامسة و الخمسين.

و للإطار الرابع المعنون «بعد الغياب» جولة في تراث الإمام الفكري - الروحي - الاجتماعي، و أضواء ملقاة علي رسائله، و تأملاته في العقل، و التوحيد، و الايمان بالله، و العلم، و العمل، و مكارم الأخلاق، و سواها... و جولة أخري في ألقابه و تأثره. و تصوير لأحداث الأيام الثلاثة التي شهدت طرح جثمانه فوق جسر الرصافة في بغداد، حيث كان «دجلة الخصب» - كما جاء في الخاتمة - يمر تحت القناطر، بينما الإمام، «دجلة الحق»، ينهمر علي النفوس العطشي بدفقات المكارم.

إن في الكتاب، كما تبدي من عرض خطوطه الكبري، و كما يستبين أكثر و أكثر لدي الغوص علي الدقائق كلها، غني «موضوعيا ينقل القاري ء إلي



[ صفحه 15]



وليمة بسطت فيها طوالع الهدي، و ألوان الفكر، و عبر التاريخ، و سير الصادقين، و آمال التواقين إلي الأنقي، و الأبقي، و الأكثر صلاحا و خيرا. و لا غرابة في ان تتدفق الحقائق و الخواطر، لدي الطارقين بابا كالباب الذي طرقه الاستاذ سليمان كتاني، تدفق الينبوع الذي لا يبخل بذاته ليروي العطاش، و يوسع دائرة الجمال. ذلك أن شجرة الإسلام، هي من العمق، و البعد، و الظل الظليل، - و قل الضوء البهي - ما يجعل الكلام علي أي فرع من فروعها كلاما» كثير الزهر ثم كثير الثمر. فكيف إذا كان هذا الفرع طالبيا، أو خطا بيانيا، يتتبع حلقات الأئمة حلقة حلقة، منذ الأول ذي الحكمة الجلي و قبضة الخير و الكرامة، الفتي / السيف و السيف الناطق نقط الحق... حتي السابع موضوع هذا الكتاب، و هو الصابر علي الظلم، و الكاظم الغيظ في دخيلة نفسه، برهانا علي التقي، و الكبر، و هدوء النفس، و ذو النفس الزكية.

و باب الحوائج، علي ما جاء في بعض ألقابه المعالجة في الكتاب... و انتهاء إلي آخر السلسلة الطاهرة، الحاملة أثقال الظالمين، و المعانية من أسي ما بعده أسي، و المصممة علي الوصول إلي منتهي ما ينشده المؤمنون من أشواق، بفعل تحويل حجارة المأساة إلي صخرة تبني عليها قلاع الحقيقة.

و في عودة إلي صاحب الأثر، العزيز الاستاذ سليمان، و لأقل «الخال سليمان» كما أناديه في الغالب لأن قرابتنا هي من جهة الأمومة - علما بأن القرابة الأصلية فيما بيننا هي من جهة الانحياز إلي الحقيقة -... في عودة إليه، أنوه بطائفة من الميزات رافقت مراميه الفكرية، و نمطه الاسلوبي، و منهجه الكتابي.

من ذلك أنه بات ممن يركن اليهم في مثل هذا اللون من ألوان التأليف



[ صفحه 16]



الطوافة في التاريخ الاسلامي، و في سير أهل البيت و مسارهم. و ما ذلك إلا لأنه فتح صفحة بهية من صفحات ذلك التاريخ الثر عبر كتابه الأول الذي سماه «الإمام علي بن أبي طالب - نبراس و متراس»، فانطلق من القفزة الأولي، ثم كرت السبحة علي المماثل أو المنافس أو المكمل من العطاءات الأخري.

و من ذلك أنه لم يكتف باستنطاق الأحداث لإعادة صوغها صوغا «حياديا»، أو باهتا، بل سكب في أعراقها من تطلعاته الفكرية، و حملها قسطا من همومه الاجتماعية و الانسانية تجلي بشكل لافت في نظراته إلي الأمة التي ينبغي أن تدفع «من هيضة سفلي إلي رتبة فضلي»، و البانية ذاتها «ببيكار أبجدي»، و التي هي الإمامة «و الأم الحانية الصدر علي جميع أبنائها»، و الجزيرة العربية «المتفاعلة مع كل امتداداتها إلي كل جوار».

و من ذلك أنه واجد لديه عناقا مثاليا بين مقتضي العقل، و مقتضي الوجدان، من سطور البداية حتي سطور النهاية في الكتاب. و إنها بالفعل لميزة لافتة، أن ينقل إليك الكاتب أفكاره فيستهويك منه رجحان عقلي، كما تستهويك اندفاعات وجدان تجعل الوليمة العقلية المبسوطة أشد جاذبية و أطيب مذاقا.

و من ذلك، أخيرا، أن له في عالم الاساليب الأدبية نسيجا خاصا، مزهرا بالبيان، معمقا بالتأمل، نبضا بالحركة و الحياة.

و ما أكرم هذا الاثر، سواء اشتق النعت من كرامة الإمام الذي زينه باسمه، أو من كرم الكاتب الذي جعل الكلام دفاقا عن عمق و حق، احتفاء و وفاء، و مشاركة في تكريم الخط الموسوي المبارك بين خطوط الإمامة، و في رحاب الأمة.

غالب غانم



[ صفحه 17]